عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
الصداقة بين شيشرون والتوحيدى صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الاثنين, 28 مايو 2018 01:38

الصداقة بين شيشرون والتوحيدى

(دراسة مقارنة)

أ.د. حامد طاهر()

 

تعدّ الصداقة من أرقى المشاعر النفسية، وأنبل العلاقات الاجتماعية التى تنشأ وتتطور وقد تستمر بين الأفراد. وغالبًا ما تكون بين اثنين أو اكثر، حيث يتكون منهما، أو منهم ، دائرة من المحبة والمودة والتناصح والتضحية والفداء، إلى جانب المرح والتسامح والتهادى. والملاحظ بالتجربة أن الصداقة لا تنشأ عادة إلا بين شخصيْن متشابهيْن فى طبائعهم وأمزجتهم وآرائهم فى شئون الحياة، ومنها السياسية والاقتصادية والثقافية. كذلك يلاحظ أن الصداقة تكاد تقتصر فى الغالب على الرجال، أما النساء فقلما تتواصل بينهما صداقة، لأن الحسد والغيرة والتنافس كثيرا ما تتدخل لفصم عراها، كما أن أدبيات الصداقة تكاد تخلو من النماذج التى يمكن الاعتماد عليها فى هذا الصدد. وبالطبع حين تقدم الصداقة بين الرجل وامرأة فإنها غالبًا ما تذهب إلى الحب، الذى هو فى جانب كبير منه غريزة تنمو وتزدهر، ثم ما تلبث أن تذيل وتموت.

 

لا يكاد يوجد أنسان مدنى يخلو من الصداقة. فهى السند الذى يجعله يتحمل مصاعب الحياة، والصدر الحنون الذى يمكنه أن يبوح له بما بخفيه عن الآخرين وهى التى توفر له التواصل الحميم مع شخص يشبهه تقريبًا فى كل شىء.

 

لكن الصداقة كأى علاقة انسانية صحيحة تصاب ببعض الأمراض العارضة أو الفتاكة. فليس هناك الصديق الكامل الأوصاف، أى الذى ترضى سجاياه كلها. ولذلك يظل أحد الصديقين يتحمل بعض العيوب الصغيرة من صديقه حتى يتمتع بجوهر الصداقة الثمين، لكن الصديق قد يخون صديقه، وهنا تكون المأساة فادحة. والسبب فى ذلك أن الصديق الذى تتم خيانته ينتقل فجأة من الضد إلى الضد. وصعوبة هذا الانتقال لا تتصل بالعقل الذى يستطيع أن يستوعب الأمور، ويقبل المعاذير، وإنما بالعاطفة الحساسة التى تسحقها المفاجأة غير المتوقعة، فلا تقدر على المواصلة، ولا يبقى أمامها سوى طريق واحد، هو القطيعة والهرب.

 

إن الصداقة موضوع هام تناولته معظم الآداب العالمية فى مجالات الشعر والرواية والمسرحية. وقد حظيت فى بعض الآداب بمؤلفات تحليلية، رصدت نشأتها، واستمرارها، ومظاهر روعتها، كما تحدثت بمرارة عن أمراضها، وعوامل ضمورها، ووضعت أخيرًا الزهور على قبرها!

 

ومن بين أبرز ما ورد إلينا من مؤلفات تحليلية وأدبية عن الصداقة: ذلك الكتاب الهام الذى ألفه الخطيب الأشهر الرومانى شيشرون، والكتاب الآخر الذى وضعه الكاتب والأديب العربى الكبير أبو حيان التوحيدى. والكتابان بينهما حوالى ألف عام. وكل منهما ينتمى إلى ثقافة كبرى؛ لها خصوصيتها ومصادرها التى استمدت منها.

 

وبالنسبة إلى شيشرون الرومانى، فقد استطاع أن يستوعب الفكر الإغريقى، وأن يفيد من مفكريه وفلاسفته، ثم راح يعرض آراءه باللغة اللاتينية التى كانت سائدة فى أوربا كلها، أما التوحيدى العربى فقد استمد ثقافته من التراث الإسلامى بالإضافة إلى منتخبات مختارة من التراث اليونانى، والفارسى، والهندى.

 

وإذا كان كتاب شيشرون (عن الصداقة) يغلب عليه النثر الفنى البليغ الذى تميز به، فإن التوحيدى قدم فى كتابه (الصداقة والصديق) الكثير جدا من الشعر العربى الذى يتعلق بموضوع الصداقة فى كل تجلياتها ومظاهرها.

 

وقد أتيحت لى – من خلال فترة استرجاع تجارب الصداقات فى حياتى – أن أقوم بقراءة هذين الكتابيْن الهاميْن، وأن أعيش مع كل منهما فترة من الوقت، خرجت منها بالكثير من صنوف الحكمة، التى وجدت أنها ربما تفيد غيرى كما أفادتنى، بل وربما ساعدت غيرى ببعض النصائح الذهبية كما زودتنى.

 

مشروعية المقارنة:

 

اهتم كل من المفكريْن الرومانى والعربى بموضوع الصداقة، وأفرد له كتابًا خاصا، فصّل فيه القول عن منشأ الصداقة، وماهيتها، وعوامل استمرارها، وحدوث القطيعة فيها، وأسبابها، كما فرّق بين الصداقة الحقيقية والصداقة الزائفة، ودور كل من المنفعة والتملق فى فصم عربى الصداقة، مع الإشارات إلى كثير من رقائق الصداقة، وتأكيد أهميتها فى حياة الإنسان.

 

ومع أن شيشرون كاتب رومانى عاش فى القرن الأول قبل الميلاد، والتوحيدى كاتب عربى – إسلامى عاش فى القرن العاشر الميلادى، فإن الصلة بين أفكارهما حول الصداقة تتشابه فى كثير من النقاط. وهذا ما أود التركيز عليه فى مسيرة الفكر الإنسانى، حتى ولو لم يكن بين الاثنين علاقة تأثير وتأثرت من الناحية التاريخية – وذلك لأننى من المقتنعين بأن أى مفكر إذا بحث موضوعًا عامًا، وتعمق فيه دون أن يتحيز لرأى مسبق أو اتجاه خاص يمكنه أن يتواصل مع مفكرين آخرين قاموا بنفس العمل، على نفس النحو، ولو كان فى أى مكان بالعالم، انطلاقًا من وحدة العقل الإنسانى الذى هو أعظم نعمة وهبها الله، تعالى، للإنسان.

 

أما شيشرون، فقد استطاع أن يستصغى لنفسه، وللرومان – الكثير من أفكار فلاسفة الإغريق كما تميز فى حسن عرضها بلغة لاتينية ذات مستوى عال من اليلاغة، أصبحت فيما بعد هى النموذج الكلاسيكى للنثر الفنى الخالص فى أوربا كلها.

 

وأما التوحيدى فإن مؤلفاته تعتبر مرآة صادقة للحياة الثقافية التى سادت فى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، خلال القرن الرابع الهجرى- العاشر الميلادى، وهى ثقافة موسوعية متنوعة تتناول مختلف الموضوعات اللغوية والأدبية والفلسفية والصوفية، كما أنها تتعرض تقريبا لكل طوائف المجتمع بدءًا من دائرة الوزراء وكبار المسئولين حتى الفقراء والمساكين. أما لغته فكانت وما زالت من أنصع ما عرفته العربية من بيان ودقة ووضوح.

 

إذن حوالى عشرة قرون تفصل بين المفكر الرومانى والمفكر العربى، ومع ذلك فإنهما يحلقان كالنسور فى نفس الأجواء، ويسقطان بأسلوبين متقاربين على صيدهما المفضل. وهما حين يتناولان موضوع الصداقة الخالد – يتركان للأجيال اللاحقة من بعدهما صفحتين ناصعتيْن من صفحات الفكر الإنسانى، يتكاملان ولا يتناقضان، بل إنهما فى كثير من الأحيان يتطابقان .

 

الصداقة فى اللغتين اللاتينية والعربية :

 

أ-فى اللاتينية :


كلمة (amicitis) تعنى صداقة، وهى العلاقة الحميمة الطيبة بين الأفراد والأمم، كما تعنى الارتباط والتوافق، وهى مشتقة من كلمة (amor) التى تعنى الحب. وهذا يدل على أن الصداقة نابعة من الحب ومرتبطة به.

ومن الأقوال اللاتينية الشهيرة – قبل وبعد شيشرون :

-كلما كان الصديق قديما كان أفضل.

-امتلاك الأصدقاء يعتبر فى حد ذاته ثروة .

-ينبغى غزل الصداقة، وعدم نقضها.

-كلمة صديق مستهلكة، لكن الصداقة المخلصة نادرة.

-لا ينبغى البحث عن الأصدقاء فى السوق، ولا فى البرلمان.

-إذا اصطنعت أصدقاء جددا ، فلا تنس القدامى.

-الأصدقاء هم سارقو الوقت.

-البحث عن صديق يستغرق وقتا طويلا، وفقدانه يحدث فى لحظة.

-صديق الجميع ليس صديقا لأحد.

-مهما اعتذرت لعدوك، فإنك لن تجعل منه صديقا.

-الصديق الحقيقى هو الصديق وقت الشدة.

 

ب-فى اللغة العربية:


جاء فى المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة تعريف الصداقة بأنها: علاقة مودة ومحبة بين الأصدقاء. وهو تعريف معيب من الناحية المنطقية، لأن التعريف لا ينبغى أن يتضمن كلمة واحدة من المعرّف. وقد عرّف الصديق بأنه : الصاحب الصادق الود. وهذا تعريف جيد. والجمع أصدقاء.

 

ومما يرتبط بوصف الصديق: الصدّيق، أى الدائم التصديق، والمبالغ فى الصدق، والذى يصدّق قوله بالعمل- وقد وصف القرآن الكريم إبراهيم، عليه السلام، بأنه صدّيق، كما أصبح هذا الوصف مرتبطا بأبى بكر، t ، أول من آمن من أصحاب الرسول، r ، ورفيقه فى الهجرة، وأول خليفة للمسلمين من بعده. وعموما فإن المادة اللغوية (ص د ق) ترجع إلى الصدق، وهو مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، والصلابة، والشدة، والأمر الصالح لا شبهة فيه من نقص أو كذب.

 

ومن أبرز الأقوال المشهورة عن الصديق فى العربية:


-ورد فى القرآن الكريم عن المشرك فى الجحيم (فما له من شافعين. ولا صديق حميم) [سورة الشعراء، آية 101] دلالة على العقاب الشديد.


-قال أبو حاتم السجستانى، أستاذ التوحيدى :


إذا مات لى صديق سقط منى عضو !

-قال أعرابى : الغريب : من لم يكن له حبيب .


-قال على بن أبى طالب : قليل للصديق الوقوف على قبره.


-قال ميمون بن مهران : صديق لا تنفعك حياته: لا يضرك موته.


-وقال ابن أبى دؤاد :صديق عدوك : حربك !


-قال الخليل بن أحمد : الرجل بلا صديق ، كاليمين بلا شمال.


-قال إبراهيم بن أدهم : أنا منذ عشرين سنة فى طلب أخ.


إذا غضب لم يقل إلا الحق، فما أجده.


-قيل لروح بن زنباع : ما معنى الصديق؟ قال : لفظ بلا معنى.

 

 

من هو شيشرون؟


هو الكاتب والفيلسوف وخطيب روما الأشهر.

ولد سنة (106) ق.م. ومات مقتولا سنة (43) ق.م .

أى أن حياته كلها لم تزد عن (63) عاما فقط.

 

ومع ذلك، ترك ثروة سياسية وقانونية ضخمة، وصلتنا معظمها باللغة اللاتينية الكلاسيكية الممتازة.

 

وفى مجال السياسة، ظل تأثيره فى كل مفكرى أوربا حتى القرن التاسع عشر.

أما فى مجال القانون فقد كان خطيبًا مقوّها، اعترف الجميع بعبقريته.

 

وفوق هذا وذاك، كان فيلسوفا ، تأثر بالمذهب الرواقى الإغريقى، وبعدد آخر من فلاسفة اليونان، وكان هو الجسر الذى انتقلت من خلاله الفلسفة الإغريقية إلى أوربا .


يعد مبدع النثر الفنى فى اللغة اللاتينية .

 

وقد عمل بالسياسة، لكنه احترق بنارها، وكان مصرعه على أيدى حزب سياسى معارض لأفكاره .

 

 

من أقواله :


-لا يمكن لأحد أن يعطيك نصيحه حكيمة : أكثر من نفسك.


-يحاسب على النصيحة بنتيجتها، وليس بنيتها.


--الكاذب لا يصدق، ولو قال صدقا.


-البلاغة هى الضوء الذى يجعل الذكاء يلمع


-بحسن التقدير نجعل الآخرين من ممتلكاتنا الخاصة.


-سلّمْ قاربك للأمواج، ولا تسلم قلبك للنساء،


فالبحر أقل غدرًا من المرأة .


-لست آسف إلا لأننى لا أملك سوى حياة واحدة.


أضحّى بها فى سبيل الوطن.


-القتلة لا يبحثون عن فلسفة، بل يبحثون عن أجورهم.


-وبعض الوقت لأصدقائك، وبعضه لأهلك، وبعض الهدوء لنفسك،


وبعد ذلك لا تخفْ على مستقبلك.


-من لا يقرأ التاريخ يظل – إن طال عمره – طفلا صغيرا.


-فى الحرب تصمت القوانين .

 

 

أبو حيان التوحيدى:


يعتبر أبو حيان التوحيدى من أهم أعلام الثقافة العربية والإسلامية. عاش فى القرن الرابع الهجرى = العاشر الميلادى، وملأت مؤلفاته النصف الثانى من ذلك القرن، وأصبح مقروءًا من معظم المثقفين فى عصره، سواء كانوا من كبار المسئولين فى الدولة، أو من عامة الشعب.

 

عاش فقيرًا مهجورًا، ومات مفردًا مسكينا، ولم يقف المؤرخون على تاريخ مولده أو وفاته. ويقال إنه انهى حياته البائسة بإحراق عدد من مؤلفاته. والعجيب أنه على الرغم من تأثيره فى معاصريه فلم يتنبه المجتمع للأخذ بيديه لكى يواصل مسيرته العلمية والتثقيفية، بل والتنويرية الرائعة.

 

كتب التوحيدى فى دقائق اللغة العربية، والعلاقات الثقافية مع الأمم الأخرى، وألف كتبا أصيلة فى موضوعات أخلاقية ونفسية وفلسفية، وكان له أسلوب متميز من حيث نصاعة بيانه العربى، وقوة حجته فى عرض قضاياه، وأهم من ذلك كله : تسجيله الأمين والرائع للحياة الثقافية التى كانت تموج بها عاصمة الخلافة بغداد فى القرن الرابع الهجرى.

 

ومن أشهر مؤلفاته كتاب (الامتاع والمؤانسة) وكتاب (البصائر والذخائر) وكتاب (الهوامل والشوامل) ثم الكتاب الفريد من نوعه بعنوان (الصداقه والصديق) ويرجع الفضل فى ازالة الغبار عنه فى العصر الحديث إلى كل من أحمد أمين، والسيد أحمد صقر، وعبد الرحمن بدوى الذين نشروا وحققوا عددًا من مؤلفاته التى يقال انها بلغت العشرين كتابا.

 

 

ومن أقواله :


-اقرع إلى الله بالاستخارة، وإلى الثقاة بالاستشارة .


-الذى يتجرد من الدين هو أفقر من كل موسر.


-ما وهب الله العقل لأحد إلا وقد أجلاه بالعلم، ودعاه إلى العمل.


-تجارب المتقدمين مرايا المتأخرين.


-رجال السياسة أمورهم تجرى على الهوى والغريزة.


-الرعية وديعة الله عند سلطانها.


-منابع الفساد ومنابت التغليظ كلها من الحاشية .


-لم يعد هناك صديق، ولا من يتشبه بصديق !


-ركب كل هواه، وليس لأحد فكر فى عقباه.


-الاختلاف إذا عرض خفى موضع الاتفاق.


-العلم والعمل هما حّدا الفلسفة.


-التقليد عدو العقل.


-الألفاظ وسائط بين الناطق والسامع.


-أحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه وتلألأ رونفه.


-عيب الغنى أنه يورث البلادة، وفضيلة الفكر أنه يورث الحيلة.

 

 

ظروف تأليف الكتابين :


أ-كتاب (عن الصداقة) لشيشرون

 

على غرار أفلاطون فى مؤلفاته، التى استخدم فيها أسلوب الحوار بين سقراط وتلاميذه، وكان هو الراوى – قام شيشرون فى هذا الكتاب بدور الراوى، أما المتحدث الرئيس فكان هو صديقه (لايلبوس) الذى كان قد توفى أعز أصدقائه (سكبيو). ويذكر شيشرون أن اثنين من الأصدقاء الحميميين حضرا إلى منزل (لايليوس) وراحا يسألان وهو يجيب.

 

أما إهداء الكتاب، فكان موجها لصديق شيشرون العزيز (أيتكوس) اعترافا بفضله، خاصة وأنه كان يحث المؤلف دائما على الكتابة فى موضوع الصداقة، ويؤكد له مدى جدارة الموضوع بالدراسة فى حد ذاته من ناحية، ومحاولة لتتويج صداقتهما الوثيقة من ناحية أخرى. ويذكر شيشرون أنه سوف يرى فى هذا الحديث صورة لشخصه. [انظر العرض القيم لكتاب (عن الصداقة) لشيشرون، للدكتور أحمد عبد الرحيم أبو زيد – ضمن سلسلة : تراث الإنسانية، والذى أعادت طبعة مكتبة الأسرة].

 

ب-كتاب (الصداقة والصديق) للتوحيدى:


يقول فى مطلعه : "سمع منى فى وقت بمدينة السلام : بغداد ، كلام فى الصداقة والعشرة والمؤاخاة والألفة، وما يلحق بها من الرعاية والحفاظ والوفاء والمساعدة والنصيحة والبذل والمواساة والجود والكرم- مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفى أثره عند العام والخاص. وسئلت إثباته (تدوينه) ففعلت، ووصلت ذلك بجملة مما قال أهل الفضل والحكمة وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها، وينتفع بها فى المعاش والمعاد" (الصداقة والصديق الصفحة الأولى).

 

الدافعان للتأليف فى الصداقة إذن متشابهان. فكل منهما طلب منه أن يكتب فى الموضوع، وبالطبع تأتى الاستجابة موحدة وسريعة. فالطلب من المحيطين بالمؤلف تقابله الرغبة لديه فى الكتابة. لكن الأمر ما يلبث أن يختلف بعد ذلك بالنسبة إلى التوحيدى، الذى كانت ظروفه النفسية والاجتماعية صعبة للغاية. فبينما كتب شيشرون عن الصداقة وهو فى بحبوحة من العيش، وبين ثلة من الأصدقاء الحميميين، نجد التوحيدى يكتب عن الصداقة وهو فقير معوز، ليس من المال فقط، وإنما أيضا من الأصدقاء الحقيقيين . يقول :

 

"ومن العجب أنا كتبنا هذه الحروف على ما فى النفس من الحرق والأسف والحسرة والغيظ والكمد والوقد (شدة حر الليل)، ولأنى فقدت كل مؤنس وصاحب ومرفق ومشفق.. فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادًا للصمت، ملازما للحيرة، محتملاً للأذى، يانسًا من جميع ما ترى، متوقعا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول (الصداقة والصديق ص8، 9) .

 

ومن المؤكد أن ينعكس هذا المزاج المختلف لكلا الكاتبين على انتاجها. حيث يشيع الأمل والتفاؤل فى نظرة شيشرون إلى الصداقة، بينما تتسع نظرة التوحيدى لتسجل الكثير من الجوانب السودادية فى مجال الصداقة والأصدقاء.

 

 

منهج المفكريْن فى كتابيهما :

 

 

أولاً : منهج شيشرون :


لا شك أن شيشرون قد استفاد كثيرا من قراءة واستيعاب الفكر الإغريقى، وكان من أهم سمات إفادته هو الترتيب المنطقى والمنهجى لعناصر الموضوع الذى يتناوله، بحيث يلم به فى معظم، إن لم يكن فى جميع تفصيلاته.

 

وهو بعد أن يذكر سبب تأليف الكتاب، وظروفه، يعرض لمفهوم الصداقة، ويؤكد أن الصداقة الحقيقية هى التى تقوم بين الأخيار، على أساس الفضيلة، ثم يفرق بين الصداقة والقرابة، ويستخلص الصداقة من دوافع أخرى تشغل اهتمامات الناس مثل : الثروة، والصحة، والنفوذ، والجاه، واللذة. ويفرق تفرقة دقيقة بين الصداقة الحقة والصداقة الزائفة، ثم يتطرق إلى العوامل التى تؤدى إلى فشل الصداقة، والمطالب المشروعة وغير المشروعة التى يمكن طلبها من الصديق، وهذا يؤدى إلى بيان حدود الصداقة، والصفات التى ينبغى توافرها فى الصديق، وماذا يفعل الإنسان بالنسبة إلى الصداقات القديمة، كما يتعرض للعوامل التى تؤدى إلى فصم عرى الصداقة، ولذلك ينبغى أن تكون هناك حدود واضحة فى معاملة الأصدقاء، مع التنبيه على عيوب الصداقة، وأهمها: التملق، وعدم قبول النصح من الصديق المخلص، ثم يختم شيشرون الكتاب بستة نقاط تلخص آراءة فى موضوع الصداقة .

 

وهكذا يبدو بوضوح – من خلال هذا المنهج التحليلى – استيعاب عناصر الموضوع بصورة شبه كاملة، وهذا ما أعطى لكتاب شيشرون (عن الصداقة) أهمية علمية وفلسفة خاصة، لم تقتصر على شيوعه فى العالم الرومانى وحده، بل شملت أوربا كلها، وتجاوزتها إلى العديد من بلاد العالم.


 

ثانيًا : منهج التوحيدى فى كتابه :


يقوم منهج التوحيدى فى كتاب (الصداقة والصديق) على أساس مختلف تماما عن منهج شيشرون، فهو يعتمد (نقل النصوص) من الشعراء الذين كتبوا قصائد أو مقطوعات أو حتى أبياتا مفردة عن الصداقة إلى جانب بعض أقوال لكبار الفلاسفة والمفكرين من مختلف الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، بالإضافة طبعًا إلى الحكمة العربية والإسلامية.

 

وبالطبع لا توجد أبواب ولا فصول، كما لا توجد عناوين للموضوعات، وإنما الحديث مفصل، والنقل متواصل لشعراء وحكماء بعضهم معروف، والكثير منهم مجهول الاسم .

 

وقد أدرك التوحيدى نفسه هذه العيوب فى كتابه، فكتب بعد أن وصل إلى نصفه تقريبا، يقول : "قد أتت هذه الرسالة على حديث الصداقة والصديق، وما يتصل بالعرفان والخلان والهجر والصلة، والعتب والرضا، والصدق والإخلاص، والرياء والنفاق، والحيلة والخداع، والاستقامة والالتواء، والاستكانة والاحتجاج والاعتذار. ولو أمكن لكان تأليف ذلك أتم ما هو عليه، وأحرى إلى الغاية فى ضم الشىء إلى شكله، وصبه فى قالبه، فكان رونقه أبين، ورونقه أحسن، ولكن العذر قد تقدم (الصداقة والصديق ص201) .

 

والتوحيدى يعترف بصعوبة عمله، ومعه كل الحق، فهو يضع الكتاب الأول، ولعله الأخير فى موضوع الصداقة فى الأدب العربى كله، يقول : "ولو أردنا أن نجمع ما قاله كل ناظم فى شعره، وكل ناثر من لفظه، لكان ذلك عسرا، بل متعذرًا، فإن أنفاس الناس فى هذا الباب طويلة، وما من أحد إلا وله فى هذا الفن حصة" (الصداقة والصديق ، ص202).

 

وينتهى التوحيدى بالاعتذار للقارئ عن طول الرسالة، فيقول : "قد تكرر اعتذارى من طول هذه الرسالة، كان ظنى فى أولها، أنها تكون لطيفة حقيقة، يسهل انتساخها وقراءتها، فما جت بشجون الحديث، وروادف الطيب والخبيث .

 

فاقبل – حاطك الله – هذا العذر الذى بدأته وأعدته، ونشرته وطويته، على أنك لو علمت فى أى وقت ارتفعت هذه الرسالة، وعلى أى حال تمت لتعجبت، وما كان يقل فى عينك منها، يكثر فى نفسك، وما يصغر منها بنقدك، يكبر فى عقلك" (الصداقة والصديق، ص475) .

 

هذا ما لاحظه التوحيدى نفسه على كتابه، وعيوب منهجه فيه، وما قدمه من اعتذار متكرر عن ذلك. ومع هذا فإننا من جانبنا نلتمس له العذر فى عدم التنسيق والتبويب لأن المادة الثقافية التى حشدها التوحيدى عن الصداقة بكل جوانبها تقريبا يمكنها أن تغطى على عيوب المنهج.

 

والدليل على ذلك ما سوف نراه من توافق فى الآراء التى ذكرها شيشرون بصورة منسقة ومرتبة، ونفس الآراء المتوافقة معها لدى التوحيدى بصورة اعتمدت على الذاكرة، ولم يلحقها التصنيف المنهجى.

 

 

مختصر آراء شيشرون عن الصداقة :


1-قيمة الصداقة : الصداقة من الموضوعات النبيلة التى يصعب الحديث عنها. لأن الحديث عنها يحتاج إلى فيلسوف، لكنها ينبغى أن توضع فوق أى شىء فى العالم، فليس هناك ما هو أنسب ولا أحب للإنسان منها : سواء فى الرخاء أو فى الشدة.


2-شرط وجود الصداقة : الصداقة لا تنمو وتتوثق عراها إلا بين الأخيار. والإنسان الخيّر ببساطه هو الذى يسلك طريقه فى الحياة بشرف وأمانة وعدل دون أطماع أو غطرسة أو استهتار. وإذا كان الناس يأتون إلى الحياة وبينهم نوع من الترابط، فإنه كلما قويت الصلة بين شخص وآخر ازداد هذا الرباط الذى يجمع بينهما قوة ومتانة .


3-الصداقة والقرابة : هناك شعور عميق بين الأقرباء، لكن الصداقه تحدث شعورًا أعمق. الشعور بين الأقرباء قد يزول، لكن شعور الصداقة يظل قويا بين الأصدقاء. وإذن فالصداقة أعلى من القرابة .


4-مفهوم الصداقة : هى عبارة عن توافق فى جميع الأمور الدنيوية والدينية، ممتزج بالمحبة والشعور الطيب. والآلهة لم تمنح الخالدين من البشر أروع من الصداقة، على الرغم من أن هناك من يفضل عليها : الثروة أو الصحة أو النفوذ أو الجاه أو اللذة. وهذه كلها سريعة الزوال، حيث تتحكم فيها ظروف الدهر وتقلباته، أما الفضلاء فهم وحدهم الذين يختارون الجانب الأسمى من ذلك كله، لذلك يتجهون إلى الصداقة.


5-أساس قيام الصداقة على الفضيلة: ولا يمكن أن توجد صداقة بدون فضيلة.


6-حاجة الإنسان إلى الصداقة : إنه محتاج إليها فى رخائه وشدته. والصديق فى حالة الهناء يشاركه السرور، وفى حالة الشدة والعسر يقاسمه المتاعب والآلام.


7-فوائد الصداقة : الصداقة تضىء الطريق للمستقبل، والأمل فيه، من خلال رفع الروح المعنوية. وهى نوع من الرابطة بين أفراد الأسرة، وأعضاء الدولة، بل أن تكون نوعًا من الروابط فى العالم كله. وقد اعتقدا مبيد وكليس أن العالم محكوم بقوتين هما : المحبة والكراهية. والمحبة هى القوة الحافظة فى الطبيعة، وما أجمل أن يشارك الصديق صديقة فى مواجهة الأخطار.


8-مبعث الصداقة ودوافعها : الصداقة ناشئة عن احتياج الشخص لعون الآخرين، كما أنها عبارة عن ميل طبيعى فى كل انسان .


إن كلمة (amicitia) : صداقة مشتقة من كلمة (amor) الحب.


وقد يترتب على الصداقة بعض النفع، لكنه ليس الأصل فيها، كما أنه لا يدل على استمرارها، فالصديق هو الذى يقدم المعروف لصديقه بدافع الإخلاص والشعور الطيب نحوه. اننا نحب شخصا ما لأنه فاضل ويقبل، وليس أحب إلينا من الفضيلة، والفضيلة هى التى تجذبنا بقوة إلى المحبة، وتوجد روحا من المودة من الأشخاص.


9-الصداقة الحقيقية والزائفة : الصداقة الحقيقية هى التى لا تقوم على توقع المنفعة، ولا رد الجيل كأنه ديّن من الديون، إذْ أنها تكمن أساسًا فى المحبة ذاتها. وكلما كان الشخص مسلحًا بالفضيلة والحكمة والارتفاع عن الدنايا أمكنه كسب الأصدقاء. أما الصداقة الزائفة فهى القائمة أساسًا على طلب المنفعة، لذلك فإنها تتلاشى عندما تنتهى المنفعة. ولما كانت الطبيعة الإنسانية أبنية لا تتغير فإن الصداقة الحقيقية كذلك خالدة وأبدية.



10-العوامل التى تؤدى إلى فشل الصداقة : وهى تتلخص فيما يلى:


أ-اختلاف المنافع والآراء السياسية بين الأصدقاء وتناقضها.


ب-ما يحدثه مرور الزمن من تقلبات وتغييرات مثل المحن ومشكلات الحياة، ومسئولياتها.


ج-التنافس على الجاه والشهرة والمناصب.


د-الطموح إلى المنافع غير المشروعة، التى تأباها الأخلاق والعدالة.

 

11-المطالب المشروعة (أو غيرها) التى يمكن (أو لا يمكن) طلبها من الصديق: للصديق الحق فى أن يطلب من صديقه كل ما هو فاضل ونبيل، وليس من حقه أن يطلب منه ما يناقض الفضيلة أو العدالة أو ما كان مخزيا ومعيبا. إذن من مبادئ الصداقة ألا نطلب من أصدقائنا القيام بأعمال مخزية. أو أن نقوم نحن بهذه الأعمال إذا ما طلبوا منا القيام بها.


12-الصديق الخائن لابد من مقاطعته على الفور.


13-منشأ الصداقة واستمرارها : الصداقة تبدأ بميل طبيعى متبادل بين صديقين، ولا شىء أروع من هذا الحب المتبادل، ولا سيما حين يخلو تمامًا من المنفعة. صحيح أن المنفعة قد تأتى لاحقا، لكنها ليست أساس منشأ الصداقة.


14-حدود الثقافة والاعتراض عليها: يعرض شيشرون لثلاثة أراء حول هذا الموضوع :


أ-أن نشعر نحو أصدقائنا بنفس الشعور الذى نشعر به نحو أنفسنا.


ب-أن عطفنا على أصدقائنا ينبغى أن يتساوى مع عطفهم علينا.


ج-أن يقدر الشخص صديقه بمقدار ما يقدر نفسه .


ولا يوافق شيشورن على أى من هذه الآراء.

 


15-صفات الصديق الحق :


أ-أن يكون مخلصا، لأن الصداقة لا تستقر بدون الإخلاص.

ب-سلامة الطوية بمعنى أن تكون شخصيته واضحة غير ملتوية.

ج-يجب ألا يفرح الصديق للاتهامات التى توجه إلى صديقه .

د-ينبغى أن يكون بين الصديقين حديث رقيق عذب، وسلوك مهذب نبيل.


16-عادة ما يفضل الإنسان الصديق القديم على أن ينشئ صداقة جديدة.

لكن الصديق الجيد هو الذى إذا ارتفع عن طريق الجاه أو الثروة أو حتى العبقرية فيجب ألا يتعالى على أصدقائه القدامى، بل عليه أن يشاركهم فيما وصل إليه من مكانة.


17-الصفات التى ينبغى توافرها فى الصداقة :


أ-على الأصدقاء الذين يتفوقون على أقرانهم أن يحرصوا على أن يشعروهم أنهم متساوون .

ب-ليس مستحسنا من الصديق أن يمنّ على صديقه بما أسداه إليه من أفعال.

ج-على الأصدقاء الذين ارتفعوا أن ينزلوا ليأخذوا بأيدى قرنائهم.

د-يحظر على الصديق الاستسلام لعواطفه إذا تعارضت مع مصلحة صديقة.

هـ-عدم إعانة الصديق إذا قرر الرحيل لتحقيق مصلحته الخاصة.


18-نصائح عامة للصداقة :


يخطئ من يسعى لاكتساب صديق يتوافر فيه بعض الخصائص التى يفتقدها هو . والأصح أن يبدأ الإنسان بالتحلى بالأخلاق الفاضلة والنبيلة، ثم يبحث عن الشخص المناسب له .


-إذا فقدت الصداقة الاحترام المتبادل فإنها تفقد أعظم شىء يزيّنها.

-الطبيعة منحتنا الصداقة لتكون فى خدمة الفضيلة، وبالتالى لا ينبغى أن تكون الصداقة طريقا لارتكاب ما يشين.

-لا ينبغى أن ندخل فى صداقة ثم نقوم باختيار الصديق.

-إذا اجتمعت الصداقة والفضيلة فإن هذا هو غاية الكمال الإنسانى.

 


19-الحدود اللازمة فى معاملة الأصدقاء :


-عند التعرض لمواقف تثير الشك أو الغضب فى الصداقة، ينبغى على الصديق أن يتجنبها قدر الإمكان، أو يهّون من شأنها، أو يتحملها ما استطاع.

-أن يخلص الصديق النصح لصديقه، لكن بحكمة وهدوء ولين.


-يمكن للصديق أن يلوم صديقه على الأعمال المشينه، وعلى الآخر أن يتقبل ذلك برحابه صدر.


-التملق مرفوض تماما بين الأصدقاء، والمصارحة هنا أفضل من التملق.


-بعض التملق مقبول بشرط ألا يصل إلى قبول ما يشين من أعمال، وهنا لابد من اللوم.

 

-مدح أخطاء الصديق قد يؤدى إلى التمادى فيها والوقوع فى التهلكة.


-الحياة مع صديق يختلف عن الحياة مع طاغية .

 

 

20-العوامل المؤدية إلى فصم عرى الصداقة :

 

-إذا وقعت من الشخص نقيصة تضر بصديقه، ينبغى هجره بالتدريج، إلا إذا كانت النقيصة فادحة، فينبغى قطعه فورا .

-إذا تبدلت طبائع الشخص وميولة، أو إذا حدث خلاف فى وجهات النظر السياسية، فإن ذلك يؤدى إلى فهم عرى الصداقة. وهنا لا ينبغى أن تتحول الصداقة إلى عداوة بل يجب أن يحتفظ الإنسان بهدوئه وحكمته.

-وعموما ينبغى عدم التسرع فى اتخاذ صديق، إلا بعد اختباره جيدا.


21-الصدق والتملق مع الأصدقاء : من الصفات الأساسية فى الصداقة الحقيقية:

 

-بذل النصح وتقبله. وأسلوب بذل النصح يتمثل فى طرحه دون استعلاء أو منّ، كما أن قبوله ينبغى أن يتم دون اشمئزاز أو غضب.


-لا شىء أسوأ فى علاقة الصداقة من التملق والمراهنة، فهذا يبعدها عن الإخلاص.


-التملق لا يسىء لصاحبه فقط، بل للصديق الذى يتقبله .

 

-إن الصداقة تموت عندما يمتنع الصديق عن الإصغاء إلى الحقيقة من فم صديقه .


-إن أقوياء الشخصية وحدهم هم الذين ينفرون من التملق والمدح الكاذب .


22-ملخص أراء شيشرون فى الصداقة :


1-الفضيلة هى التى تخلق الصداقة، وتمنحها القوة، وصفة الاستمرار.


2-الصداقة ميْل شخص لشخص آخر دون إجبار أو طمع أو نفع، ولو أن الصداقة قد تستتبع المنفعة لكن بدون سعى إليها، أو انتظار لها.


3-التقارب فى العمر قد يساعد على الصداقة. لكن قد يصادق الإنسان من هم أصغر منه.


4-يجب أن ننشد أصدقاء نتبادل معهم المحبة، وإلا فقدنا جميع مسرات الحياة .


5-لا شىء – باستثناء الفضيلة – يمكنه أن يعادل الصداقة .


6-الصداقة أجمل نعمة منحتها السماء للأرض.


مختصر آراء التوحيدى ونقوله فى الصداقة :


1-الهرب من الصداقة : الثورى لرجل قال له أوصف : أنكر من تعرفه، قال : زدنى . قال : لا مزيد .


-وكان ابن كعب يقول : لا خير من مخالطة الناس، ولا فائدة فى القرب منهم. والثقة بهم، والاعتماد عليهم.

-وكان العسجدى يقول كثيرا : الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم ، والوفاء اسم لا حقيقة له، والرعاية موقوفة على البذل، والكرم قد مات، والله يحيى الموتى .

-قيل لروح بن زنباع : ما معنى الصديق؟ قال : لفظ بلا معنى !


2-حب الأصدقاء :

 

-قال الشاعر :


أنتم سرورى وأنتم مشتكى أملى


وأنتم فى سواد الليل سمّارى

 


أنتم وإن بعدت عنا منازلكم


نوازل بين إسرارى وتذكارى

 


فإن تكلمت لم ألفظ بغيركم


وإن سكت فأنتم عقد إضمارى

 


الله جاركم مما أحاذره


فيكم وحبى لكم من هجركم جارى


 

-قال أبو حاتم السجستانى : إذا مات لى صديق سقط منى عضو !

-قال أعرابى : الغريب، من لم يكن حبيب .


3-الصديق القديم وحقوقه


الفضيل بن يحيى : الصبر على أخ تعتب عليه ، خير من آخر تستأنف مودته .

جعفر بن محمد : لِنْ لمن يجفو ، فقلّ مَنْ يصفو.

على بن أبى طالب : قليل للصديق الوقوف على قبره .

ابن رشيد الطائى :

 

وأغمضْ للصديق عن المساوى

مخافة أن تعيش بلا صديق


-وروى أن النبى ،
صلى الله عليه وسلم
، كان يأكل تمرا، ومعه جليس له ، فكان إذا رأى حشفة (تمرة رديئة) عزلها ، فقال جليسه : يا رسول الله أعطنى الحشفة حتى آكلها . قال : لا أرضى لجليسى إلا ما أرضاه لنفسى.



4-مصاحبة أهل الفضل :


-عبد الله بن جعفر : كمال الرجل بخلال ثلاث : معاشرة أهل الرأى والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالفة الجميلة، واقتصاء من غير بخل فى القبيلة.

 

-ابن أبى دؤاد : صديق عدوك : حربك !

 

-محمد الباقر لأصحابه : أيدخل أحدكم يده فى كم (جيب) صاحبه، فيأخذ حاجته من الدراهم والدنانير؟ قالوا لا . قال : لستم بإخوان .

 

-ورد فى كليلة ودمنة : صحبة الأخبار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على التبْن حملت تبنا، وإذا مرت على الطيب حملت طيبا.

 

-وفيه أيضا : المودة بين الصالحين بطىء انقطاعها، سريع اتصالها، كآنية الذهب بطيئة الانكسار، هينة الإعادة. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بعيد اتصالها كآنية الفخار التى يكسرها أى شىء، ولا جبْر له.

 

-قال ابن مبادر : كنت أمشى مع الخليل، فانقطع شسع نعلى، فخلع نعله فقلت : ما تصنع ؟ قال : أواسيك بالحفاء!


-شبيب بن شبه : إخوان الصدق مكاسب الدنيا، هم زينة فى الرخاء، وعدّة فى البلاء.

 

 

5-إعذار الصديق :


شاعر : ترك التعهد للصديق يكون داعية القطيعهْ


شاعر : فلا تقطع أخا من أجل ذنب فإن الذنب يغفره الكريم


قال أحدهم : والله أن عداوة العاقل ألذ وأحلى من صداقة الجاهل


قال أبو بكر : حق الجليس إذا دنا أن يرحب به، وإذا جلس أن يوسّع له ، وإذا حدّث أن يقبل عليه، وإذا عثر أن يقال (يصفح عنه) وإذا أنقض أن ينال، وإذا جهل أن يعلّم.



6-لا دخل للفلسفة فى موضوع الصداقة :

 

-قيل ليزرجمهر : ما بال عداوة الصديق أقرب مأخذًا من مصادقة العدو؟


قال : لأن إتقان المال أهون من كسبه، وهدم البناء أسهل من رفعه، وكسر الإناء أيسر من إصلاحه .

 

قال أبو سليمان (أستاذ التوحيدى) لم يعمل شىء فى الجواب لأنه ماثل مسألة السائل بمسألة مثلها، فلو سأله السائل عن كلها ما كان جوابة؟ .

 

ويعلق التوحيدى قائلا : ثم أجاب هو بكلام لا يدخل فى هذه الرسالة، لأنه من الفلسفة التى هى موقوفة على أصحابها ، لا نزاحمهم عليها ، ولا تناريهم فيها.

 

 

7-متعة الاصدقاء :


عبد الله بن صالح : مشاهدة الإخوان أحسن من إقبال الزمان، وألذ من نيْل الأمان.

 

يزرجمهر : الإخوان كالسلاح : فمنهم من يجب أن يكون كالرمح يطعن به من البعد، ومنهم كالسهم : يرمى به ولا يعود إليك. ومنهم كالسيف الذى لا ينبغى أن يفارقك.

 


8-الخوف من الصداقة والأصدقاء :


-حكى العلماء أن رجلاً كتب على باب داره : جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيرا، فإننا ما أوتينا فى نكبتنا هذه إلا من المعارف!


شاعر :

كفانى الله شرك يا ابن عمى

فأما الخير منك فقد كفانى

نظرت فلم أجد أشفى لغيظى

من انى لا أراك ولا ترانى


التوحيدى : وإذا أردت الحق علمت أن الصداقة والألفة والأخوة والمودة والرعاية والمحافظة قد نبذت نبذا، ورفضت رفضا، ووطئت بالأقدام، ولويتْ دونها الشفاه، وصرفت عنها الرغبات .

 

 

9-صعوبة البحث عن صديق :


-قيل لفيلسوف : من أطول الناس سترا ؟ قال : من سافر فى طلب صديق .

 

-سمع ابن عطاء رجلا يقول : أنا فى طلب صديق منذ ثلاثين سنة فلا أجده .


فقال له : لعلك فى طلب صديق تأخذ منه شيئًا، ولو طلبت صديقا تعطيه شيئا لوجدته .

 

قال أبوسفيان : هذا كلام ظالم . الصديق لا يراد ليؤخذ منه شىء ، أو ليعطى شيئا. ولكن ليسكن إليه، ويعتد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار فى الملم، وينهض فى المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر. والأخد والعطاء فى عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم .

 

 

-وقال الاسكندر لديوجين : بم يعرف المرء أصدقاءه ؟ قال : بالشدائد، لأن كل أحد فى الرخاء صديق .

 

-وقال انكساغورس : كيف تريد من صديقك خلقا واحدا، وهو ذو طبائع أربع ؟!

 

-قبل لرويم : ما الذى أقعدك عن طلب الصديق؟ قال : يأس من وجدانه .

 

-قيل لأعرابى : ألك صديق ؟ قال : أما صديق فلا، ولكن نصف صديق.


قيل : فكيف انتفاعك به ؟ قال : انتفاع العريان بالثوب البالى !

 



10-قيل فى تصنيف الأصدقاء :

 

-قال الحرانى : منهم من هو كالغذاء الذى يمسك رمقك، ولابد لك منه على كل حال، لأنه قوام حياتك وزينة دهرك. ومنهم من هو كالدواء يحتاج إليه فى الحين بعد الحين على مقدار محدود، ومنهم من هو كالسم، لا ينبغى أن تقربه فإنه سبب هلاكك .


11-أصدقاء فى حقيقتهم اعداء :

 

قيل لأعرابى : كيف أنسك بالصديق ؟ قال : وأين الصديق؟ بل أين الشبيه به؟ بل أين الشبيه بالشبيه؟ والله ما يوقد نار الضغائن والحقد والعداوة فى الحى إلا الذين يدّعون الصداقة، وينتحلون النصيحة، وهم أعداء فى جلود الأصدقاء. وما أصدق قول الشاعر :

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو فى ثباب صديق

وقال الشاعر :

انت فى معشر إذا غبت عنهم

بدّلوا كل ما يزينك شيْنا

وإذا ما رأوك قالوا جميعا

أنت من اكرم البرايا علينا

 

 

12-هل يؤثر البعد فى الصداقة ؟


توفى ابن ليونس بن عبيد : فقيل له : ان ابن عون لم يأتك . فقال : إنا إذا وثقنا بمودة أخ، لا يضرنا ألا يأتينا .


قال الأعمش : أدركت أقواما كان الرجل منهم لا يلقى أخاه شهرًا أو شهرين، فإذا لقيه لم يزد على : كيف أنت ؟ وكيف الحال ؟ ولو سأله شطر ما له لأعطاه – ثم أدركت أقواما لو كان أحدهم لا يلقى أخاه يوما سأله عن الدجاجة فى البيت ، ولو سأله حبّة من ماله لمنعه !

 


13-المكان مهما صغر يسع الأصدقاء


دخل الأصمعى على الخليل وهو جالس على حصير صغير، فقال : تعال واجلس، فقلت : أضيّق عليك ؟ قال : مهْ ، فإن الدنيا بأسرها لا تسع متباغضيْن، وإن شبرًا فى شبر يسع متحابيْن .

 


14-أخلاقيات الصداقة :


التوحيدى : الكلام فى الصداقة ينبغى أن يكون على كرم العهد، وبذل المال، وتقديم الوفاء، وحفظ الذمام، وإخلاص المودة، ورعاية الغيب، وتوقر الشهادة، ورفض الموجدة، وكظم الغيظ، واستعمال الحلم، ومجانبة الخلاف، واحتمال الكل (الضعيف واليتيم) وبذل المعونة، وحمل المؤونة، وطلاقة الوجه، ولطف اللسان ، وحسن الاستنامة (الاستئناس) والثبات على الثقة، والصبر على الضراء والمشاركة فى البأساء.

 

 

15-مزايا الإكثار من الأصدقاء :


قال الشاعر :

تكثر من الإخوان ما استطعت انهم كنوز إذا ما استنجدوا وظهور

وما بكثير ألف خل، وصاحب وإن عدوا واحدًا لكثير

 

 

16-الاضطرار إلى مصادقة عدو :


-المتنبى :

ومن نكد الدنيا على الحرأن يرى

عدوا له ما من صداقته بدُّ

 

-قيل لعبد الله بن المبارك : إن قومًا يلتقون بالبشر والسلم، فإذا تفرقوا طعن بعضهم على بعض ! فقال : أعداء غيب، إخوان تلاق، تبا لهذه الأخلاق، كأنها شقت من النفاق !


17-طالب الكفيل، وليس الصديق :

 

قلت للهائم أبى على : مَنْ تحب أن يكون صديقك ؟ قال : من يطعمنى إذا جعت، ويكسونى إذا عريت، ويحملنى إذا كللت (ضعفت) ويغفر لى إذا زللت – فقال له على بن الحسن : أنت إنما تريد إنسانًا يكفيك مؤونتك ، ويكفلك فى حالك. كأنك تمنيت وكيلا ، فسميته صديقا فما أحار جوابا !


18-الذى يعرف الناس جيدا .. لا يصادق .


-قال بعضهم : تركتنى معرفة الناس فردا !

 

-وكتب سعيد بن جبير إلى أخ له : أما بعد يا أخى ، فاحذر الناس، واكفهم نفسك، ويسعك بيتك !

 


19-مرارة جفوة الصديق

 

قال الشاعر :

أجفوتنى فيمن جفانى

وجعلت شانك غير شانى

ونسيت منى موضعا

لك لم يكن لك فيه ثانى

وسررت يوما واحدا

ألا أراك ولا ترانى

وهجرتنى وقطعتنى

وقليتنى فيمن قلانى

أفعلتها ؟ فالمستعان

الله، أفضل مستعان

 

20-أقوال فلاسفة فى الصداقة :

 

-خير الأصحاب من ستر ذنبك فلم يقرّعك، ومعروفة عندك ملم يمننْ عليك .

 

-اجتنب مصاحبة الكذاب، فإن اضطررت إليها فلا تصدقه، ولا تعلمه أنك تكذبه فينتقل عن ودك، ولا ينتقل عن طبعه .

 

-حسبك من عدوك أنه فى قدرتك!

 

-لا تقطع أحدًا إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة فيه ، فيفسد طريقه عن الرجوع إليك ، فلعل التجارب ترده إليك، وتصلحه لك.

 

-إخوان السوء ينصرفون عند النكبة، ويقبلون مع النعمة، ومن شأنهم التوصل بالإخلاص والمحبة إلى أن يظفروا بالأنس والأمن والثقة، ثم يوكلون الأعين بالأفعال ، والأسماع بالأقوال، فإن رأوا خيرا ونالوه لم يذكروه ولم يشكروه، وإن رأوا شرا أو ظنوه أذاعوه ونشروه.

 

-افلاطون : الأشرار يتتبعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم، كما يتتبع الذباب المواضع الفاسدة من الجسد ويترك الصحيح .

 


21-صديق بعد التجربة :


قال الشاعر :

سبكناه ونحسبه لجينا

فأبدى الكير عن خبث الحديد

وقال آخر :

أفكر ما ذنبى إليك فلا أرى

علىّ سبيلا غير أنك حاسد !

 

وقال مسكين الدارمى :

ولا تحمد المرء قبل البلاء

ولا يسبق السيل منك المطر !

 

 

22-بعض الأصدقاء يكشف مظهرهم خباياهم :


قال الشاعر :

تريك أعينهم ما فى صدورهم ان الصدور يؤدى غشّها البصر


وقال آخر:

متى تك فى صديق أوعدو تخبرك العيون عن القلوب!

 

 

23-مجالسة الأخيار :

 

-قال ابن عائشة : مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب، ومجالسة أهل المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكى النفس .

وقال أحد الشعراء :

إن الكريم أخو الكريم وإنما

يصل اللئيم حياته بلئيم

 

نتائج المقارنة :


أولاً : تعد هذه الدراسة بين المفكر الرومانى شيشرون (القرن الأول الميلادى) والكاتب العربى الكبير التوحيدى (القرن العاشر الميلادى) أول دراسة مقارنة بينهما فى أحد الموضوعات الأخلاقية والاجتماعية الهامة، والتى تدور حول الصداقة .

 

ثانيًا : أن هذه الدراسة تفتح المجال واسعًا أمام دراسات أخرى عديدة حول تشابه أو تشارك كبار المفكرين العالميين فى موضوعات معينة، دون الدخول فى تفصيلات مسائل التاثير والتأثر التى سادت بحوث الأدب المقارن وشغلت المتخصصين فيه لفترة طويلة، دون أن تصل فى النهاية إلى نتائج حاسمة .

 

ثالثًا : تكشف المقارنة عن الأسلوب المنهجى – التحليلى لموضوع الصداقة لدى شيشرون الذى أفاد من محصلة الفلسفة الإغريقية، وتأثر كثيرا بالمذهب الروافى، وبين الأسلوب السردى التجميعى الاختيارى للتوحيدى الذى استوعب فيه عناصر الموضوع كما تجلى فى الأدب العربى ، والثقافات التى اختلطت بالثقافة العربية والاسلامية خلال القرن الرابع الهجرى، وأهمها : الإغريقية، والهندية، والفارسية .

 

رابعًا : أن الباحث الذى يريد تتبع كل فكرة ولو جزئية لدى شيشرون بإمكانة أن يعثر على مقابل لها لدى التوحيدى. وهكذا يتضح لنا أن اختلاف الأسلوبين ينبغى أن يعتبر داعية تكامل، وليس مسلك افتراق. ونود أن نشير هنا إلى أن الفكرة الرئيسية فى الصداقة لدى شيشرون تقوم على تواصل الفضلاء وأهل الخير وحدهم، ونفس الفكرة موجودة لدى التوحيدى مع تفصيلات أكثر حول ما يلحق الصداقة الحقة من مساوئ القطيعة وعدم التواصل، واختلاطها بالرغبة فى المنفعة.

 

خامسًا : إن المدهش لدى كلا المفكريّن : الرومانى والعربى هو وضوح العرض بصورة رائعة. فالأول يقدم فكرته بتسلسل منطقى، والثانى يؤكدها من خلال النثر الفنى المتميز والشعر الجميل الصادق.

 

سادسًا : الأمر الوحيد الذى يلفت الانتباه أن الكاتب الرومانى يكتب عن الصداقة فى جو حميم بين مجموعة من الأصدقاء، ويبدو أنهم كانوا يعيشون فى بحبوحة من العيش، أما الكاتب العربى فهو يكتب وهو ينزف حزنا ومرارة من شكوى من الفقر المدقع، وانعدام الأصدقاء، وعدم اهتمام المسئولين عنه فى الدولة رغم مكانته الأدبية العالية ، والتى خلدت اسمه فى الثقافة العربية وأهملت تقريبا كل معاصرية الأثرياء!

 

سابعًا : أن الهدف النبيل لكل من المفكريْن : الرومانى والعربى هدف نبيل يسعى إلى تأكيد مبدأ الصداقة بين البشر، ويفصل القول فى حقوقها وواجباتها، ويدعو المجتمع إلى التمسك بها باعتبارها احدى لبنات التماسك التى تزيده قوة وصلابة، ويبتعد عنه الحق والكراهية والتنافر والبغضاء .

**

 

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 01 نوفمبر 2019 14:53