عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
كتاب معالم التصوف الإسلامـي صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الجمعة, 12 يوليو 2019 13:49

 

 

 

معالم

التصوف الإسلامى

 

 

 

 

أ.د. حامد طاهر

نائب رئيس جامعة القاهرة السابق

أستاذ الفلسفة الإسلامية بدار العلوم

 

الفهـرس

*****

مقدمة .................................................................

التصوف ظاهرة إنسانية ...............................................

التصوف الإسلامى فى الدراسات الحديثة ..............................

مصادر التصوف الإسلامى : ببليوجرافيا تحليلية .......................

حول أصل كلمتى : صوفى وتصوف ..................................

قضية المصدر الأجنبى للتصوف الإسلامى ............................

هل يحتوى القرآن والسنة على بذور للتصوف الإسلامى ؟ .............

التصوف الإسلامى : نشأته وتطوره ...................................

مراحل التصوف الإسلامى ............................................

لحظة التحول الصوفى ................................................

الطريق الصوفى ......................................................

البناء الهرمى للصوفية ................................................

قواعد التصوف الإسلامى .............................................

تفرّد الصوفية فى الآداب والمعارف ...................................

التصوف الإسلامى والنفس الإنسانية ...................................

الديناميكية فى التصوف الإسلامى (مترجم) ............................

مفهوم الشعائر عند الصوفية ...........................................

الحب الإلهى ..........................................................

النظريات والمذاهب الصوفية ..........................................

الطرق الصوفية .......................................................

الملامتية وأهل الفتوة ..................................................

السماع عند الصوفية ..................................................

الكرامات عند الصوفية ................................................

أسرار الحروف عند الصوفية ..........................................

لغة التصوف ومصطلحاته .............................................

الأدب الصوفى ........................................................

الصوفية أمام الموت ...................................................

نقد التصوف ..........................................................

ماذا نستفيد من التصوف فى العصر الحاضر؟ .........................

قائمة بأهم المصادر والمراجع .........................................

 

*  *  *

 

3

9

15

29

41

47

53

67

81

87

93

99

103

113

121

127

141

153

159

167

171

177

185

191

203

211

231

241

253

263

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 








بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمـة



يتفق الدارسون المحدثون للفلسفة الإسلامية على أن التصوف الإسلامي يعد واحد من أهم مجالاتها الرئيسية([1]). ومع ذلك، فإنه يكاد يكون عالما مستقلا بذاته: فقضاياه ومشكلاته، وحتى لغته ومصطلحاته تتميز بطابع خاص، وتتطلب ممن يتصدى لدراستها أن يبذل جهدا مضاعفا في معايشتها عن قرب، واستمرار التأمل فيها لسنوات طويلة([2]).


وليس التصوف الإسلامي مسألة أو مجموعة مسائل نظرية يسهل الحكم عليها – بعد التحليل المنطقي – بالصواب والخطأ. وإنما هو عبارة عن تجربة روحية بالغة العمق، ترتبط بها ظواهر نفسية، وتصرفات أخلاقية، وتنشأ عنها مواقف فكرية، وإبداعات أدبية وفنية. وفي أثناء ذلك كله: تظل هذه التجربة وثيقة الصلة بالدين الذي استلهمت روحه، وعبرت عن نفسها من خلال قيمه وتعاليمه.


ثم إن الصوفي ابن بيئته. وهو مهما نزع إلى العالمية يظل مرتبطا بالظروف الاجتماعية والثقافية، وكذلك السياسية والاقتصادية التي نشأ وتطور فيها. بل إن الصوفي عندما ينعزل عن مجتمعه: بجسده، أو بروحه، أو بهما معا، لكي يمارس على انفراد مجاهداته الخاصة، وينعم وحده بحلاوة نتائجها  فإنه مايلبث أن يعود إلى هذا المجتمع، لكي يخبره بما شاهد: تماما كالمحب الذي يريد أن يقول للدنيا كلها إن قلبه من السعادة ينتفض !


لقد تعرض التصوف الإسلامي – ومازال – لأنواع مختلفة من النقد، والمعارضة، والتجني، والرفض .. ومعظمها مواقف تتناول جوانب من التصوف الإسلامي قد تكون بالفعل عرضة لذلك، ولكنها تتغاضى – في نفس الوقت – عن جوانب أخرى أكثر إشراقا وإيجابية. ولقد سمعت بنفسي أحد كبار الدعاة المسلمين يهاجم التصوف، في نفس الوقت الذي يستشهد فيه بأقوال الصوفية، مستعيضا عن ذكر أسمائهم بعبارة: "يقول بعض الصالحين" !


وهناك من الباحثين من اعتبر التصوف مرضا مزدوجا يصيب الفرد، ويصيب المجموع، كما أنه كان" وسيلة من وسائل الأوربيين لاستعمار الشرق، ويأخذ على الغزالي (ت 505هـ) عدم اكتراثه بسقوط القدس – على عهده – في أيدي الصليبيين، كما يلوم كلا من ابن عربي (ت 638هـ) وابن الفارض (ت632) حيث لم يشيرا إشارة واحدة إلى حروبهم([3]) !


ومن الواضح أن مثل هذه الأحكام تقوم أولا: على تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، وثانيا: النظر إلى ظاهرة متعددة الجوانب كالتصوف الإسلامي من جانب واحد فقط، وأخيرا فإنها تفتقد إلى فهم التجربة الصوفية في حقيقتها الروحية، فبل أن تضعها في إطار الزمان  والمكان اللذين يرتبطان بها.


لذلك فإنه من الضروري أن يتم – بين الحين والآخر – جلاء المفهوم الحقيقي للتصوف، والتعرف على جوانبه المختلفة، ومدى ما حدث لها من تطور .. وتعتبر "المداخل" و "التمهيدات" من أفضل السبل إلى ذلك. لأنها تحاول أن تلم بالظاهرة من جميع – أو معظم – جوانبها، دون أن يقلل ذلك قط من أهمية الدراسات المتخصصة في شخصية ما، أو مسألة بعينها.


وإذا كان لكل مدخل أو تعريف دافع ينطلق منه، ومنظور عام يحكمه فإن تعريفنا هذا يستجيب لما أصبحنا نلمسه بوضوح من محاولة شبه مقصودة لنزع التصوف الإسلامي من بناء الفكر الإسلامي نفسه، والنظر إليه بعين الازدراء من خلال أعراضه المختلفة في العصور المتأخرة، واعتباره – كما سبقت الإشارة – مرضا فرديا واجتماعيا، وعاملا من عوامل السقوط   والتدهور – مع أن حقيقة الأمر قد تكون على العكس من ذلك تماما.


أما المنظور العام، فيقوم على أساس أن التعريف بعلم من العلوم    يعني – في رأينا – تبسيط المدخل إليه، وذلك عن طريق التعرف بأبرز من سبقوا إلى دراسته، وأهم مصادره الرئيسية، والوقوف على ظروف نشأته، ومتابعة مراحل تطوره، ثم استعراض بعض قضاياه، والإشارة إلى بعض مشكلاته، وأخيرا عرض وجهة النظر الأخرى فيه. وينبغي أن يتم ذلك كله، ونحن على صلة قريبة جدا من لغة التصوف، التي تعتبر هي الأخرى مدخلا أساسيا لفهم حقائقه، وإدراك مراميه.


وهذا ما اتبعناه في كتابنا الحالي، الذي أطلقنا عليه "معالم التصوف الإسلامي". وقد قسمناه إلى فصول ، يطلّ كل منها على زاوية من زوايا التصوف الإسلامي، وتهدف في مجموعها إلى تكوين تصور واضح لأهم معالم هذا المجال، وما يشتمل عليه من عناصر القوة والضعف معا.


وقد حاولنا – بعد هذه المقدمة – في ثمانية وعشرين فصلا (انظر الفهرس) أن نعرض لأهم جوانب التصوف الإسلامي فيما يشبه البانوراما التي يمكن للقارئ أو الدارس الجديد أن يطل من خلالها إطلالة عامة وخاصة أيضا على هذا المجال الذي مازال سوء الفهم والأحكام المسبقة تدور حوله، والسبب في ذلك هو عدم الوقوف عليه في مجمله ، قبل أن يدخل إلى تفصيلاته.


وقد رأينا من تمام أداء الأمانة ، أن نشير هنا إلى مجموعة من أهم الدراسات التي سبقتنا في التعريف بالتصوف الإسلامي، ومهدت السبيل إليه:


- التصوف: الثورة الروحية في الإسلام

-ا لحياة الروحية في الإسلام

- مدخل إلى التصوف الإسلامي

- تاريخ التصوف الإسلامي (مترجم)

- الفلسفة الصوفية في الإسلام

- التصوف: طريقا وتجربة ومذهبا

- دراسات في التصوف (مترجم)

- الصوفية في الإسلام (مترجم)

د. أبو العلا عفيفي

د. محمد مصطفى حلمي

د. أبو الوفا التفتازاني

د. قاسم غني

د. عبد القادر محمود

د. محمد كمال جعفر

نيكلسون

نيكلسون

- نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام: ج3 (التصوف)    د. على سامي النشار

- تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى القرن الثاني د. عبد الرحمن بدوي




وأخيرا، أرجو أن تتسع صدور الدارسين الجدد للتصوف الإسلامي إلى عدة انطباعات، أجملها في الملاحظات التالية :


أولا : أن للتصوف الإسلامي لغة خاصة، ومصطلحا فنيا متطورا للغاية سواء في جودة السبك، أو في القدرة على أداء المعنى. ولاشك أن هذا الجانب يتطلب من دارس التصوف ضرورة التمكن المناسب من لغة هذا المجال ومصطلحه.


ثانيا : أن التصوف الإسلامي من التنوع والغنى بحيث يفرض على الدارس الموضوعي أن يتجنب إصدار الأحكام عليه ككل ، وأن يكتفي بتقييم الجزء الذي يدرسه على حدة.


ثالثا : أن التصوف الإسلامي من أغزر مجالات الفلسفة الإسلامية مادة. وإذا كانت مخطوطاته المتناثرة في مكتبات العالم لم تنشر كلها – أو حتى معظمها – بعد، فإن هذا يضيف للملاحظة السابقة عنصرا آخر ، كما يلقي على دارسي التصوف ضرورة استمرار الكشف عن تلك المخطوطات، ونشرها في صورة علمية محققة.


رابعا : أن التصوف الإسلامي مظلوم بين طرفين: أحدهما يتحمس له بدون حدود، بحيث يغلق أذنه تماما عن سماع أي كلمة نقد، والثاني يحمل عليه بعنف بالغ، بحيث لا يقبل أن يذكر من محاسنه شيء ! ومن المعروف أن الموقف الحق هو الذي يلتزم بمنهج البحث العلمي المحايد، والمجرد من الإعجاب والتحامل معا.


خامسا : أن التصوف الإسلامي جزء من تراثنا الإسلامي الكبير. وهو من جانب آخر مازال يعيش في حياة المسلمين المعاصرة .. وكلا الجانبين يتطلب من الدارسين الجدد أن يقبلوا على بحثه باهتمام وجدّ، وأن يحاولوا استخراج ما يحتوي عليه من عناصر إيجابية، دون أن يحجب ذلك إبراز ما فيه من نقاط الضعف أو السلبيات..


والله ولي التوفيق ،،               حامد طاهر










التصوف ظاهرة إنسانية


حين يبدأ الدين ، أى دين ، فى الظهور والانتشار ، فإن الأرواح التى تنجذب إليه ، والعقول التى تقتنع به ، والأجسام التى تنخرط فى طقوسه وشعائره – تعمل كلها فى انسجام وتناغم بدرجة عالية من الصدق والالتزام والتوهج والحماسة . ثم تتوالى الأيام والليالى ، وتمر السنوات والعقود فتخمد الجذوة المتوهجة ، ويتكاثر الرماد ، وتنتشر البرودة فى الأطراف ، حينئذ يشعر القائمون على أمر الدين بالخطر ، فيسرعون بالنفخ فيما تبقى من جذوته لكى يجعلوها تستمر فى التوقد والاحمرار .. ولكن هيهات ، فإن الأجيال الجديدة تكون قد انغمست فى الشئون الدنيوية ، ولم تعد تمسك من الدين إلا بمظاهره وشكلياته ، وهنا يسرع علماء الدين إلى الاستعانة بحكايات التاريخ ، وحجج العقل لكى يرجعوا تلك الجماهير الشاردة إلى سيرة السلف الأولى ، فيكثرون من المواعظ ، ويضعون المؤلفات ، وربما اختلفت مناهجهم وأفكارهم، فتتراكم الآراء والمذاهب حول جوهر الدين ، الأمر الذى يخفيه عن العيون أو يكاد !

هذا هو القانون الذى ينطبق على كل الأديان 0 وهو كما نلاحظ قانون قاسٍ ، لكنه واقعى ..فقد تعرضت له الأديان جميعا ، سواء كانت سماوية أو وضعية ، والمشكلة الأساسية هنا أن علماء الدين أنفسهم لا يعترفون به ، على الرغم من خضوعهم التام لسيطرته ، وهم يحاولون دائمًا أن يقاوموا نتائجه ، فيكثروا من وضع القواعد ، ويفرضوا العديد من التفصيلات ، ظانين أنها هى التى يمكن أن تعيد الجذوة الخامدة إلى الاشتعال ، بل إنهم قد يلجأون إلى معاقبة الخارجين على تلك القواعد والتفصيلات ، التى لم ترد أساسًا فى جوهر الدين الأصلى ، لكى يمسكوا بالأتباع فى دائرة سلطانهم ، ومع كل تلك القواعد والقيود فإنهم يستمرون فى ممارسة وظائفهم التقليدية داخل المجتمع ، دون أن يزعموا أنهم نجحوا فى استعادة جذوة الدين الأولى ، التى كانت متوهجة 0

وفى ظل هذه الظروف ، التى تشمل من ناحية محاولات رجال الدين إعادة إحياء جذوره فى نفوس الأتباع ، ومن ناحية أخرى انصراف الجماهير إلى مشاغل حياتهم اليومية – يظهر عدد من الأفراد ، الذين يشكلون مجموعة الجماعة الصوفية ، فيقتحمون التجربة الدينية على أساس فردى ، وبنفس الأسلوب والروح اللذين بدأ بهما الدين فى مرحلته الأولى . وهكذا فإن الصوفى هو ذلك الإنسان الذى يخرج من بين الجموع المتمسكة بالدين الشكلى ، لكى يلقى بنفسه – بعد أن يتجرد من مشاغل الدنيا ومباهج الحياة المادية – فى أعماق تجربة صعبة ، بل شديدة الصعوبة ، يتحمل فيها الكثير من الصدمات ، ويتجاوز العديد من العقبات التى لا يجرؤ عامة الناس على تجاوزها . ومن العجيب أنه يفعل ذلك بين هجوم رجال الدين ، ودهشة الجماهير .. دون أن يتعاطف معه أىّ منهما !!

إن خوص تلك التجربة الصوفية على نحو فردى ، أو من خلال مجموعة محدودة من الأفراد – قد وُجد فى كل الأديان ، ويكاد يكون هو رد الفعل الطبيعى لخمود جذوة الإيمان الأول فى النفوس نتيجة مرور الزمن ، وانشغال الناس بأمور دنياهم ، سواء كانت قاسية أو مرفهة. ويمكن القول باطمئنان إن غياب هذه الحقيقة من عقول المستشرقين الذين درسوا التصوف الإسلامى هو أحد أهم الأسباب التى دفعتهم لمحاولة البحث هنا أو هناك عن مصدر أجنبى للتصوف الإسلامى ، وخاصة فى الأديان السماويه أو الوضعية السابقة على الإسلام . ولو كانوا منصفين لأدركوا أن ظاهرة التصوف قد وجدت فى كل الأديان بدون استثناء . فى اليهودية ظهرت طائفة القبّالة ، وفى المسيحية ظهر العديد من القديسين الصوفيين والصوفيات ، وفى البوذية يوجد الكثير من عناصر التصوف الخالص .. ولم يقل أحد بأن هذه الظاهرة الصوفية قد انتقلت من أحد تلك الأديان إلى الآخر ، وإنما الذى كان يهم المستشرقين هو محاولتهم المستميتة إرجاع التصوف الإسلامى بالذات إلى مصدر سابق عليه ، أو حتى معاصر له !

إن هذه الفكرة التى نطرحها اليوم تفسر فى وقت واحد ، أولاً : ظهور التصوف الإسلامى فى جوهره مرتبطا بالدين الإسلامى ، وثانيًا : عدم استمداده من مصادر أخرى أجنبية عنه . ودليلنا على ذلك أن التصوف فى حقيقته عبارة عن تجربة فردية ، يخوضها الإنسان بنفسه ، متجردًا عن شئون الدنيا ومطالب الجسد التى تجذب وتستهلك جميع الناس من حوله ، وحتى من قبله ، ومتدرجا بعد ذلك من مقام إلى مقام حتى تغمره أنوار السعادة التى لا يشعر بها أحد غيره 0 لقد ظهر الصوفية فى شبه الجزيرة العربية ، والعراق ، وإيران ، ومصر ، وشمال إفريقيا ، وفى الأندلس .. ظهروا فى هذا الأماكن المختلفة ، وعلى فترات غير متقاربة ، وكلهم توجد لديهم تلك النزعة الزهدية الخالصة ، وهذا التوجه الروحى العميق ، ومنهما انبثقت بعض الأفكار والنظريات الصوفية التى يمكن فى النهاية أن نقارنها بمثيلاتها من الأفكار والنظريات التى ظهرت فى تصوف الأديان الأخرى .

فى داخل الأسرة الواحدة ينشأ الأبناء والبنات متساويين فى جميع الظروف . يأكلون من نفس الطعام ، ويرتدون ملابس متشابهة ، ولهم جميعا معاملة متساوية من الأب والأم ، لكننا نلاحظ أن أحدهم يميل إلى العدوانية ، وغيره يكون هادئًا ووديعا ، أحدهم تتفتح رغباته على امتلاك الدنيا ، والآخر يرضى بالقليل ، وقد يكتفى أحيانا بالأقل . ونلاحظ فى نفس الوقت أن الأبوين اللذين أنجبا هؤلاء الأولاد يتابعان ويوجهان وقد يعاقبان ، لكنهما لا يستطيعان أبدًا تغيير تلك النزعات الفطرية أو الحد من امتداداتها .. وما نلاحظه داخل الأسرة ، يمكن أن نتابعه فى دائرة الصداقة فى محيط الشارع والحى ، ثم على مستوى الزمالة فى مجال العمل : أكثر الناس يمارسون حياتهم اليومية بصورة مادية خالصة ، والقليل القليل هم الذين يرفضون ذلك ، وينزعون إلى آفاق أوسع من الروحانية ..

ومع ذلك ، فإن كانت هذه النزعة الروحية تنشأ بصورة فطرية منذ البداية ، إلا أنها قد تنبثق أيضا وسط تقلب الإنسان فى النعيم الدنيوى الذى يغمره من كل الجهات .. هناك لحظة فارقة يتوقف فيها بعض الأفراد ، المتمتعين بالثروة والسلطة والجاه ، ويتساءلون : ما هذا الذى أفعله ؟ ولماذا ؟ وهل من أجل ذلك خلقت ؟ حينئذ يتغير طعم كل شىء ، وتتحول الألوان إلى نقيضها ، فيصير الأبيض أسود ، والأسود أبيض ، ويقرر الإنسان بكل حسم وحزم أن يخرج من كل ذلك ، لكى يمارس حياة الزهد والتقشف ، ويستعذب شقاء الفقر والحرمان لكى ينعم بسعادة الروح . يقال إن بوذا ، الأمير الهندى ابن الملك ، قد مر بتلك التجربة . وفى الإسلام : حدث نفس الشىء لإبراهيم ابن أدهم ، الذى كان أميرًا فى خراسان ، وبينما يصطاد الغزلان مع أصحابه فى الغابة ، ورد له خاطر جعله ينزل عن فرسه  ، ويجلس متأملا فى ظل شجرة ، وعندما مرّ به فقير يسأله معروفًا ، منحه الفرس ، وتبادل معه ثيابه ، وتجرد تمامًا لحياة الزهد ، حتى صار من أكبر شيوخ الصوفية فى الإسلام .

وهنا قد نتساءل : هل كان من الممكن أن يفعل ذلك إبراهيم بن أدهم لأنه تأثر بتجربة بوذا ؟ أم لأن تلك الأسئلة الوجودية التى طرحت على بوذا ، والتى من الممكن جدا أن تطرح على أى إنسان عاقل ، هى نفسها التى طرحت على إبراهيم بن أدهم ؟ ثم هل يمكن أن يصل التأثير (الثقافى) إلى حد تغيير المسار العملى فى الحياة إلى هذا الحد ؟!

الواقع أنه قد آن الأوان بالنسبة لدارسى التصوف ، سواء من المستشرقين أو العرب ، أن يتخلوا عن مسألة البحث فى الأصول عن مصادر من هنا أو هناك ، وأن يتجهوا بدلاً من ذلك إلى دراسة ظاهرة التصوف فى جوهرها ، وفى انعكاساتها النفسية والسلوكية فى حياة أصحابها ، سواء كانوا شيوخًا كبارًا أم مريدين ما زالوا يخطون على أول الطريق .

وأخيرًا فإننا نميل إلى أن التصوف ظاهرة إنسانية ، وليس معنى ذلك أنها عامة تشمل (جميع) البشر ، ولكن المقصود بإنسانيتها أنها تظهر فى أى زمان ومكان ، ولا تكاد تختلف فى مجتمع عن غيره سوى اختلافات طفيفة فى التفاصيل ، وهى دائمًا تنبت وتنمو ثم تزدهر وتثمر بجوار شجرة الدين ، وتستمد غذاءها من تربتها ، بل وتستظل بغصونها وأوراقها ، وهذا ما يعطيها خصوصيتها ، ويحدد معالم شخصيتها .


*  *






















التصوف الإسلامى فى الدراسات الحديثة


لا شك فى أن دراسة التصوف الإسلامى قد خطت خلال النصف الأول من القرن العشرين ، خطوات واسعة 0 ومن الملاحظ أن المستشرقين قد قاموا بدور كبير فى هذا المجال 0 فقد نشروا الكثير فى مخطوطات التصوف ، كما درسوا مبادئه ونظرياته ، وبحثوا كثيرا فى أصوله ومنابعه ، ثم ما لبث أن جاء من بعدهم الباحثون العرب – ومعظمهم درس فى الجامعات الغربية – فأضافوا إلى جهد المستشرقين جهدا آخر ، يتميز بالمعرفة العميقة للغة التصوف ، وبمعايشة حقيقية للتراث الإسلامى ، وترتب على ذلك أن صححوا بعض آراء المستشرقين ، كما طوروا بعضها الآخر ، وأضافوا إليه ، بحيث يمكن القول إن دراسة التصوف الإسلامى – تبعا للمنهج العلمى الحديث – تعتبر من أكثر الدراسات الإسلامية تطورا فى الوقت الحاضر 0

لكن المتأمل فى كل من دراسات المستشرقين والعرب للتصوف الإسلامى يجد اتجاهين من البحث العلمى ، يؤكد الفارق بينهما نوع الهدف الذى وضعه كلا الفريقين لأبحاثهما ، وتعمل فيه بدون شك الدوافع الخاصة من ناحية، وظروف البيئة الثقافية من ناحية أخرى 0 وليس هنا مجال تحديد خصائص كل منهما ، بقدر ما يهمنا فى هذا المجال ، التعرف على أبرز الدارسين من المستشرقين والعرب فى مجال الدراسات الصوفية ، مع إلقاء الضوء على أهم أعمالهم والميادين التى تخصص فيها كل منهم 0

أولاً : المستشرقون :

تجىء دراسة المستشرقين للتصوف الإسلامى فى إطار دراستهم للدين الإسلامى 0 ومن المعروف أن أبحاثهم الأولى حول الإسلام صدرت أساسا عن دافع سياسى مناهض ، ودافع دينى منافس ، ومن ثم ، فقد تركزت اهتماماتهم فى هذا الصدد حول البحث عن مصدر أو مصادر الدين الإسلامى ، والعوامل الأجنبية التى عملت فى تكوينه وانتشاره 0 وقد ظلت معظم أبحاث المستشرقين الأولى تذهب إلى أن الإسلام خليط من اليهودية والمسيحية وديانات الشرق القديمة ، وهم بذلك يستبعدون إمكان الوحى الإلهى المنزل على الرسول ، r وفى هذا الاتجاه ، حاولوا أن يجعلوا من رسول الإسلام إما إنسانا عبقريا ، أو ثائرا مسيحيا نهض فى وجه الكنيسة([4]) 0

ولكن الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وبداية القرن العشرين شهدا تحولا أساسيا فى مسار الاستشراق بصفة عامة 0 فقد تعمقت معرفة أصحابه باللغة العربية ، والثقافة الإسلامية – وهى ليست معرفة سهلة بالنسبة للدارس الأجنبى ، الذى يعيش فى حضارة مختلفة ، وبيئة ثقافية متباعدة – وقد تم التغلب على ذلك نتيجة كثرة الرحلات التى بدأ يقوم بها هؤلاء المستشرقون إلى بلاد العالم الإسلامى ، والعيش أحيانا فيه ، والدراسة ، فى أحيان أخرى بمعاهده الأصيلة ، بالإضافة إلى ثورة وسائل الاتصال التى سهلت تبادل المعلومات وسرعة انتقالها من جانب لآخر ، كذلك فإن المستشرقين الجدد التزموا أكثر ممن سبقهم باتباع المنهج العلمى الحديث ، الذى يستبعد الأغراض الخاصة ، ويكرس نفسه لدراسة الظواهر بموضوعية كاملة ، أو شبه كاملة قدر الإمكان 0

فى انجلترا : كان الاستشراق الإنجليزى أسبق من غيره فى دراسة العالم الإسلامى ، وذلك لسبب بسيط ، هو أن بريطانيا اتجهت منذ وقت مبكر إلى استعمار أجزاء كبيرة منه 0 وقد أدى احتلالها لمصر باعتبارها الطريق إلى مستعمرتها الكبرى فى الهند – إلى زيادة الاهتمام بأحوال العرب والمسلمين0

وبالنسبة إلى التصوف الإسلامى نجد أ 0 ح 0 براون Browne       (ت 1926) ، الذى تخصص أساسا فى الدراسات الإيرانية ، يؤكد على المصدر الفارسى للتصوف الإسلامى 0 ومن أشهر مؤلفاته : تاريخ الأدب الفارسى (فى أربعة مجلدات) ط0 أولى 1903 ، ط0 سابعة 1929 ، وطائفة البختاشية 1907م 0

وقد تبعه فى هذا الاتجاه المستشرق الكبير نيكلسون Nicholson      (ت 1945) ، لكنه أكد – من ناحية أخرى – على تغلغل عناصر كثيرة من فلسفة الأفلاطونية المحدثة فى التصوف الإسلامى 0

ويتمثل دور نيكلسون بوضوح فيما نشره من مخطوطات صوفية هامة، نذكر من بينها : ترجمان الأشواق لابن عربى ، واللمع للطوسى 0 وكذلك فيما ترجمه إلى اللغة الإنجليزية من مؤلفات صوفية فارسية ، وخاصة : مثنوى جلال الدين الرومى ، وتذكرة الأولياء للعطار ، وكشف المحجوب للهجويرى ، أما دراسات نيكلسون فهى نموذج جيد للبحث العلمى الموضوعى 0 وقد نقل منها إلى اللغة العربية : "الصوفية فى الإسلام" 1951 ترجمة الأستاذ نور الدين شريبة ، "والتصوف الإسلامى وتاريخه" 1956 ترجمة د0 أبو العلا عفيفى 0

ويجىء بعد كل من براون ، ونيكلسون المستشرق الإنجليزى الكبير آربرى Arberry ، الذى كرس حياته العلمية كلها لدراسة التصوف الإسلامى ، ونشر أهم مخطوطاته ومنها : التعرف للكلاباذى سنة 1934 ، والمواقف للنفرى ، مع ترجمة انجليزية سنة 1935 ، والتوهم للمحاسبى سنة 1937 0

كذلك تغطى دراسات آربرى جوانب كثيرة وهامة من التصوف الإسلامى 0 وقد تخرج على يديه عدد كبير من الدارسين العرب ، الذين وفدوا على انجلترا لاستكمال دراساتهم العليا فى الدراسات الإسلامية عموما ، وفى التصوف الإسلامى بصفة خاصة 0

وفى فرنسا : نلتقى بأكبر مستشرق تخصص فى التصوف الإسلامى على الإطلاق ، وهو لوى ماسينيون Massignon ، الذى ركز جهوده ، حول شخصية الحلاج ، الصوفى ، الذى قتل سنة 309 هجرية متمسكا بنظريته الخاصة التى ترى إمكانية حلول الله – تعالى – فى الإنسان 0 لكن            ماسينيون – على الرغم من أنه يرى فى الحلاج مسيحا إسلاميا – قد قرر أن التصوف الإسلامى يرجع لمصدر قرآنى 0 وقد تتبع تطوره منذ الفترة الأولى لنشأة الإسلام ، حتى عصر الحلاج ، وكذلك بعده ، وبذلك أصبح كتابه :     La Passion d' al-Hallaj (4 مجلدات باريس ط 1973) الذى يمكن ترجمته إلى آلام الحلاج ، أو عذاب الحلاج – يمثل مرجعا أساسيًا لكل من يتصدى لدراسة التصوف الإسلامى كله 0 وقد حقق ما سينيون أيضا : "مجموعة نصوص غير منشورة حول تاريخ التصوف الإسلامى" ، باريس 1919 ، و"أخبار الحلاج" سنة 1957 ، كما نشر دراسة حول "أصول المصطلح الصوفى" باريس 1954م 0

كذلك نلتقى فى فرنسا أيضًا بمستشرق آخر ، هو هنرى كوربان H.Corbin الذى حاول الربط بين المذاهب الباطنية فى العالم الإسلامى ، وبين التصوف (التصوف + التشيع + الإسماعيلية) وكان يطمح من وراء ذلك أن يقيم علاقة بين هذا المجموع الروحى للإسلام – فى رأيه – وبين الروحانية المسيحية فى جوهرها البعيد عن الكنيسة الرسمية القائمة 0 وقد نشر كتابه  الهام : "الخيال الخالق عند محيى الدين بن عربى" – باريس 1958 ، وأيضا كتابه الضخم : الفكر الإيرانى (4 مجلدات) ، "وتاريخ الفلسفة الإسلامية ، منذ الينابيع حتى وفاة ابن رشد" – وقد ترجم هذا الكتاب الأخير إلى اللغة العربية – بيروت 1966م 0

وفى أسبانيا : التى يتميز فيها الاستشراق بطابع قومى واضح ، بمعنى أن دارسيها لا يكادون يهتمون فى الغالب إلا بأسلافهم المسلمين الذين لمعوا أثناء ازدهار الحضارة الأندلسية – تجد آسين بلاثيوس Asin Palacios (ت1944) ، وهو من أكبر المستشرقين الأسبان على الاطلاق ، قد اهتم بالتصوف الإسلامى وخصص له جزءا كبيرا من جهوده 0

يركز بلاثيوس على تأثر التصوف الإسلامى بالرهبنة المسيحية ، وقد أبرز عناصر كثيرة يلتقى – أو يتشابه – فيها هذان المجالان 0 كذلك درس بعض أعلام التصوف الأندلسى ومنهم ابن مسرة ، وابن العريف ، ابن عباد الرندى – الذى رأى فيه رائدا للقديس جان دى لاكروا 0 كما ألف كتابا هاما عن ابن عربى – مدريد 1931 0 وقد ترجمه إلى العربية د0 بدوى – القاهرة 1965م 0

وفى ألمانيا : يبرز المستشرق الكبير ريتر Ritter الذى قام بالتنقيب فى مكتبات تركيا عن المخطوطات الصوفية ، وحقق الكثير منها ، ويتركز عمله الأساسى حول الشاعر الصوفى الفارسى فريد الدين العطار سنة 1939 ، كما كتب عن عمر الخيام سنة 1929 والحسن البصرى 1933 ، والأنصارى الهروى ، ونشر بحثا عن الصوفية فى الإسلام 1952م 0

ومن بين تلاميذ ريتر ، يتميز ف 0 ميير F.Meier الذى اهتم بالباطنية الإسلامية (على الهمذانى ، وعزيز النسفى) وقد اشتهر ميير بتحقيقاته اللغوية لبعض المخطوطات الصوفية 0 ومما يذكر له : نشرته الممتازة لكتاب : "فوائح الجمال" لنجم الدين الكبرى سنة 1947 ، مصحوبة بدراسة شاملة لنتاج هذا المؤلف الصوفى 0

تلك نبذة سريعة عن أهم المستشرقين – وليس كلهم – الذين درسوا التصوف الإسلامى 0 وتجدر الإشارة إلى أن أعمالهم إذا لم تكن مهمه جدا بالنسبة إلى القارئ العربى العادى ، فإنها ذات أهمية بالغة لكل من يتصدى لدراسة التصوف الإسلامى فى الوقت الحاضر([5]) 0 وقد تبين من خلال العرض السابق ، أن أغلب أعمال هؤلاء المستشرقين لم تترجم حتى الآن إلى اللغة العربية ، كى تتسنى الإفادة مما تحتوى عليه من معلومات قيمة ، ومنهج منطقى منظم من البحث العلمى 0

ثانيًا : الدارسون العرب :

سبقت الإشارة إلى أن الدارسين العرب فى مجال التصوف الإسلامى قد صححوا كثيرا من آراء المستشرقين ، وطوروا بعضها الآخر ، وأضافوا إليه0 ولا شك فى أنهم ، من زاوية محددة ، أقدر على معالجة هذا المجال الصعب ، الذى يحتاج إلى معايشة عميقة ، ومعرفة واسعة بلغة التصوف الخاصة من ناحية ، وروح الثقافة الإسلامية من ناحية أخرى 0

وتتميز أبحاث الدراسين العرب بالخلو من الدوافع الخاصة التى وجهت أحيانا – بعض أعمال المستشرقين وجهة بعيدة – قليلا أو كثيرا – عن الاتجاه الموضوعى الخالص فى البحث العلمى ، ولكنها فى المقابل من ذلك ، تتسم – أحيانا – بنبرة عالية فى الدفاع عن التصوف الإسلامى ، واعتباره لدى بعض الدارسين هو الحل الوحيد والأمثل لمشكلات المجتمع الإسلامى 0

ومع ذلك ، فإن كل واحد من الدارسين العرب يتميز بطابعه الخاص ، والأصيل وينصب اهتمامه حول موضوعات معينة توفر على دراستها بأمانة وجدية 0 وسوف نكتفى هنا يذكر رواد هؤلاء الدارسين ، الذين تعتبر أعمال كل منهم مرجعا أساسيا فى الميدان الذى تخصص فيه :

أبو العلا عفيفى : درس فى انجلترا 0 وهو تلميذ المستشرق الإنجليزى نيكلسون 0 وقد تخصص فى فلسفة ابن عربى الصوفية وكتابه عنها ترجم أخيرا للعربية ، وهو بعنوان : The Myslical philosophy of Muhyid-din lbn Arabi. Cambridge. 1939 وبعد عودته لمصر ، حقق رسالة الملامتية للسلمى، وفصوص الحكم لابن عربى ، مصحوبا بشرح واف ، وترجم لنيكلسون مجموعة محاضرات بعنوان : (فى التصوف الإسلامى وتاريخه) ، كما نشر أخيرا كتابا لخص فيه أفكاره عن التصوف الإسلامى بعنوان : "التصوف : الثورة الروحية فى الإسلام: سنة 1963م 0

محمد مصطفى حلمى : كان من أبرز من تخصصوا فى ابن الفارض، الشاعر المصرى الشهير ، الذى تغنى فى أشعاره بالحب الإلهى ، وله فيه كتاب (ابن الفارض والحب الإلهى) و(ابن الفارض سلطان العاشقين) ثم نشر كتابا شاملا عن التصوف بعنوان (الحياة الروحية فى الإسلام) سنة 1945م 0

توفيق الطويل : من كبار أساتذة الفلسفة فى مصر 0 ويهمنا هنا كتابه القيم عن (التصوف فى مصر إبان العصر العثمانى) المنشور سنة 1946 والذى تناول فيه مظاهر التصوف العملى فى تلك الفترة ، ودرس الطرق الصوفية ، والظروف التى ازدهرت فيها 0

زكى مبارك : أديب ، ودارس للأدب أساسا ، لكنه تعرض للتصوف الإسلامى فى رسالته للدكتوراه التى قدمها للجامعة المصرية سنة 1937 بعنوان (التصوف فى الأدب والأخلاق) وقد نشرت فى جزئين سنة 1938 ، تحدث فيهما عن السكندرى ، وابن عربى ، والحلاح ، وابن الفارض ، والشعرانى ، والنابلسى ، وذى النون المصرى 0

ومن الطبيعى أن يغلب التحليل الأدبى على التحليل الفلسفى للظواهر الصوفية التى تناولها 0 ولكنه يقدم كثيرا من المباحث المبتكرة 0 ومنها على سبيل المثال موضوع : الحياة فى مصر من خلال كتابات الصوفية ، الذى يمكن أن يضيف كثيرا فى مجال الدراسات الاجتماعية 0

محمد أبو ريان : تلميذ المستشرق الفرنسى كوربان 0 تخصص فى فلسفة الإشراق الصوفية ، ودرس أكبر ممثل لها فى العالم الإسلامى، وهو السهروردى (المقتول سنة 587هـ)، وله فى هذا الصدد كتابان : أحدهما محقق بعنوان (هياكل النور) للسهروردى ، والثانى دراسة تفصيلية بعنوان : السهروردى المقتول وفلسفته الإشراقية 0

على سامى النشار : من أشهر دارسى الفلسفة الإسلامية 0 درس فى أسبانيا0 وكتب عدة مجلدات ضخمة عن : نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام 0 خصص الأول لعلم الكلام ، والثانى للشيعة ، والثالث للتصوف 0 وهو يتميز باتجاهه السلفى الواضح 0 ولكنه يعرض التصوف الإسلامى بصورة شاملة ، بدءا من آراء المستشرقين حول مصدره ، ثم يتتبع خطواته الأولى لدى العباد والزهاد الأوائل 0 كما يعرض لآراء ابن تيمية فى مدى اقتراب أو ابتعاد الأصول الصوفية من الدين الإسلامى 0

عبد الرحمن بدوى : من أكثر الدارسين العرب إنتاجا فى مجالات التحقيق ، والترجمة ، والتأليف 0 وهو باحث موسوعى تغطى مؤلفاته جوانب متنوعة من الفكر الفلسفى الإسلامى 0 نشر فى مجال التصوف : رسائل ابن سبعين ، وترجم كتاب ابن عربى حياته وتصوفه لأسين بلاثيوس ، كما ألف (شطحات الصوفية) سنة 1949م ، و(رابعة العدوية) 0 وأخيرا نشر د0 بدوى كتابا خاصا عن التصوف الإسلامى يبدو أنه يعتبر حلقة أولى فى مشروع طويل بعنوان (تاريخ التصوف الإسلامى : من البداية حتى نهاية القرن الثانى الهجرى) الكويت 1974م 0

محمود قاسم : من أكثر دارسى الفلسفة الإسلامية تنوعا فى دراساته 0 كرس الفترة الأولى من حياته العلمية لدراسة ابن رشد ، والاتجاهات العقلية فى الإسلام ، كما ترجم عددا من الكتب فى علم الاجتماع ، وألف كتابا فى المنطق الحديث ومناهج البحث العلمية ، ولكنه فى الفترة الأخيرة من حياته اتجه إلى دراسة فلسفة ابن عربى ، وأعجب بها كثيرا ، وعقد بين هذا الصوفى وبين الفيلسوف ليبنتز Leibnitz مقارنة – تعتبر الأولى من نوعها بعنوان (محيى الدين بن عربى وليبنتز) القاهرة 1972 0 كما كتب بحثا هاما عن نشأة التصوف الإسلامى ، وبحثا آخر عن التصوف السنى ، وخاصة عند المحاسبى، وله كتاب "الخيال فى مذهب محيى الدين بن عربى" 0

عبد الحليم محمود : شيخ الأزهر الأسبق 0درس فى فرنسا الحارث المحاسبى وطبع كتابا عنه بالفرنسية 0 ثم أعاد كتابته باللغة العربية 0 ويعتبر الشيخ عبد الحليم محمود أهم باحث نقل التصوف من مجال الجامعة والدراسات الأكاديمية إلى المستوى الشعبى ، فنشر مجموعة كتب تعرّف بأعلام الصوفية من أمثال أبى العباس المرسى ، وأبى الحسن الشاذلى ، والغزالى ، والمحاسبى، وغيرهم 0 وذلك بالإضافة إلى تحقيقه عددا من مصادر التصوف الأساسية ، مثل ، المنقذ من الضلال للغزالى ، واللمع للطوسى ، والرسالة للقشيرى والرعاية للمحاسبى 0

أبو الوفا التفتازانى : تخصص بالكامل فى دراسة التصوف الإسلامى ، وقد درس فى كل من أسبانيا ، والولايات المتحدة ، وهو باحث موضوعى أصيل ، يتميز بتحليلاته العميقة ، ودراساته المستوعبة للشخصيات التى تناولها، وأهمها : "ابن عطاء الله السكندرى وتصوفه" و"ابن سبعين وفلسفته الصوفية" ، وله دراسة قيمة عن الطرق الصوفية فى مصر ، وكذلك : الطريقة الأكبرية (نسبة إلى الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى) أما كتابه "مدخل إلى التصوف الإسلامى "فإنه يحسم كثيرا من القضايا التى تردد فيها الباحثون من قبل 0 ويمكن القول بأن د0 التفتازانى يعايش الصوفية عن قرب ، فقد أختير ليشغل منصب "شيخ مشايخ الطرق الصوفية فى مصر" وذلك بالإضافة إلى عمله الجامعى ، كأستاذ للتصوف والفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة القاهرة 0

محمد كمال جعفر : درس فى انجلترا 0 وتخرج على آربري 0 تخصص فى سهل التسترى ، أحد رواد التصوف فى القرن الثالث الهجرى ، وحقق معظم تراثه الصوفى 0 كما حقق أخيرا (اصطلاحات الصوفية) للكاشانى0 ومن أهم مؤلفاته : "التصوف : طريقا وتجربة ومذهبا" القاهرة 1970 ويتميز د0 جعفر بفهم عميق للنصوص الصوفية القديمة ، وأسلوب أدبى فى طريقة عرضها 0

كامل مصطفى الشيبى : باحث عراقى 0 تتلمذ على كل من د0 عفيفى، ود0 النشار 0 وتخصص فى موضوع هام هو (الصلة بين التصوف والتشيع) وجمع أبحاثه أخيرا تحت هذا العنوان فى جزئين : خصص الأول منهما للعناصر الشيعية فى التصوف ، والثانى للعناصر الصوفية فى التشيع 0 ط ثالثة بيروت 1982 0

عثمان يحيى : باحث سورى 0 أعطى كل جهوده لمجال التحقيق العلمى للمؤلفات الصوفية ، وعملية إحصائها 0 وقد حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون فى إحصاء مؤلفات ابن عربى ، كما نشر (ختم الأولياء) للحكيم الترمذى – بيروت 1965 ، وقد قام ، قبل وفاته ، بجهد مشكور فى تحقيق بعض أجزاء كتاب (الفتوحات المكية) لابن عربى 0

*  *

تلك نبذة سريعة عن أشهر – وليس جميع – دارسى التصوف الإسلامى فى العالم العربى ، ولا شك فى أن مؤلفات كل منهم قد أصبحت تعتبر مرجعًا أساسيًا فى مجال تخصصه 0 وذلك بالإضافة إلى أنهم شغلوا جميعا منصب الأستاذية فى الجامعات التى عملوا بها ، ومعنى هذا أن عددا كبيرا من الطلاب قد تخرجوا على أيديهم ، كما أنهم كونوا جيلا من شباب الدارسين ، الذين بدأوا ينشرون التراث الصوفى محققا ، ويبرزون عناصر القوة فيه 0

لكن يبقى أن يحاول الدارسون المحدثون بحث التصوف الإسلامى المعاصر فى مظاهره المختلفة ، وخاصة لدى الطرق الصوفية([6]) ، أو فى النتاج الأدبى والفكرى لدى بعض الكتاب 0

وسوف تظل دراسة الصلة بين التصوف الإسلامى وعناصر الثقافة الأخرى من ناحية ، وبينه وبين واقع المجتمعات الإسلامية التى ازدهر فيها من ناحية أخرى – من أهم الواجبات الملقاة على دارسى التصوف الجدد 0 كذلك يمكن القول بأن التراث الأدبى والفكرى الذى خلفه لنا صوفية المسلمين ما زال حتى اليوم ملقى تحت غبار السنين ، دون عناية كافية ، مع أن إعادة بعثه ، واكتشافه ، وتسليط الضوء عليه مما يساعد كثيرا فى أعطاء دفعة للأدب والفكر الإسلامى بصفة عامة فى عصرنا الحاضر 0

إن التصوف ما يزال يلعب دورا هاما فى حياة مسلمى أفريقيا ، وقد كان وراء نشر الإسلام نفسه فى بعض مناطقها 0 وبعض الدعوات الإصلاحية التى ظهرت فى العصر الحديث ذات صلة عميقة بالتصوف 0 وفى مقدمتها "الدعوة السنوسية" 0 وهذا ما يعطى دراسة التصوف أهمية أخرى كواحد من روافد التجديد الدينى ، والبعث الروحى فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة 0



ملاحظات على الدراسات السابقة :

أولاً : على دراسات المستشرقين :


أولاً : سبقوا العرب والمسلمين إلى البحث فى التراث الصوفى ، فاكتشفوا العديد من مخطوطاته ، وقاموا بتحقيقها كليا أو جزئيا ، ثم مع ترجمتها ودراستها بلغاتهم 0

ثانيًا : انصب اهتمامهم أساسًا على بيان مصدر التصوف الإسلامى فى البيئات والمذاهب والأديان السابقة على الإسلام ، ولم يتجهوا ببساطة إلى  تلمس هذا المصدر فى مصادر الإسلام الأولى ، وهى القرآن الكريم ، وحياة الرسول r 0

ثالثًا : غلب على بعض أنواع الاستشراق ، وخاصة الأسبانى ، الاقتصار على دراسة التصوف فى البيئة الأندلسية فقط ، دون التطرف للصوفية فى بلاد المشرق العربى 0 ولذلك اهتموا بدراسة (ابن مسرة ، ابن برجان ، ابن طفيل ، ابن عربى 00) 0

رابعًا : انطلاقًا من أن معظم المستشرقين كانوا مسيحيين مخلصين لدينهم ، فقد حاولوا ربط التصوف الإسلامى بالمسيحية كما هو الحال لدى ماسينيون ، وكوربان ، وآسين بلاثيوس 00

وأخيرًا فإن دراسات المستشرقين قد شابها – أحيانا – بعض الأخطاء التى وضعوا فيها نتيجة أمرين : الأول : عدم استيعابهم روح الدين الإسلامى واقتصارهم أحيانا على النصوص والظروف الخارجية ، والثانى -عدم إلمامهم العميق باللغة العربية ومعانيها وسياقاتها إلى جانب اللغة الصوفية ورموزها الخاصة جدا 0


ثانيًا : على الدراسات العربية :

أولاً : إن الذين تخصصوا أساسًا فى التصوف الإسلامى كانت لهم إسهاماتهم الواضحة والأصيلة فى دراسته ، ومع ذلك فإن زملاءهم شاركوهم تلك الأصالة ببعض البحوث المتميزة كما هو الحال لدى إبراهيم مدكور ، وعبد الرحمن بدوى ، ومحمود قاسم 0

ثانيًا : أن هذه الدراسات تميزت بالفهم العميق للنصوص الصوفية التى تم نشرها لأول مرة ، أو التى أعيد نشرها بعد أن قام المستشرقون بنشرها فى القرن التاسع عشر ، أو بداية العشرين 0

ثالثًا : أن موضوع مصدر التصوف لم تعد له الأهمية التى كانت لدى المستشرقين ، ولذلك اتجهت الدراسات العربية إلى تناول موضوعات رئيسية فى التصوف الإسلامى ، سواء بالنسبة للشخصيات الصوفية ، أو للمذاهب والاتجاهات 0

رابعًا : أن التصوف الإسلامى قد بدأ يأخذ بفضل تلك الدراسات    سمعة طيبة لدى الدارسين الشباب ، فأقبلوا على التخصص فيه ، وعمل   رسائل الماجستير والدكتوراه ، وبعضها يشتمل على نصوص لم تنشر من   قبل 0

وأخيرًا : على الرغم من تلك الدراسات الأكاديمية المتخصصة فى التصوف الإسلامى ، فإنه ما زال موضع شك ، وأحيانا موضع جهل كامل لدى الجماهير 0 وهناك من يسأل من المثقفين أنفسهم : ما هو التصوف بالضبط ؟ وهل هو حلال أم حرام ؟


*    *


مصادر التصوف الإسلامي

(ببليوجرافيا تحليلية)


يمكن تصنيف مصادر التصوف الإسلامي إلى قسمين رئيسيْن : أحدهما يختص بمادة التصوف ذاتها التي تشتمل على المبادئ والأصول وأقوال الصوفية كما تحتوي نشأة التصوف، وتطوره واتجاهاته، ويختص القسم الثاني بالتراجم أي بحياة الصوفية التي تشمل المولد والوفاة والسيرة التي تمتد بينهما بما في ذلك أهم أعمال الصوفي، والأحداث التي تعرض لها.

وواضح أن الصلة بين القسمين قوية جدا إلى حد الامتزاج أحيانا، لأن بعض مصادر مادة التصوف قد خصصت جزءا منها إلى التراجم (كما فعل القشيري في الرسالة، والهجويري في كشف المحجوب). كما أن كتب التراجم كلها مليئة بأقوال الصوفية وآرائهم التي تكون جزءا هاما من المادة الصوفية نفسها.

وسوف نتحدث – فيما يلي – عن كل قسم على حدة، بغرض الحفاظ على الشخصية المستقلة له، والتي كان يقصد إليها المؤلفون فيه.

لكننا سنقدم قبل كل قسم قائمة مرتبة – زمنيا – بأهم المؤلفات التي ظهرت فيه، حتى يتبين تطور حركة التأليف، والوقت الذي بدأت معه، وتوقفت تقريبا عنده:



قائمة بمصادر المادة الصوفية

القـرن الهجري

اسم المصدر


المؤلـف

تاريخ وفاته

الثالث


الرابع



الخامس


السادس


السابع

الرعاية لحقوق الله

خاتم الأولياء

اللمع في التصوف

التعرف لمذهب التصوف

قوت القلوب

الرسالة

كشف المحجوب "بالفارسية"

إحياء علوم الدين

الغنية لطالبي طريق الحق

عوارف المعارف

الفتوحات المكية


المحاسبي

الحكيم الترمذي

الطوسي

الكلاباذي

المكي

القشيري

الهجويري

الغزالي

الجيلاني

السهروردي

ابن عربي

243هـ

285هـ

378هـ

380هـ

386هـ

465هـ

465هـ

505هـ

561هـ

632هـ

638هـ

الرعاية لحقوق الله: الحارث المحاسبي (ت 243هـ)

أشهر كتب التحليل النفسي في تاريخ التصوف الإسلامي. تناول فيه المؤلف مفهوم التقوى، ومحاسبة الإنسان نفسه على أفعاله وأقواله وخواطره. ثم مفهوم التوبة ودوافعها وكيفيتها، كما حلل ظاهرة الرياء، وأسبابه الداخلية ومظاهره، وطريقة التخلص منه، وتعرض لموضوع الصداقة، ونبه على ضرورة النجاة من أصدقاء السوء، وخاصة إذا خاف الإنسان معهم على دينه. ودرس بالتفصيل شعور العجب البغيض، وكذلك الكبر، واغترار الإنسان بعمله، سواء كان هذا العمل دينيا أو دنيويا، ثم عرض لموضوع الحسد (الذي درسناه في موضع آخر) وختم الكتاب أخيرا بنبذة عن أسلوب تربية المريد، ورعايته من حيث الظاهر والباطن، حتى لا ينحرف عن طريق الحق. وقد طبع الكتاب في مصر والعراق، بدون تاريخ، الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود (بالاشتراك).

خاتم الأولياء : الحكيم الترمذي (ت حوالي 285هـ)

يعتبر هذا الكتاب من أهم كتب الحكيم الترمذي، ومن أوائل ما كتب في موضوع الولاية الصوفية، وعلاقتها بالنبوة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان من أسباب اتهام الحكيم الترمذي، ومنعه من التدريس، اعتمادا على بعض نظرياته المتطرفة. لكن بعد أن أصبح تحت أيدينا الآن النص المحقق له، فإننا نلاحظ أنه قد أسيء فهمه من جانب أولئك الذين هاجموه. وأهم موضوعات الكتاب تتخلص فيما يلي:

- النشاط الروحي في مجال (الصدق) ويقصد به الجهد الخاص الذي يبذله الصوفي في الوصول إلى الله تعالى. وفي مجال (المنة) أي العطاء الإلهي الذي يتخير بعض الأفراد، بغض النظر عن جهودهم المبذولة.

-  مشكلة الظاهر والباطن في فهم النصوص الدينية.

-  مسألة النبوة والرسالة والولاية، في علاقاتها العامة، والطابع الخاص لكل منها.

وقد حقق الكتاب الدكتور عثمان يحيى في مجلة المشرق – بيروت (السنة 1945- صفحات 87-470) ثم في طبعة مستقلة أخرى سنة 1965م.

اللمع في التصوف : الطوسي (ت 378هـ)

يعد من أكبر المراجع الصوفية، وأغزرها مادة. وهو بمثابة الكتاب الأم في اللغة العربية. استفاد منه، واعتمد عليه كل المؤلفين اللاحقين سواء من العرب أو الفرس.

يضع الطوسي في هذا الكتاب أصول التصوف العملي، كما يحدد مبادئه ونظرياته، منبها إلي الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها السالكون لطريق التصوف، كما يخصص في الكتاب فصلا هاما للمصطلحات الصوفية المتداولة بين أهل هذا الفن.

ومما يزيد من أهمية اللمع أنه يحتوي على "تسجيل" أقوال الصوفية ونظرياتهم التي لم تكن مدونة من قبل. والمؤلف حريص على تدعيم هذه النظريات بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. طبع الكتاب نيكلسون سنة 1914، مع ترجمة جزئية له، ثم حققه الدكتور عبد الحليم محمود (بالاشتراك) سنة 1960م.

التعرف لمذهب أهل التصوف: الكلاباذي (ت 380هـ) :

من أهم المختصرات التي وضعت في بداية التأليف الصوفي. وهو يتميز بطابعه الكلامي، فيشرح عقائد الصوفية في التوحيد والصفات الإلهية، ورؤية الله، وخلق الأفعال، والصلاح والأصلح ... الخ. كذلك يتناول أهم المفاهيم الصوفية الخاصة بالتوبة والزهد والصبر والفقر والتقوى والرضا واليقين. والمؤلف ذو اتجاه سني واضح. وهو معتدل في لغته، هادئ في عرض قضاياه.

وقد ترجم (التعرف) إلى اللغة الفارسية على يد المستملي البخاري (ت 434هـ). وطبع النص العربي محققا المستشرق الانجليزي آربري 1934، ثم طبع في القاهرة بمراجعة الشيخ محمود النواوي سنة 1980.

قوت القلوب: أبو طالب المكي (ت 386هـ)

اسم الكتاب بالكامل: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد. وهو يحتوي على جانب الآداب والسلوك الصوفية، وجانب العبادات وطريقة تأديتها لدى الصوفية. كما يهتم المؤلف اهتماما خاصا بتوزيع أعمال العبادة والتقوى على ساعات اليوم والليلة، ويتناول موضوع محاسبة النفس وتربية المريدين، ويتحدث بالتفصيل عن المقامات الصوفية، وحقيقة الزهد، ثم ينتهي ببحث موضوع الكسب والتوكل. طبع الكتاب        في جزئين بالقاهرة سنة 1961 ثم تم تحقيقة على يد كل من الزميلين          د0 عبد الحميد مدكور، والدكتور عامر النجار – بالهيئة العامة للكتاب فى أربعة مجلدات .

الرسالة : القشيري (465هـ)

اشتهرت باسم: الرسالة القشيرية. ويعلن المؤلف في مطلعها أنها عبارة عن منشور موجه إلى جماعة الصوفية بكافة بلدان الإسلام. وعندما لاحظ انحراف عدد كبير منهم عن طريق الأوائل، الملتزمين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة. كتبها سنة 437هـ وضمنها جانبين:

( أ ) سيرة أعلام التصوف الأول، ومقتطفات من أقوالهم.

(ب) مبادئ السلوك الصوفي (الصحيح) ومناهجه.

وهي تحتوي على 53 بابا وعدة فصول. الباب الأول مخصص لذكر شيوخ التصوف، والباقي للمقامات والأحوال والمصطلحات والآداب الصوفية . ولا شك فى أن الرسالة القشيرية تعتبر المرجع الأساسي لتصوف أهل السنة، والتعبير المعتدل عن هذا الاتجاه في الإسلام.

وقد جرى تداولها على نحو واسع في أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك تدريسها على أيدي كبار الشيوخ. وتأثير الرسالة القشيرية أكيد في معظم كتاب التصوف اللاحقين.

نشرت الرسالة القشيرية مرارا بالقاهرة. وقام بتحقيقها أخيرا د. عبد الحليم محمود (بالاشتراك) في جزئين – القاهرة 1966.

كشف المحجوب : الهجويري (ت حوالي 465هـ)

أقدم مؤلف في التصوف باللغة الفارسية، وأول كتاب منظم في الأصول النظرية والعملية للتصوف الإسلامي. وهو يضاهي كتاب اللمع للطوسي في اللغة العربية.

ويحتوى الكتاب على عرض للأصول الصوفية والمسائل الفرعية المرتبطة بها، ثم يقدم قسما خاصا بشيوخ التصوف وتراجمهم، كما يحتوي على قسم آخر خاص بالفرق الصوفية حتى عصره – وهذا جديد تماما -، وبعد أن يتحدث عن العقائد الدينية والعبادات من وجهة نظر صوفية، يتطرق لآداب الصوفية ورموزهم وطرائقهم في الحياة.

ترجم نيكلسون الكتاب إلى الانجليزية سنة 1911، وظل الدارسون يرجعون إلى النص الانجليزي، حتى قامت د. إسعاد قنديل بترجمته من الفارسية إلى اللغة العربية مصحوبا بدراسة جيدة، وطبع في القاهرة، في جزئين، سنة 1974هـ.

إحياء علوم الدين: الغزالي (ت 505هـ)

يقال بحق إن هذا الكتاب هو الذي أتاح للتصوف أن يتعايش مع سائر العلوم الدينية في المجتمع الإسلامي. والواقع أن كتاب الإحياء غزير المادة، متنوع الموضوعات. قسمه الغزالي أربعة أقسام شهيرة:

-  ربع العبادات ويحتوي عشرة فصول.

-  ربع العادات ويحتوي عشرة فصول.

-  ربع المهلكات ويحتوي عشرة فصول.

-  ربع المنجيات ويحتوي عشرة فصول.

وقد جمع فيه تقريبا كل ما توصل إليه التصوف السني قبله، وعرضه بأسلوب معتدل، مدعم بالأحاديث النبوية (التي لم تخل أحيانا من نقد علماء الحديث).

لكن الكتاب يقوم على بناء عقلي صارم، لم يخفف منه إلا لغة الغزالي الأدبية، وشعوره الديني القوي، اللذان أضفيا عليه طابعا محببا إلى القراء في كل العصور التالية.

"والإحياء" مطبوع في مصر في أربعة أجزاء، بمطبعة الحلبي سنة 1939، وهو بحاجة ماسة إلى طبعة علمية حديثة، مصحوبة بالفهارس التفصيلية التي تسهل الانتفاع الكامل به.

الغنية لطالبي طريق الحق : الجيلاني (ت 561هـ)

يحدد المؤلف موضوع كتابه بأنه في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية. وهو يحاول المزج بين العبادات الإسلامية وآداب الصوفية. ويهتم اهتماما خاصا بأوقات الذكر والعبادة وكذلك المواسم الدينية. ويتحدث بالتفصيل عن الآداب والرسوم الواجبة، أو اللائق إتباعها في مختلف أوقات اليوم   والليلة، ومنها دخول الحمام، والنوم، وقتل الحيوان، وتسمية الأسماء، وزيارة المرضى ... الخ.

ويمكن القول بأن (الغنية) كان له تأثيره القوي على المستوى الشعبي أكثر من تأثيره على المستوى الثقافي الأعلى في مجال التصوف. والكتاب مطبوع في القاهرة، في جزئين، سنة 1956، لكنه بحاجة إلى تحقيق علمي حديث.


عوارف المعارف : السهروردي (البغدادي) (ت 632هـ)

كتاب تعريفي مختصر يتناول – في مجمله – التصوف من جانبه العملي، دون التركيز على الأفكار والنظريات. وبعد أن يبين المؤلف أحوال الصوفية وعاداتهم في حلقات الذكر، والعبادات، والصحبة، والمكاشفة، والخواطر، يورد طائفة من المصطلحات الصوفية.

لكن الكتاب يمتاز بلغته الواضحة، والمعلومات المحددة التي يقدمها كل فصل من فصوله البالغ عددها (63) فصلا. وطبع الكتاب على هامش إحياء علوم الدين – القاهرة 1939، وهو الآخر بحاجة إلى تحقيق علمي حديث.

الفتوحات المكية: ابن عربي (ت 638هـ)

أكبر موسوعة للتصوف الإسلامي على الإطلاق. فرغ ابن عربـي من كتابته – للمرة الثانية – سنة 632هـ.

والكتاب عرض نفسي وفلسفي لجميع المعارف الإسلامية من وجهة نظر صوفية، يصل فيها التحليل العقلي إلى أعلى مستوي. كما أنه يحتوي من ناحية أخرى على بعض العناصر الباطنية مثل أسرار الحروف، وعناصر أخرى مستقاة من فلسفة الأفلاطونية المحدثة.

ويعتبر الكتاب أيضا مصدرا هاما للحياة العقلية في عصر المؤلف ولحالة التصوف في القرنين السادس وبداية السابع الهجريين. وقد أدى تصريح ابن عربي ببعض أفكاره حول وحدة الوجود إلى اتهامه من جانب الفقهاء المسلمين. لكن الروح الدينية السائدة في الكتاب كله يمكنها أن ترد هذا الاتهام.

والواقع أن الفتوحات الملكية بحاجة شديدة إلى دراسته بالتفصيل، وفي إطار مؤلفات ابن عربي الأخرى، حتى يمكن استخلاص رأي معاصر حول فلسفته، دون التأثر بآراء الآخرين عنه.

طبع الكتاب في مصر سنة 1293 هجرية، وقام المرحوم د. عثمان يحيى بتحقيقه تحقيقا حديثا. ونشر منه سبعة عشر جزءا من المجموع الذي كان من المتوقع أن يصل إلى 37 مجلدا.

قائمة بكتب التراجم الصوفية مرتبة زمنيا

القـرن الهجري

اسم المصدر


المؤلـف

تاريخ وفاته

الخامس


السابع


التاسع

العاشر

طبقات الصوفية

حلية الأولياء

تذكرة الأولياء (بالفارسية)

روح القدس، مختصر الدرة الفاخرة

نفحات الأنس (بالفارسية)

الطبقات الكبرى


السلمي

أبو نعيم

العطار

ابن عربي

الجامي

الشعراني

412هـ

430هـ

627هـ

683هـ

898هـ

973هـ

طبقات الصوفية : السلمي (ت 412هـ)

أهم مرجع لحياة وأقوال أعلام التصوف الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين. وقد قسمهم المؤلف إلى خمس طبقات جعل في كل طبقة عشرين صوفيا – وقد زادت بعض الطبقات قليلا فأصبح العدد 102 ترجمة على التحديد.

والسلمي حريص جدا على تقوية صلة التصوف بالأصول الإسلامية. فهو يورد في بداية كل ترجمة حديثا نبويًا رواه صاحبها، ثم يتبع ذلك بنشأته، واهتماماته، وتاريخ ميلاده – إن وجد، وتاريخ وفاته في الغالب. ويأتي بعد ذلك بمجموعة من الأقوال التي صدرت عن الصوفي في مختلف المواقف.

طبع الكتاب مرتين: إحداهما بتحقيق المستشرق بيدرسون والثانية، وهي أكثر تفصيلا وإفادة بتحقيق نور الدين شربية – القاهرة 1969.

حلية الأولياء : أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ)

أكبر موسوعة تراجم صوفية في اللغة العربية (10 أجزاء) ويرجع السبب في ضخامة حجمها إلى أن المؤلف اعتبر من الصوفية: عددا كبيرا جدا من الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعين، وتابعيهم، كما انفرد أبو نعيم بذكر عدد كبير من غير المشهورين، وذلك بالإضافة إلى حشد أكبر كمية ممكنة من الأخبار، برواياتها المتعددة التي تدور حول صوفي واحد.

ويتميز الكتاب بإيراد أسماء (أهل الصفة) بالتفصيل، وهو يورد لكل منهم حديثا نبويًا مرويا بإسناده. والمؤلف مثل السلمي حريص على تأكيد الطابع الإسلامي للمتصوفة الذين أورد تراجمهم.

طبع الكتاب غير محقق في مصر سنة 1932، ونشرت نسخة مصورة من هذه النسخة في بيروت، هي المتداولة حاليا. لكن الكتاب بحاجة إلى تحقيق علمي حديث.

تذكرة الأولياء : فريد الدين العطار (ت 627هـ)

يعتبر العطار واحدا من ثلاثة الشعراء الكبار في إيران، وهم (سنائي، وجلال الدين الرومي، والعطار).

ويعد كتاب تذكرة الأولياء أقدم مؤلف في التراجم الصوفية باللغة الفارسية. وتؤكد د. إسعاد قنديل أن المؤلف اعتمد فيه على كثير من الأصول العربية مثل: طبقات السلمي، وحلية أبي نعيم.

وقد طبع الكتاب في الهند، ثم طبعه المستشرق الانجليزي نيكلسون في ليدن سنة 1905، في مجلدين، وترجم أخيرا إلى الفرنسية. لكنه لم يترجم حتى الآن إلى اللغة العربية.


روح القدس، مختصر الدرة الفاخرة : ابن عربي (638هـ)

يورد ابن عربي في كل من هذين الكتابين تراجم لحوالي خمسين شيخا من الرجال والنساء الذين تربى على أيديهم أو دلوه على طريق التصوف.

أما روح القدس، فقد قمنا بتحقيقه ونشره مع دراسة تحليلية سنة 2007، والقسم الخاص بشيوخ ابن عربي يقدم صورة حية للمجتمع الصوفي في كل من المغرب والأندلس خلال الربع الأخير من القرن السادس الهجري.

وأما مختصر الدرة الفاخرة، فمازال مخطوطا، وقد عثرنا على نسخته الوحيدة، وسوف ننشره قريبا بإذن الله. وهو يحتوي على أكثر من سبعين شخصية صوفية، يتكرر بعضها مع شيوخ (روح القدس) وينفرد البعض الآخر بتراجم جديدة.

وتتمثل أهمية الكتابين في أن ابن عربي يورد فيهما شخصيات صوفية على درجة عالية من التميز، والتنوع أيضا، فضلا عن أنه يصف أحوالهم بصورة مباشرة عن طريق معايشته لهم .. وإذا راعينا أن معظم هؤلاء الشيوخ لم يرد ذكرهم في كتب التراجم الأخرى أدركنا القيمة التاريخية للوثائق التي انفردت بتقديمهم إلينا.

نفحات الأندلس: عبد الرحمن الجامي

كتبه جامي سنة 883هـ. ويبدو من مقدمته أنه يعتمد أساسا على طبقات السلمي.

والواقع أن الهروي الأنصاري (ت 481) كان قد ترجم طبقات الصوفية للسلمي من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية (باللهجة الهروية القديمة) وزاد عليه بعض المعلومات .. ثم جاء جامي، فنقله من تلك اللهجة القديمة إلى اللغة الفارسية الحديثة في عصره، بعد أن أضاف إليه تاريخ الهروي نفسه، وكذلك أصحابه، وشيوخه، وسماه أخيرا: نفحات الأنس.

يشتمل الكتاب على مقدمة قصيرة للمؤلف، وتسع مقالات في الأصول الصوفية، وتراجم الشيوخ التي تتجاوز ستمائة ترجمة.

وقد طبع نفحات الأنس في الهند عدة مرات، ثم طبع حديثا في طهران. وهو لم يترجم بعد إلى اللغة العربية.

الطبقات الكبرى : الشعراني (ت 973هـ)

يقول المؤلف في مقدمته: هذا كتاب لخصت فيه طبقات جماعة من الأولياء الذين يقتدي بهم في طريق الله، عز وجل، من الصحابة، والتابعين، إلى آخر القرن التاسع، وبعض العاشر.

والكتاب مطبوع في جزئين : يشتمل الأول على (299) ترجمة، والثاني (87) ترجمة.

والواقع أن الشعراني يورد في كتابه عددا ضخما من كرامات الصوفية، وخوارق العادات التي جرت على أيديهم دون أن يتدخل بنقد أو تعليق. بل إنه هو نفسه يحكي بعض الأمور – الخارجة تماما عن نطاق العقل والمعتاد – التي وقعت له ! طبع الكتاب بدون تحقيق علمي حتى الآن بالقاهرة 1954.

تلك هي أهم مصادر التصوف الإسلامي، وليست كلها، كما سبقت الإشارة. لكنها توقف الباحث والقارئ معا على مدى الجهد الذي بذله علماء التصوف، والمشتغلون به في العصور السابقة. ومن المؤكد أن المادة الصوفية والتراجم غزيرة للغاية، وهي تحتاج إلى عمل فريق متكامل، لكي يتم تصنيفها، وترتيبها، وفهرستها على نحو علمي معاصر، تمهيدا لتيسير الاطلاع عليها، والإفادة منها.

*    *


حـول

أصل كلمتى صوفى وتصوف



لا تكاد تخلو دراسة حديثه ، غربية أو عربية ، من التعرض لموضوع أصل كلمتى صوفى وتصوف : من أين جاءا ؟ وما هو مصدرهما الاشتقاقى فى اللغة العربية ؟

وترجع المشكلة هنا إلى أن هذين اللفظين لم ينتشرا ، ويصبحا مصطلحين يشيع استخدامهما إلا قريبًا من نهاية المائة الثانية من التاريخ الهجرى 0

وإذا رجعنا لأقدم مصدر فى التصوف الإسلامى ، وهو كتاب اللمع للطوسى (ت 378هـ) وجدناه يتعرض لهذا الموضوع ، ويطرحه فى شكل سؤال افتراضى ، فيقول :

-إن سأل سائل فقال : قد نسبت أصحاب الحديث إلى الحديث ، ونسبت الفقهاء إلى الفقه ، فلم قلت : الصوفية، ولم تنسبهم إلى حال ولا إلى علم ، ولم تضف إليهم حالاً كما أضفت الزهد إلى الزهاد ، والتوكل إلى المتوكلين ، والصبر إلى الصابرين ؟

ويجيب الطوسى بنفسه على هذا السؤال ، قائلا :

-لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع ، ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم ، وذلك لأنهم معدن جميع العلوم ، ومحل جميع الأحوال المحمودة ، والأخلاق الشريفة ، سالفًا ومستأنفًا ، وهم مع الله تعالى فى الانتقال من حال إلى حال ، مستجلين للزيادة ، فلما كانوا فى الحقيقة كذلك 00 لم يستحقوا اسمًا دون اسم، فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالاً دون حال ، ولا أضفتهم لعلم دون علم ، لأنى لو أضفت إليهم فى كل وقت حالا لكان يلزم أن أسميهم فى كل وقت باسم آخر 0

فلما لم يكن ذلك نسبتهم إلى ظاهر اللبسة ، لأن لبسة الصوف دأبُ (أى عادة) الأنبياء عليهم السلام ، وشعار الأولياء والأصفياء ، ويكثر ذلك فى الروايات والأخبار 0 فلما أضفتهم إلى ظاهر اللبسة كان ذلك اسما مجملاً عاما مخبرا عن جميع الأعمال والأخلاق والأحوال الشريفة 0

ويستدل الطوسى لرأيه بوصف الله تعالى لطائفة من خواص أصحاب عيسى u  بالحواريين(سورة المائدة : آية 112] فنسبهم إلى ظاهر ملبسهم الذى كان باللون الأبيض ، ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم والأحوال التى كانوا مترسمين بها 0

ثم يقول الطوسى : فكذلك الصوفية عندى ، والله أعلم ،  فقد نسبوا إلى ظاهر اللباس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التى هم بها مترسمون ، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام ، والصديقين ، وشعار المتنسكين([7]) 0

وهناك سؤال آخر ، يطرحه الطوسى على نفسه ، ثم يجيب عليه بكل وضوح ، يقول :

-فإن سأل سائل فقال : لم نسمع ذكر الصوفية فى أصحاب رسول الله r  ورضى عنهم أجمعين ، ولا فيمن كان بعدهم (بعض التابعين) ولا نعرف إلا العباد والزهاد والسياحين والفقراء ، وما قيل لأحد من أصحاب رسول الله r  صوفى ؟!

ويحبب الطوسى : إن الصحبة مع رسول الله  r  لها حرمة ، وتخصيص من شمله ذلك 0 فلا يجوز أن يعلن عليه اسم على أنه أشرف من الصحبة ، وذلك لشرف رسول الله r   وحرمته 0

ألا نرى أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء والراضين والصابرين والمخبتين ، وغير ذلك ، وما نالوا جميع ما نالوا إلا ببركة الصحبة مع رسول اللهr   ، فلما نسبوا إلى الصحبة استحال أن يفضلوا بفضيلة غير الصحبة ، التى هى أجل الأحوال([8]) 0

ويرد الطوسى بحسم كامل على من يذهب فى عصره (القرن الرابع الهجرى) إلى أن مصطلح الصوفى أو الصوفية أحدثه أهل بغداد 00 يقول :

وأما قول القائل : إنه اسم محدث أحدثه البغداديون فمحال ، لأن فى وقت الحسن البصرى (وهو من التابعين ت110هـ ) رحمه الله ، كان يعرف هذا الاسم([9]) 0 وكان الحسن قد أدرك جماعة من أصحاب رسول الله  r  ورضى عنهم 0 وقد روى عنه أنه قال :

-رأيت صوفيا فى الطواف ، فأعطيته شيئا ، فلم يأخذه ، وقال : معى أربعة دوانيق (يشبه ملاليم) فيكفينى ذلك !

وروى عن سفيان الثورى (ت 161هـ) رحمه الله أنه قال :

-لولا أبو هاشم الصوفى ما عرفت دقيق الرياء !

وقد ذكر فى الكتاب الذى جمع فيه أخبار مكة عن محمد بن إسحاق بن يسار وعن غيره ، يذكر فيه حديثا :

-أنه قبل الإسلام قد خلت مكة فى وقت من الأوقات ، حتى كان لا يطوف بالبيت أحد ، كان يجىء من بلد بعيد رجل صوفى ، فيطوف بالبيت وينصرف 0

فإن صح ذلك ، فإنه يدل على أنه قبل الإسلام كان يُعرف هذا الاسم ، وكان ينسب إليه أهل الفضل والصلاح([10]) 0

تلك هى أقدم إجابة لواحد من أكبر مؤرخى التصوف الإسلامى حول أصل ومصدر كلمتى صوفى وصوفية 0 وسوف يكون من التجاهل المتعمد إغفال مثل هذه الشهادة فى ذلك العصر المبكر ، ومحاولة الاعتماد على فرضيات محتملة ، خاصة وأن الأساس اللغوى ينكرها بوضوح 0

ومن ذلك محاولة إرجاع المصطلح (صوفى) إلى (أهل الصفة) تارة ، أو إلى (الصفاء) تارة أخرى ، وأغرب تلك الفرضيات هى محاولة إرجاع المصطلح إلى الكلمة اليونانية (ثيوصوفيا) التى تعنى الإشراق المعرفى على النفس 00 أما رأى الطوسى فهو الأقرب إلى الصواب ، حيث نسب الصوفية إلى ظاهر ملبسهم ، وهو الصوف (الخشن الذى كان فى العادة ملبس الأنبياء والأولياء والفقراء المتنسكين ، والمبتعدين عن زخرف الحياة الدنيا) وسوف يستمر هذا الملبس شعارًا للصوفية خلال تاريخهم ، بل إنهم كانوا يتميزون عن بعضهم بترك هذا الثوب المصنوع من الصوف الخشن يبلى على أجسادهم ، ويستمرون فى ترقيعه ، بدل أن يستبدلوا به ثوبًا جديدًا ، وكلما زادت الرقع فى الثوب أشار ذلك إلى صبر الصوفى على خشونة الملبس ، والذى كانت تصاحبه خشونة أخرى فى المطعم والمسكن !

إن قاعدة النسب فى اللغة العربية لا تسمح أبدًا بأن نسب (الصوفى) إلى (أهل الصفة) ، ولا إلى الكلمة اليونانية (ثيوصوفيا) ، وهكذا يتبقى لدينا الأصلان (صفاء) و(صوف) 00 أما الصفاء فهو إحدى حالات التصوف وليس كلها ، ومن المستبعد أن ينسب التصوف فى مختلف حالاته ، وكذلك مقاماته إلى حالة واحدة فقط([11]) ، أما الصوف فيظل هو المصدر الأقرب للتفسير الذى ذكره الطوسى ، وكذلك إلى قاعدة النسب المقررة فى اللغة العربية 0


*    *





























قضية المصدر الأجنبي

للتصوف الإسلامي


لم تتوقف محاولات المستشرقين، منذ بدأوا دراسة التصوف الإسلامي، واكتشفوا مناهجه العملية، ونظرياته الفلسفية، عن البحث والتنقيب لإرجاعه إلى مصدر أجنبي عن الإسلام. ويبدو بوضوح أنهم تجنبوا عامدين الكشف عن عناصره الأولى في القرآن الكريم والسنة النبوية، وحياة السلف الصالح، الذين مالوا إلى الزهد في الدنيا، واتجهوا بقلوبهم إلى الحياة الروحية.

وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن التصوف الإسلامي يرجع إلى مصدر هندي، وبعضهم الآخر إلى مصدر فارسي، وهناك من حاول أن يربطه بمصدر نصراني، كما أن بعض المستشرقين ذهب إلى أن التصوف الإسلامي يرجع إلى مصدر يوناني.

أما السبب الذي دفع هؤلاء المستشرقين إلى القول بهذه المصادر الأجنبية فهو عثورهم في أدبيات التصوف الإسلامي، وخاصة المتأخرة زمنيا، على بعض العناصر الوافدة من تلك المصادر المذكورة، إما على مستوى لفظة أو عبارة، وإما بالنسبة إلى فكرة أو نظرية، وأحيانا ثالثة في رحلة قام بها الصوفي المسلم إلى بلد يقلد فيها هذا المصدر أو ذاك، بل إنهم كانوا يتلمسون تأكيد هذه المصادر الأجنبية حين يجدون الصوفي المسلم قد قابل أحد العلماء الذين ينتمون إلى أحد تلك المصادر!

والأمر الذي غاب عن هؤلاء المستشرقين أن التصوف قد مرّ بمراحل متعددة، وأنه حين انبثق أساسًا من الدين الإسلامي فقد استمد منه عناصره الأساسية، لكنه بعد أن تقدم به الزمن، واتسعت مجالاته، وتنوعت اتجاهات شيوخه وأعلامه تعرض – كأي ظاهرة ثقافية أو دينية – إلى بعض التأثيرات التي وفدت إلى المجتمعات الإسلامية من الخارج، والتي كان متاحاً لها أن يحدث معها بعض التبادل والتفاعل. ومن ثم فنحن لا ينبغي أن ننكر التأثير الأجنبي في التصوف الإسلامي المتأخر زمنيا، لكننا ينبغي في نفس الوقت أن نميز بينه وبين التصوف الإسلامي في مراحله الأولى.

وسوف نلخص هنا المصادر الأربعة التي ذهب المستشرقون إلى محاولة جعلها أساسا لنشأة وتطور التصوف الإسلامي فيما يلى :

أولا: المصدر الهندي :

اعتمد المستشرقون الذين ذهبوا إلى جعل هذا المصدر منبعا للتصوف الإسلامي، على ما أورده أحد مؤرخي المسلمين الكبار، وهو البيروني        (ت 440 هـ) الذي وصف في كتابه الرائع عن بلاد الهند وأحوال أهلها ، كما عرض لعقائدهم وعلومهم ومذاهبهم الدينية والفلسفية، من خلال معرفته بلغتهم الأساسية السنسكريته([12]).

ومن أهم الأفكار التي ذكرها البيروني، ووجد فيها بعض المستشرقين ضالتهم في إرجاع التصوف الإسلامي إليها:

- فكرة الاتحاد، اتحاد الإنسان حين يصل إلى مرتبة الكمال البشري بالعلة الأولى، ليس من خلال الطقوس وإنما بواسطة التأمل المستمر والذكر ...

- فكرة التناسخ، التي تعني انتقال النفوس بعد الموت من جسد إلى جسد([13]) ، وهذه الفكرة ترتبط بفكرة الحلول التي قال بها بعض صوفية المسلمين (كالحلاج).

- فكرة الخلاص من العالم الحسي بواسطة المعرفة التي تنقل الإنسان إلى العالم الروحي. ومن الواضح أن للمعرفة مكانا هامًا لدى بعض فلاسفة صوفية المسلمين (كابن عربي).

ثانيا: المصدر الفارسي :

يعتمد المستشرقون الذين ذهبوا إلى اعتماد هذا المصدر على أمرين:

أولهما : العلاقات الاجتماعية والثقافية والدينية التي كانت موجودة وقوية بين العرب والفرس.

والثاني : أن عدداً كبيراً من أعلام الصوفية المسلمين كانوا من الفرس.

والواقع أن كلا الأمرين يمكن أن يرد عليه، بأن قوة الروابط بين الشعبين العربي والفارسي لا تقوم أساساً موثوقا لظهور اتجاه قوي كالتصوف الإسلامي، الذي اشترك فيه العديد من العرب، والمنحدرين من أصول أخرى غير الفرس، وكلهم كان يرجع إلى المصدر الإسلامي الأقرب إلى عقيدته، وإلى سلوكه الديني في الحياة الجديدة التي ارتضاها بمحض اختياره. ثم إذا كان للفرس تأثيرهم في العرب من النواحي الاجتماعية والثقافية، فإن التأثير الديني الآتى مع العرب، وهو الإسلام، كان الأغلب على حياة الفرس أنفسهم، وإلا لتساءلنا: أين العقيدة الدينية لدى الفرس بعد أن اعتنقوا الإسلام ؟!

ثالثا: المصدر النصراني :

وهنا نلتقي بعدد أكبر من المستشرقين يذهبون إلى أن التصوف الإسلامي يتشابه في كثير من منازعه مع المسيحية، ويؤكدون على ذلك من خلال المقارنة بين حياة المسيح،u ، التي اتسمت بالزهد الكامل، هو وأتباعه من الحواريين والرهبان والقسس، وكلهم كان يؤثر الخلوة في الأديرة على الانخراط في حياة الناس، وكان ملبسهم في العادة من الصوف الخشن، الذي ارتداه صوفية المسلمين، كذلك يعتمد أنصار هذا الاتجاه على فكرة المحبة المسيحية، والتي شاعت لدى كثير من صوفية المسلمين في مجال الحب الإلهي (رابعة العدوية، ابن الفارض).

وإذا كانت هذه العناصر متشابهة بالفعل مع عناصر في التصوف الإسلامي، فسوف تظل محدودة داخل كيان كبير للغاية. فليس الزهد والمحبة وليس الصوف هي الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها فقط التصوف الإسلامي. فهناك العديد من الأعمدة، والكثير من الأسس التي لا تتعارض أو تتناقض مع ما قد يكون في التصوف الإسلامي من ألوان تشابه أو مواضع اتفاق، بناء على ما سبق أن قررناه من أن التصوف تجربة إنسانية، توجد في كل زمان ومكان.

رابعا: المصدر اليوناني :

اعتمد المستشرقون هنا على التأثير العلمي والثقافي الكبير الذي انتقل من التراث اليوناني القديم إلى الحياة الفكرية والعلمية لدى المسلمين برغبة منهم، نتيجة اقتناعهم بما كان يحتوي عليه هذا التراث من عناصر ومناهج ساعدت المسلمين كثيرا في الدفاع العقلي عن الدين الإسلامي ضد خصومه الذين استعانوا بالأساليب المنطقية في الهجوم. وفي بداية العصر العباسي، ترجمت إلي العربية العديد من عناصر الموسوعة الإغريقية في المعرفة، وبخاصة علم المنطق الذي وصفه أرسطو، وكان مثار إعجاب المسلمين، لكن بالإضافة إلى ذلك تسربت عناصر من فلسفة الأفلاطونية المحدثة، التي كانت عبارة عن فلسفة صوفية المنزع، وممتزجة ببعض المقولات اليونانية العقلية، وكان زعيمها أفلوطين (ت 270 ق0م)0 في هذه الفلسفة يتدرج الوجود بصورة هرمية من الإله الروحاني الخالص حتى أجزاء العالم المحسوس .. ولكي يحدث اتصال هذا العالم بالإله، لا بد أن يصفي الإنسان نفسه بالأخلاق الحسنة، ويستخدم المعرفة الصوفية لكي يتمكن من الاقتراب أو الاتصال، أو حتى الاتحاد بالإله الروحاني .. فهما إذن رحلتان أحداهما من أعلى لأسفل (تتمثل في الخلق، الذي تفسره نظرية الفيض) والأخرى من أسفل لأعلى (تمثله نظرية المعرفة الوهبية التي تمتزج بالحب).

ومن الواضح أننا نجد بعض المواضع المتشابهة بين هذا التصور وبين تصور كبار فلاسفة – الصوفية المسلمين، من أمثال السهروردي وابن عربي، وابن الفارض.

لكن تلك المشابهة لا تكاد توجد في الفكر الصوفي الذي يتجلى عند الشبلي والجنيد والقشيري والطوسي من كبار صوفية المسلمين، الذين عرضوا أفكارهم الصوفية مرتبطة بل ممتزجة بتعاليم الإسلام. ويرى المرحوم د. محمد مصطفى حلمي أن الغزالي (ت 505) والذي اطلع بصورة دقيقة وواسعة على الفلسفة الإغريقية، والأفلاطونية المحدثة – لا يوجد في تصوفه سوى الأثر الإسلامي الخالص، إلى جانب بعض التأثيرات الطفيفة جداً من ثقافة عصره، التي لا يكاد يتجنبها أي مفكر.

والخلاصة أن الجهد الذي بذله المستشرقون لإرجاع التصوف الإسلامي إلى مصدر أجنبي لم يكن سوى محاولة لتجريد أحد جوانب الحضارة الإسلامية من طابعها الروحي  والإنساني، المتمثل في التصوف. وهو الأمر الذي يلفت أنظارنا بقوة إلى أهمية هذا الجانب، وعدم التهوين من شأنه. ونحن من جانبنا لا ننفي أبدًا موجات التأثير والتأثر بين الأمم والثقافات، بل إننا نعتبرها روافد نافعة في حركة التيار العام لأي أمة على حدة، ولمجرى التطور الإنساني على مستوى العالم كله، ولذلك فإننا إذا وجدنا تشابها لم نعاند في رفضه، بل إننا نتقبله برحابة صدر، لكننا ينبغي ألا نكبر منه، أو نهول من دوره، فقد يكون مجرد نقطة التقاء، أو توارد خواطر .. والكلمة التي أريد أن اتجه بها إلى هؤلاء المستشرقين الذين تحمسوا جداً للمصدر الأجنبي في التصوف الإسلامي هى لم يبذلوا جهدًا مماثلا في البحث عن مصدر التصوف المسيحي، أو التصوف اليهودي ؟! أما نحن فإننا نطمئن إلى أن التصوف الإسلامي قد استمد مصادره الأساسية من منابع الإسلام، ثم عندما تطور وتفرّع وأصبح فلسفة صوفية قد دخلته عناصر مختلفة من مختلف الثقافات والأديان التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي، والتي أتاح تسامحه لها أن تعيش وتتعايش في رحابه.


*   *


هل يحتوي القرآن الكريم والسنة النبوية

على بذور للتصوف ؟


هذا سؤال كان من الممكن أن تتأخر الإجابة عنه – من الناحيـة الموضوعية – إلى ما بعد التعرف على حقيقة التصوف، ولكنها تستحق – من الناحية التاريخية – أن تتقدم أي دراسة أو تعريف بالتصرف الإسلامي، لأنه من المقرر أن القرآن الكريم باعتباره المصدر الرئيسي للإسلام كان هو محور كل أوجه النشاط الديني والعقلي واللغوي الذي قام به المسلمون، وهم يؤسسون مجتمعاتهم الجديدة، ويحولون الشعوب التي اعتنقت الإسلام إلى عناصر متعاونه في بناء الحضارة الإسلامية.

من القرآن الكريم وحوله ، نشأ : علم القراءات، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، ثم علم العقيدة أو الكلام، وإلى جانب ذلك نشأة علوم اللغة (النحو والصرف والمعاجم)، وعلوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع) ، كما نشأ من السنه النبيوية : علم مصطلح الحديث، وعلم الجرح والتعديل، وكتب السيرة، وتطور علم التاريخ. وكان على المسلمين لاستكمال دائرة معارفهم أن يستعينوا بما أطلقوا عليه علوم الأوائل: وهي الطب والنبات والكيمياء والفلسفة، وأهم عناصرها : علم المنطق.

نتجه إذن ومباشرة إلى القرآن الكريم، محاولين الاستشهاد منه بالآيات التي تدعو إلى الزهد في الدنيا، وتفضيل الآخرة عليها، وضرورة التوبه من الذنوب، والاستقامة في القول والعمل، وإخلاص النية لله تعالى، وتصفية النفس من أدران الشهوات والرغبات ، وتنقيتها من الدوافع الشريره كالحقد والحسد والرياء والنفاق .. لكننا نسرع فنقول إن هذا الجانب يقابله جانب آخر يدعو إلى التمتع بخيرات السماوات والأرض التي سخرها الله تعالى للإنسان، وشكر الله الدائم على نعمه المتواليه، وعدم نسيان نصيب الإنسان من الدنيا وضرورة تعمير الأرض، والأخذ بالأسباب لتحقيق الأهداف ثم التوكل على الله. وبهذين الجانبين تتحقق "المعادلة" التي يطرحها الإسلام على اتباعه، باعتبارهم يمثلون أُمة وسطا: فلا رهبنة في الإسلام كما أنه لا انغماس في شئون الدنيا (لفظ الدنيا ورد في القرآن الكريم معادلاً تماما للفظ الآخرة 115 مرة).

أما أبراز الآيات التي تؤكد على التقليل من شأن الدنيا، التي وصفت أكثر من مرة بأنها (لعب ولهو) كما وصفت أيضا بأنه (زينة وزخرف ومكان تفاخر لا قيمة له)، وفي نفس الوقت وصفت الآخرة بأنها الأفضل والأبقى وهي التي تحتوي على الجزاء الخالد .. فهي تتوالى فيما يلي

- في سورة البقرة:

-عن بني اسرائيل:

)أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ( [آية : 86]

-عن الكفار:

)زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا( [الآية : 212]

- في سورة آل عمران:

-)زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( [الآية : 14]

-)مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ( [الآية : 152]

-)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( [ الآية : 185]

- في سورة النساء:

-)قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى( [الآية77]

-)مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ( [الآية134]

- في سورة الأنعام:

-)وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ( [الآية : 32]

-)وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا( [الآية70]

-)يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ( [الآية:130]

- في سورة الأعراف:

-)وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ . الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ( [آيتي 50، 51]

- في سورة التوبة:

-)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ( [الآية : 38]

- عن المنافقين:

-)وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ( [الآية : 85]

- في سورة يونس:

-)إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( [آيتي: 7، 8]

-)وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ . قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( [آيتي:88، 89]

- في سورة هود:

-)مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( [آيتي:15، 16]

- في سورة الرعد:

-)اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ( [الآية : 26]

- في سورة إبراهيم:

-)اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ . الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ( [آيتي:2،3]

- في سورة النحل:

-)لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ( [الآية : 30]

-)ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( [الآية : 107]

- في سورة الكهف:

-)وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً( [الآية : 28]

-)وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً . الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً( [آيتي : 45،46]

- في سورة طه:

)وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى . وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى( [آيتي : 131،132]

- في سورة القصص:

- )وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ( [الآية:60]

-)أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ( [الآية:61]

-)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( [الآية: 77]

- عن قارون

-)فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ . وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ . تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ( [آيات : 79-83]

- في سورة العنكبوت:

-)وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( [الآية : 64]

-في سورة لقمان:

-)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ( [الآية:33]




- في سورة الأحزاب:

-)يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ( [الآية:28،29]

- في سورة فاطر:

-)يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ( [الآية:5]

- في سورة غافر: (موسى لفوم فرعون)

-)يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ( [الآية:39]

- في سورة الشورى:

-)مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ( [الآية:20]

-)فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [الآية:36]

- في سورة الزخرف:

-)وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ( [الآية : 33-35]



- في سورة الأحقاف:

-)وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ( [الآية : 20]

- في سورة محمد:

-)إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ( [الآية : 36]

- في سورة النجم:

-)فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى( [الآية:29،30]

- في سورة الحديد:

-)اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ . سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [آيتي : 20،21]


- في سورة النازعات:

-)فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى( [الآيات : 37-40]

- في سورة الأعلى:

-)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى . بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى( [الآيات : 14- 17]

ويمكن أن نخرج من قراءة الآيات ببعض الملاحظات الآتية :

-الإنسان خلقه الله لعبادته.

-الدنيا فترة عابره وهي دار انتقال للآخرة التي هي خير وأبقى.

-كل متاع الدنيا من ؟؟؟؟ والنساء والأبناء والمراكب والاقطاعيات الزراعية يرتبط بحب الشهوات التي زينت للإنسان، في حين أن ما عند الله أفضل بكثير.

-حب الدنيا مقارن دائما للكفر بالله تعالى، ومعصيته ...

*  *

أما سيرة الرسول e وسنته ، فقد وجد فيها الصوفية المسلمون الكثير جداً من العناصر التي أصبحت لديهم معالم هادية بل وأسلوب حياة.

وأول هذه العناصر ما وجده الصوفية من تحنث الرسول e في غار حراء قبل البعثه. فماذا كان هذا التحنث؟ كان عبارة عن (عزلة عن الناس) يتم فيها التزود من الطعام بأقل القليل، ثم الإكثار من التأمل في ملكوت السماوات والأرض، ونزوع بالروح إلى عوالم الملأ الأعلى، وبالطبع لا يتم ذلك إلا بعيداً عن حياة الناس اليومية، والمليئة بالمشاكل والأهواء .. في تلك العزلة تتم مجاهدة النفس، والتحكم في رغبات الجسد، وتصفية الذهن والقلب من علائق الدنيا، وزينة الحياة .. وحيث لا يوجد إلا الإنسان وحدة في تلك العزلة، فلا يصدر منه حديث مع الناس، بل استغراق كامل في التفكير والتأمل ، وتنقية مستمرة لكل ما يجول في الأعماق من نزعات وخواطر. وفي مثل هذه العزلة، التي يغلب عليها صمت اللسان، وحركة الفكر، قد تلوح للإنسان بعض البروق الخاطفة التي تدفعه إلى الإمساك بها، ولكنها بطبيعتها تأتي فجأة وتختفي بسرعة، وهذا ما يجعل الإنسان يتردد بين حالين من الفرح والحزن، أو كما عبر الصوفية – بعد ذلك – بين البسط والقبض !

لكننا إذا تتبعنا بدقة حياة الرسول r  بعد البعثة، وخاصة عندما هاجر إلى المدينة، وأصبح على رأس الدولة الجديدة. فماذا نجد؟ نجد أسلوبا في الحياة يغلب عليه الزهد والتقشف، وعدم الإقبال على مباهج الدنيا المادية، وملذاتها الحسية، وذلك في الوقت الذي تزيد فيه ساعات العبادة، وتتعمق لحظات اللجوء إلى الله تعالى، ذكراً دائماً، ودعاء مستمرا ..

وسوف نعرض فيما يلي لطائفة من صفات وأنواع سلوكه الشريف، الذي أصبح أسوة للصوفية المسلمين (وهي مستمدة من الجامع الصغير للسيوطي)([14]).

-كان رسول الله r  أحسن الناس خلقا.

-كان أشد حياء من العذراء في خدرها.

-كان أصبر الناس على أقذار الناس .

-كان كلامه كلاما فصلا: يفهمه كل من سمعه.

-كان أبغض الخُلق إليه الكذب.

-كان أحب العمل إليه ما دووم عليه، وإن قلّ.

-كان إذا أتى بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟

(فإن قبل صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يأكل، وإن قبل هدية، ضرب بيده فأكل معهم).

-كان إذا أتاه الأمر يسرّه قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال !

-كان إذا حز به أمر صلى.

-كان إذا دخل (بيته) قال: هل عندكم طعام؟

فإذا قيل: لا .. قال: إني صائم.

-كان إذا دخل رمضان تغير لونه، وكثرت صلاته وابتهل في الدعاء، وأشفق لونه!

-كان إذا شيع جنازة علا كربه، وأقل الكلام، وأكثر حديث نفسه.

-كان إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفّض بها صوته !

-كان إذا لقيه الرجل من أصحابه مسحه ودعا له.

-كان إذا ودّع رجلا أخذه بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده، ويقول: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك.

-كان أكثر دعوة يدعو بها: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخره حسنة، وقنا عذاب النار.

-كان رحيما لا يأتيه أحد إلا وعده، وأنجز له إن كان عنده.

-كان طويل الصمت قليل الضحك.

-كان ممن يقول للخادم: ألك حاجة ؟!

-كان لا يحدث حديثا إلا تبسم، وكان لا يضحك إلا تبسما.

-كان لا يدخر شيئا لغد.

-كان لا يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه.

-كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم.

-كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل (يربط) الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.

-كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.

-كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه.

-كان يذكر الله تعالى في كل أحيانه.

-كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم.

-كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته.

-كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم.

وهنا لا بد أن ننبه إلى أمر هام، هو أن الصوفية المسلمين قد جعلوا هذه الصفات والشمائل النبوية نصب أعينهم، بل إنهم حاولوا أن يجسدوها في حياتهم اليومية، ولذلك نجدهم قد فضلوا حياة الفقر والتقشف على الغنى والاستهلاك، وآثروا الصمت على الثرثرة مع الآخرين، والحزن على الفرح وكثرة الضحك، كما انخرطوا تماماً في التواضع وتخلّواْ تماماً عن الكبر على الناس، بل إنهم تفانوا في مساعدة الضعيف والمحتاج على الرغم من ضعف وأحيانا انعدام إمكانياتهم.

والخلاصة هنا أن القرآن الكريم، وسيرة الرسول r وسنته كانا من أهم المنابع التي استبقى منها صوفية المسلمين معظم معالم الطريقة التي تميزوا بها من بين الفرق والطوائف الإسلامية الأخرى.

















التصوف الإسلامي

نشأته وتطوره


عندما ظهر الإسلام، اعتنقه ثلاث فئات عمرية: صغار السن، والشباب، والشيوخ .. وعلى الرغم من أن هذه الفئات الثلاث قد امتزج بعضها ببعض في التحمس الشديد للعقيدة الجديدة، والدفاع المستميت عنها، والجهاد في سبيلها – إلا أن كبار السن، الذين أمضوا الفترة الأطول من حياتهم في شرك الجاهلية، كان عليهم أن يبذلوا أقصى طاقاتهم لكي يطبقوا تعاليم الدين الجديد على نحو أكثر مما يجب على المسلم العادي، ولذلك أكثروا من أداء الشعائر ، فصلوا أكثر من الصلوات الخمس المفروضة عليهم في اليوم والليلة، كما صاموا أياما وشهورا أكثر من الصوم المكتوب عليهم في شهر رمضان فقط، ولأن بعضهم كان فقيرا، فقد كانوا يقيمون في أحد أركان مسجد المدينة، وأطلق عليهم لقب: أهل الصُفّة، وكان منهم بعض الصحابة القريبين جداً من رسول الله r فلم يعترض على أسلوب حياتهم، التي كرسوها تماماً للعبادة، والزهد في الدنيا. وكان من عادة الرسول r أن يرسل إليهم ببعض الهدايا التي تصل إليه من الطعام وغيره، وكذلك كان يفعل سائر الأثرياء من المسلمين في المدينة.

هل كانت هذه هي البذرة الأولى للتصوف الإسلامي؟ كلا، فقد كانت حياة الرسول e التي اتسمت عموما بالزهد في الدنيا، وعدم الإقبال على خيراتها انتظاراً للخير الأعظم الذي وعد به في الآخرة، ثم كانت حياة كبار الصحابة من أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب مليئة بالنماذج الهادية في تفضيل الفقر والصبر والتقشف، بل والخروج أحيانا من الثروة الطائلة في سبيل نصرة دين الله على أي شيء آخر من شهوات النفس، ونعيم الدنيا الزائل.

كذلك وجد المسلمون الأوائل في القرآن الكريم، الذين كانوا يتلون آياته ليل نهار، ويتدبرون معانيها جيدا – الكثير من الآيات التي تدعو إلى تفضيل الآخرة على الدنيا، وضرورة لجم النفس عن الهوى، والاستحضار الدائم ليوم البعث، ما يحتوى عليه من حساب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة من حياة الإنسان، ثم استعراض آيات العذاب الذي أُعِدّ للمشركين والعصاة، والذين اتبعوا شهواتهم والتلذذ بآيات النعيم الذي بسطه الله تعالى للمؤمنين والطائعين، والمعرضين عن هذه الحياة الدنيا، وزخرفها ..

وهكذا كانت تعاليم الدين الإسلامي، إلى جانب النماذج العملية للرسول e وأصحابه، والتي تجسدت فيها أسمى معاني الصدق، والإخلاص، وتطهير الروح، ومراعاة جانب الله تعالى – أقول: كانت هذه العناصر كلها مساعدة على تكوين بيئة روحية: نشأ فيها التصوف بالمعنى الأولي الذي بدأ أولى خطواته في الإكثار من أداء الشعائر، ثم تحول إلى دعوة دينية واجتماعية إلى الزهد في الدنيا .. حتى انتهى بعد قرنين من الزمان إلى ما يسمى بالتصوف بمفهومه المتعارف .

ويحدد ابن خلدون (ت 808هـ) بصورة جيدة توصيف علم التصوف بأنه "من علوم الشريعة الحادثة في الملة" ، ويرجع أصله إلى عدة نوازع هي:

-  العكوف على العبادة،

-  والانقطاع إلى الله تعالى،

-  والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،

-  والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة، ومال وجاه،

-  والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.

ويذكر ابن خلدون أن هذه الصفات لم تكن خاصة بطائفة معينة، في عصر الصحابة والسلف، الذي يغطي القرن الأول الهجري، وإنما كانت عامة بين جميع المسلمين الأتقياء الورعين.

فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني، وما بعده، وجنح الناس (أي مالوا) إلى مخالطة الدنيا – اختفى المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.

وهنا يتوقف ابن خلدون لمناقشة أصل مصطلح "صوفية"، فيورد رفض القشيري (ت 465هـ) صاحب "الرسالة" لاشتقاق هذا اللفظ من مصدر معين، حيث يقول: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس، والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي، وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه.

لكن ابن خلدون يعقب على رأي القشيري قائلا: "والأظهر – إن قيل بالاشتقاق – أنه من الصوف. والصوفية في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف([15]).

ويبدو أن ابن خلدون لا يقيم لهذه المسألة (أصل كلمة تصوف وصوفية) اهتماما كبيرا، فهو يعبرها بسرعة، ليتتبع خصائص الصوفية الباطنة، بعد أن حدد خصائصهم الظاهرة، فيقول: إنه لما اختص هؤلاء بمذهب الزهد، والانفراد عن الخلق، والإقبال على العبادة، واختصوا بمواجد مدركة لهم:

وذلك أن الإنسان – بما هو إنسان – إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك. وإدراكه نوعان:

أ  - إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم.

ب – وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك.

فالروح العاقل والمتصرف في البدن ينشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يميز بها الإنسان كما ذكرنا. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم من الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء.

وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة (حال)، هي نتيجة لتلك المجاهدة.

وتلك الحالة: إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير (مقاما) للمريد، وإما ألا تكون عبادة، وإنما تكون (صفة) حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك.

والمقامات لا يزال المريد يترقى فيها، من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى (التوحيد، والمعرفة) التي هي الغاية المطلوبة للسعادة.

ويلخص ابن خلدون ما سبق، فيقول: إن المريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها. وتنشأ عنها الأحوال والصفات كنتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى، إلى مقام التوحيد والعرفان.

وإذا وقع تقصير في النتيجة، أو خلل، فيعلم (المريد) أنه إنما أتى من قبل التقصير في (الطور) الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية ، فلهذا يحتاج المريد إلى (محاسبة نفسه) في سائر أعماله، وينظر في خفاياها. لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري، وقصورها في الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك (بذوقه) ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشارك (الصوفية) في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة([16]).

يقول ابن خلدون: فظهر أن أصل طريقتهم كلها: محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما، ويترقى منها إلى غيرها.

وهكذا يضاف إلى الخصائص الخارجية للصوفية خصائص باطنية، يضاف إليها – مع ذلك – كما يقول ابن خلدون – آداب مخصوصة بهم، واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا على التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء (الصوفية) بهذا النوع من العلم الذي ليس يوجد بغيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه.

ونتابع مع ابن خلدون التطور الذي أصاب علم الشريعة، فنجده قد صار على صنفين:

أ  - صنف مخصوص بالفقهاء، وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات وكذا المعاملات.

ب – وصنف مخصوص بالقوم (أي الصوفية) في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي فيها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.

فلما كتبت العلوم، ودونت، وألف الفقهاء في الفقه وأصوله، والكلام، والتفسير، وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة (الصوفية) في طرقهم:

فمنهم من كتب في أحكام الورع، ومحاسبة النفس، كما فعل المحاسبي (ت 243هـ) في كتاب (الرعاية) له.

ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال، كما فعل القشيري في كتاب (الرسالة)، والسهروردي (ت 632هـ) في كتاب (عوارف المعارف) وأمثالهم.

وجمع الغزالي (ت 505هـ)، رحمه الله، بين الأمرين في كتاب (الإحياء)، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم، وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم.

وهكذا صار علم التصوف في الملة علما مدونا، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتابة من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، وغير ذلك.

وبعد أن بيّن ابن خلدون انتقال علم التصوف من مرحلة المشافهة والتجارب المباشرة إلى مرحلة الوصف الخارجي والتدوين، تمشيا مع سائر العلوم الشرعية الأخرى التي نشأت لدى المسلمين – يأخذ في محاولة التحليل النفسي لظاهرة الكشف التي أعلن الصوفية أنهم يختصون بها. فيقول:

ثم إن المجاهدة، والخلوة، والذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم.

أما سبب هذا الكشف فيرى ابن خلدون إمكانية تفسيره على نحو عقلي يرتبط فيه السبب بالنتيجة، أو يؤدي بالضرورة إليها 0 وفي رأيه أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت الروح، وغلب سلطانه، وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودا، بعد أن كان علما، ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك، فيتعرض (الصوفي) حينئذ للمواهب الربانية، والعلوم اللدنية، والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى: أفق الملائكة([17]).

وهذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة، فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم، وكذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها، ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السلفية، وتصير طوع إرادتهم ، أي أن أصحاب الكشف من الصوفية يتميزون بـ:

-       الانفراد بإدراك بعض أسرار الوجود.

-       إدراك بعض الحوادث قبل وقوعها.

-       التصرف بالهمة.

وهنا يؤكد ابن خلدون على أن كبار الصوفية لم يكونوا يعتبرون هذا الكشف، ولا هذا التصرف، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما وقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا وقع لهم.

وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، على مثل هذه المجاهدة. وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ. لكنهم لم يقع لهم بها عناية: وفي فضائل أبى بكر وعمر وعثمان وعلي،رضي الله عنهم، كثير منها، وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.

ثم إن قوما من (الصوفية المتأخرين) انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب، والكلام في المدارك التي وراءه.

واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوئها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك (زعموا) أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود، وتصوروا حقائقها كلها.

والواقع أن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة (وهي هنا الالتزام الكامل بتعاليم الدين)([18]) لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة، كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف عن الناشئ عن الاستقامة.

ومثاله: أن المرآة المصقولة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذي بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيها معوجا على غير صورته، وإذا كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا. فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال.

ويقول ابن خلدون: ولما عني (الصوفية) المتأخرون بهذا النوع من الكشف ، تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي، وأمثال ذلك ..

وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقتهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك.

فأهل الفتيا (من الفقهاء) بين: منكر عليهم، ومسلم لهم. ويعقب ابن خلدون على ذلك قائلا: وليس البرهان والدليل بنافع في هذا الطريق ردا وقبولا، إذ هي من قبيل الوجدانيات ...([19]).

ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة، المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى (الحلول) و (الوحدة)، وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له([20]) وتبعهم ابن عربي، وابن سبعين، وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض في قصائدهم.

وهنا يكشف ابن خلدون لأول مرة عن العلاقة بين بعض الأفكار والمبادئ الصوفية والشيعية، فيفتح بذلك مجالا واسعا لبحث مستفيض حول عمليات التأثير والتأثر التي كانت تجري بين المجالات المختلفة في الفكر الإسلامي([21]).

يقول ابن خلدون إن سلف هؤلاء المتصوفة المتأخرين كانوا مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول، وإلهية الأئمة مذهبا، لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم، وتشابهت عقائدهم([22]).

وكان من نتيجة هذا التلاقي ظهور بعض الأفكار الشيعية في مجال التصوف، وفي مقدمتها القول بالقطب، ومعناه: رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقام المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان !

ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم ونحلتهم وقفوه على الإمام على  t  وهو من هذا المعنى أيضا.

ويرجح ابن خلدون أن مكان هذا التبادل كان في العراق: عندما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم في الإمامة، وما يرجع إليها مما هو معروف، اقتبس المتصوفة منه الموازنة بين الظاهر والباطن، فجعلوا القطب في الباطن يماثل الإمام الشيعي في الظاهر، كما جعلوا الأبدال من حوله كالنقباء حول الإمام. يقول ابن خلدون: فتأمل ذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة، ومذاهبهم في كتبهم.

وينبهنا ابن خلدون إلى أحد أسباب الهجوم على التصوف، بأن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا عندما انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين من المتصوفة في هذه المقالات، وأمثالها، (شملوا) بالنكير (سائر) ما وقع لهم في الطريقة. أي أنهم لم يفرقوا بين ما هو أصيل في التصوف، وما دخل عليه من الخارج.

لذلك فإن ابن خلدون يسعى إلى إنصاف الصوفية([23]) مما لحق بهم، أو بالأحرى، ما لحق بمذهبهم الذي ينبغي أن نقسمه إلى أربعة أقسام:

الأول : الكلام على المجاهدات، وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما، ويترقى منه إلى غيره. وهذا أمر – كما يقول ابن خلدون – لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها عين السعادة.

الثاني : الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح، وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان في كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجداني. وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات. فينبغي ألا نتعرض لكلامهم في ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرم بها من سعادة !

الثالث : الكلام في كرامات القوم، وإخبارهم بالمغيبات، وتصرفهم في الكائنات. ويعتبره ابن خلدون أمرا صحيحا غير منكر، وإن مال بعض العلماء إلى إنكاره، فليس ذلك من الحق .. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع من المكابرة. وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك. وهو معلوم مشهور.

الرابع : مجموعة ألفاظ موهمة الظاهر، صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات، تستشكل ظواهرها: ويقـف العلمـاء إزاءهـا بين: منكر، ومحسن، ومتأول. أما ابن خلدون فيدعو إلى إنصاف القوم: فهم – في رأيه – أهل غيبة عن الحسّ. والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه. وصاحب الغيبة غير مؤاخذ. والمجبور معذور. وهنا تفصيل:

- فمن علم منهم فضله واقتداؤه: حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وأن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبي يزيد البسطامي، وأمثاله.

- وأما من تكلم بمثلها – وهو حاضر في حسه، ولم يملكه الحال – فمؤاخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر الصوفية بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور، وهو مالك لحاله، والله أعلم.

وأخيرا يشير ابن خلدون إلى أن سلف الصوفية، من أهل الرسالة القشيرية، أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك. إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه، ولم يحفل به، بل يفرون منه، ويرون أنه من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس، مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان، وعلم الله أوسع، وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك، فلم ينطقوا بشيء مما يدركون، بل حظروا الخوض في ذلك، ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه، والوقوف عنده، بل يلتزمون طريقهم كما كانوا في عالم الحس، قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد. والله أعلم بحقيقة الحال.

إن هذا العرض التاريخي، القائم على التحليل والتفسير والحكم، ينبغي أن يكون – في رأينا – أساسا يعتمد عليه في التأريخ للتصوف الإسلامي، وبيان نشأته، ومتابعة تطوره. ويمكننا أن نسجل حوله الملاحظات التالية:

أولا : أن ابن خلدون يرجع التصوف في بدايته إلى مصدر إسلامي، بل إنه يذهب إلى حد اعتبار الأجيال الإسلامية الأولى، خلال القرن الأول الهجري، وإنما كانت بسلوكها الإسلامي الخالص تعبر عن التصوف: كتيار تعبدي، زهدي، يتجه إلى الله تعالى، ويعرض عن زخارف الدنيا.

ثانيا : نقطة التحول الأولى في التصوف الإسلامي تتمثل في تركيز بعض أصحابه على ما أحدثته ممارسة التجربة الدينية بعمق في نفوسهم من إدراكات ومواجد، أخذت حدّتها تزيد بالإيغال في إماتة رغبات الجسد، واستمرار مجاهدة النفس، ومتابعة خواطرها بالفحص والتقويم.

ثالثا : نقطة التحول الثانية تمثلت في "تدوين" هذه الإدراكات والمواجد في مؤلفات، اختص بعضها بالجانب النفسي، وبعضها بالجانب السلوكي، وبعضها جمع بين الجانبين. عندئذ تحول التصوف – الذي كان عبارة عن تجربة حية تعيش في الهواء الطلق – إلى علم مقيد، له أصوله، وقضاياه، ومصطلحاته.

رابعا : هاجم أصحاب العلوم الشرعية الأخرى – كالفقه والحديث – علم التصوف باعتباره علما يدعي أصحابه أنهم وحدهم الأقدر على فهم "حقيقة" الدين، في حين أن العلوم الأخرى لا تدرك سوى "ظاهره". وقد وجد الفقهاء في ألفاظ الصوفية الغامضة أحيانا أو الشاطحة فرصة جيدة لرفض التصوف في مجمله.

خامسا : التأثير القوي الذي أصاب التصوف جاء من أفكار الشيعة الإسماعيلية في العراق. عندئذ راحت تسري في التصوف أفكار لم يكن يعرفها من قبل، مثل: القطب، والأبدال، والمعرفة اللدنية، والظاهر والباطن، وكما يقول ابن خلدون: "سرقت الطباع بعضها من بعض".

سادسا : يلاحظ أن ابن خلدون لم يتعرض لمرحلة ظهور الطرق الصوفيـة، مـع أنها كانت موجودة في عصره. كما أنه لم يشر إلى نظام الخانقاهات التي تولي هو نفسه – في نهاية القرن الثامن الهجري – واحدا من أهمها في مصر، وهو "خانقاه بيبرس"([24]).







مراحل التصوف الإسلامي


يطلق التصوف الإسلامي على ظاهرة روحية خاصة تعني التفرغ لعبادة الله، ومحاسبة النفس على خواطرها، والزهد في متع الدنيا وملذاتها، وعدم الاهتمام بمظاهر الحياة المادية والتعلق بحب الله، والاستغراق الكامل فيه.

وقد بدأت هذه الظاهرة مع بداية الإسلام. ثم أخذت تتطور حتى بلغت أوجها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ولم تتوقف عن الحياة بعد ذلك([25]).فقد ارتبطت بالأحداث الاجتماعية والسياسية التي مرت بالمجتمع الإسلامي، وتأثرت إلى حد كبير بالعوامل الثقافية التي انتشرت فيه.

ولا يتفق الدارسون حتى الآن على أصل كلمة تصوف، ومن أين جاءت. فيرى البعض أنها نسبة إلى الصوف الذي كان يلبسه الرهبان والزهاد في العصور القديمة، ويذهب البعض إلى أنها نسبة إلى الصفاء الروحي. ويرجعها البعض إلى أهل الصفة، وهم جماعة من الفقراء المسلمين، لم يكن لهم مأوى فكانوا يبيتون في المسجد على عهد الرسول r وأخيرا هناك من يرجع كلمة تصوف العربية إلى الكلمة اليونانية صوفيا، التي تعني الحكمة ومحبتها([26]).

وعلى أية حال فإن كلمة تصوف لم تظهر إلا في نهاية القرن الثاني الهجري، ولا يعني هذا أن مفهومها لم يظهر إلا في هذا الوقت. فالواقع أن التصوف الإسلامي قد أخذ عدة أشكال، ارتبطت بمراحل مختلفة يمكن أن نلخصها في المراحل الخمس التالية:

1-   مرحلة العبادة.

2-   مرحلة الزهد.

3-   مرحلة التصوف العملي.

4-   مرحلة التصوف الفلسفي.

5-   مرحلة الطرق الصوفية.

ولا يعني هذا التقسيم أن كل مرحلة قد بدأت في اللحظة التي انتهت فيها سابقتها. فإن ظاهرة روحية مثل التصوف، لا يمكن أن توضع حدود دقيقة لتطورها، فقد تتداخل مرحلتان أو أكثر لفترة من الوقت، دون أن يوجد خط قاطع يفصل بينهما. كما أن جوهر التصوف نفسه واحد على الرغم من اختلاف الأشكال التي يظهر فيها أو المراحل التي يمر بها. وعلى ذلك فإن الغرض من مثل هذا التقسيم ينبغي أن يكون واضحا منذ البداية، وهو أنه لمجرد تبسيط ظاهرة معقدة التركيب، ومحاولة تقريبها إلى الأذهان.

وتأتي مرحلة العبادة، والإغراق فيها، في الفترة الأولى من نشأة الإسلام، وفي حياة الرسول r  نفسه، فقد اتجه بعض المسلمين إلى الاكتفاء بتقليد تصرفات الرسول r في الأمور الدينية وحدها، دون أن يهتموا بالجانب العملي في حياته الدنيوية وهو أنه كان يتاجر، ويتزوج، ويقود الجيش، ويحكم بين الناس ... الخ. وقد نبههم الرسول r نفسه إلى ذلك. ولكنهم اندفعوا في جانب العبادة إلى حد التطرف. فكانوا يفرضون على أنفسهم من الواجبات الدينية أكثر مما ينبغي، فبدلا من صوم شهر رمضان فقط، كانوا يصومون العام كله، ويصلون أعدادا كبيرة جدا من الركعات، ويقرأ بعضهم فيها جزءا طويلا جدا من القرآن .. الخ. وربما كان هذا نتيجة اندفاع هؤلاء الأفراد في الإيمان بالدين الإسلامي، بعد حياة قضوا معظمها في الجاهلية، فحاولوا التكفير الكامل عمما سبق، ولهذا اقتصروا على جانب العبادة وحده الذي حث عليه القرآن الكريم، ودعا إليه في كثير من آياته([27]).

أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة الزهد. ويمكن القول بأنها تتعاصر مع انتشار الفتوحات الإسلامية، وزيادة أملاك الدولة، وتضخم ثروات بعض الأفراد والعائلات. وقد نشأ في مقابل ذلك رد فعل من جانب بعض المسلمين الأتقياء ضد هذا الاتجاه المادي، الذي بدأ يسرى في المجتمع الإسلامي، والذي ساعد عليه قيام الدولة الأموية، وتحول حكامها وأمرائها من المظهر العربي البسيط إلى مظهر الملوك والأباطرة القدماء. وكان الصحابي الشهير أبو ذر الغفاري أشهر من قاد اتجاه الزهد في الإسلام. وهو يعني رفض كل مظاهر الحياة المادية بما فيها امتلاك القصور والعبيد .. الخ. والاكتفاء بما هو ضروري للحياة البسيطة من شراب وطعام ومسكن وملبس، حتى يتفرغ الشخص لعبادة ربه، ولا يخشى من أن يفقد شيئا إذا تعرض لمواجهة الظلم، وإعلان كلمة الحق.

ومن أمثلة الزهد في هذه الفترة أن بعض المسلمين كان يمتنع عن أي شيء تشتهيه نفسه لأن الشهوة تتحكم في النفس، وهو لا يريد أن يكون محكوما إلا لله تعالى. فمثلا حرم بعضهم على نفسه أكل اللحم باعتباره طعام الأغنياء، ويقال إن أحدهم كان يمنع نفسه من شرب الماء البارد لأنه كان يجد في شربه متعة !

ثم تجيء المرحلة الثالثة من حياة التصوف الإسلامي، وهي مرحلة التصوف العملي([28])، الذي أصبح ظاهرة متميزة، امتزج فيها السلوك بالتفكير. وأصبح للصوفية فيها كيان خاص داخل المجتمع الإسلامي وطريقة خاصة في المعاملات، ولغة خاصة في التعبير. وهنا دخلت بعض المفاهيم الجديدة على التصوف الإسلامي، مثل مفهوم المعرفة، الذي يتلخص في أن معرفة الله هي الهدف الأسمى من العبادة، وكذلك مفهوم الحب الإلهي، الذي يعني أن الصوفي لا يعبد الله خوفا من النار أو رغبة في الجنة .. وإنما يعبده لذاته، حبا فيه وتعلقا به. كما تحددت في هذه المرحلة معالم الطريق الصوفي الذي يبدأ بالتوبة من الذنوب، وينتهي بالقرب من الله، والاتصال به، ولتحقيق ذلك لا بد من وجود شيخ يأخذ بيد المريد خلال المرحلة الأولى من الطريق.

وقد بلغت هذه المرحلة أوجها خلال القرن الثالث الهجري، وفيها وجدت أكبر مجموعة من أعلام التصوف الإسلامي، نذكر من بينهم الحلاج، وذا النون المصري، والحكيم الترمذي ... وقد دخل معظم هؤلاء الصوفية في مناقشات حادة مع معاصريهم وخاصة مع الفقهاء، الذين رأوا في طريقتهم خروجا عن تعاليم الإسلام البسيطة، واتهموا أحيانا بالكفر، كما حدث مع الحلاج الذي تم إعدامه من أجل بعض العبارات التي تشير إلى حلول الله فيه، والتي قالها في بعض حالات الوجد الصوفي مثل "أنا الحق" و "ما في الجبة إلا الله". ولا شك في أن هذه المرحلة قد تعرضت لبعض التأثيرات الدينية التي كانت موجودة قبل الإسلام.

أما المرحلة الرابعة، التي يطلق عليها التصوف الفلسفي، فتتمثل فيما كتبه بعض فلاسفة التصوف الإسلامي من أمثال السهروردي وابن عربي .. فمع السهروردي نلتقي بما يسمى "فلسفة النور" التي ترى أن الله هو النور الكامل، تليه مستويات أخرى من الأنوار الأقل كمالا، وأن الصوفي بإمكانه أن يتدرج في هذه الأنوار كلما طهر قلبه من أغراض الدنيا، واستغرق في معرفة الله([29]). أما ابن عربي، فهو صاحب فلسفة وحدة الوجود، التي ترى أن الله والعالم وجهان لشيء واحد، وأن الإنسان عبارة عن نسخة مختصرة من العالم، وأن قلبه مثل المرأة التي يمكن، إذا صفاها، أن يتلقى فيها صورة الله([30]). ومن المعروف أن كلا من هذين الفيلسوفين قد تعرض لحملة نقد عنيفة من فقهاء المسلمين، واعتبرت مذاهبهما أحيانا خروجا عن الإسلام بمفهومه الصحيح.

لكن إذا كانت هذه المرحلة قد تميزت بالفكر النظري المجرد فإن المرحلة الخامسة، وهي مرحلة الطرق الصوفية، قد تركزت اهتماماتها على الأمور العملية والسلوك الفردي والجماعي للصوفية0 ففي هذه المرحلة نجد أن لكل طريقة شيخا هو رئيسها الأعلى، وهي تحمل في الغالب اسمه، وتستمد تعاليمها من كلامه وتوجيهاته، ولكي يلتحق المريد الجديد بالطريقة، لا بد أن "يأخذ عهدا على الشيخ" وهذا العهد عبارة عن التزام كامل بنظام الطريقة وعدم الخروج عن تعاليمها. وبمجرد قبول المريد في الطريقة تلزمه مجموعة من الواجبات، أهمها الطاعة المطلقة للشيخ، والتعاون الكامل مع باقي الأعضاء بما في ذلك تزويدهم بالمال إذا كان غنيا، كما يكتسب بعض الحقوق، ومنها رعايته اجتماعيا إذا كان فقيرا. وقد استغل كثيرا من أتباع الطرق الصوفية هذا الحق، ومن هنا نشأت "ظاهرة التواكل" التي سادت في المجتمع الإسلامي خلال عصور ضعفه، وتحولت الطرق الصوفية إلى أماكن يلجأ إليها الكسالى والمنتفعون، "تكايا" ومن أشهر الطرق الصوفية التي مازالت حتى يومنا هذا: " الطريقة الشاذلية – والرفاعية – والأحمدية" ، ويلاحظ أن أتباعها في تزايد مستمر([31]).

وعموما فإن التصوف الإسلامي ظاهرة غنية جدا، لكنها مازالت في حاجة لدراسات أكثر عمقا وتفصيلا. ولا شك في أن صوفية الإسلام قد تركوا تراثا ضخما يحتوي على تجارب نفسية، وأخلاقية تستحق التقدير، كما أنهم توصلوا إلى نظريات ومذاهب فكرية غاية في العمق. وقد نبغ منهم شعراء كبار مثل ابن الفارض، والجامي، والشيرازي، وبالإضافة إلى ذلك تشتمل ظاهرة التصوف على الكثير من الأبعاد الاجتماعية والسياسية. ويرى معظم المستشرقين الذين درسوها أنها تمثل الجانب الروحي الوجداني من الإسلام في مقابل جانب الشعائر والعبادات. والواقع أن الصوفية قد فرقوا بين ما يسمى بظاهر الشريعة وباطنها ، وقالوا إن الظاهر وهو الأوامر والمحرمات موجه لعامة المسلمين، بينما لا يدرك الباطن وهو معرفة الله ، والاتصال به إلا جماعة الصوفية. وقد أداهم هذا إلى أن يفهموا النصوص الدينية فهما خاصا، وأن يلجأوا في تفسيرها إلى منهج "التأويل" واستخدموا في ذلك لغة رمزية، ذات تعبيرات ومصطلحات خاصة بهم. وأخيرا فإن مما يعطي للتصوف الإسلامي أهمية بالغة هو أنه يعيش حتى اليوم في وجدان الشعوب الإسلامية بصورة أو بأخرى مما ذكرناه في المراحل الخمس السابقة.

*    *


لحظة التحول الصوفي


تعتبر هذه اللحظة حدا فارقا بين فصليْن من حياة الصوفي، أما الفصل الأول فيغلب عليه الانكباب على شئون الدنيا، والاهتمام بتلبية مطالب الجسد، ومسايرة النزعات السائدة في المجتمع، بينما يتميز الفصل الثاني بتكريس النفس والجسد للعبادة، مع الزهد في الدنيا، والانخراط في الحياة الروحية الخالصة. ومن الملاحظ أن لحظة التحول الصوفي قد تأتى نتيجة تنبيه عنيف، يوقظ الإنسان من غفلته، ويدفعه إلى التفكير الجاد في مستقبل حياته ، وقد تأتى تلك اللحظة في أحيان أخرى بصورة هادئة وديعة، نتيجة صحبة شيخ يتدرج مع المريد في خطواته حتى يدخله في أعماق التجربة الصوفية. وهناك من لحظات التحول ما يكون نتيجة القراءة والاطلاع والمشاهدة والمعاينة لأحوال المجتمع، وطوائفه المختلفة.

كثير من الصوفية حدثونا عن لحظات تحولهم متى حدثت ؟ وكيف كانت ؟ وما هو الأثر المباشر؛ والتأثير الطويل المدى الذي غير قلب حياتهم كلها من حالة إلى حالة أخرى مختلفة عنها تماما ؟

1-حبيب العجمي، (ت 119 هـ) كان تاجراً يتعامل بالربا. مر يوما بصبيان فقالوا: قد جاء آكل الربا ! فنكس رأسه، وقال: يا رب أفشيت سري للصبيان ! وعاد إلى بيته فوضع كل ماله بين يديه، وقال: يا رب إني أشتري نفسي منك بهذا المال فأعتقني .. ولما أصبح تصدق به، ثم لبس ثوباً من شعر، واستغرق في العبادة، فلم يُرَ إلا صائما أو قائماً أو ذاكرا .. (حليه الأولياء 6/149).

2-إبراهيم بن أدهم (ت 161) كان من أبناء الملوك، فخرج يوما للصيد، فأثار ثعلبًا أو أرنباً، فبينما يجد في طلبه سمع هاتفا يناديه: يا إبراهيم، ألهذا  خلقت ؟ ثم سمع الصوت يصعد من السرج قائـلا: والله ما لهذا خلقت ! ولا بهذا أمرت ! فنزل عن فرسه وجلس تحـت شجرة، حتى مر به أحد الرعاة، فأعطاه فرسه، وبادله ثيابه، وانطلق في طريق التصوف (الرسالة القشيرية ص 13).

3-داود الطائي (ت 161 هـ) كان يجالس أبا حنيفة، وذات يوم قال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان أما الأداة فقد أحكمناها (يقصد علم الفقه) فقال له داود: فأي شئ بقى ؟ قال العمل بها ! يقول أبو داود فتنازعتني نفسي إلى العزلة، ومجالسة الزهاد (الرسالة القشيرية ص/ 2).

4-عبد الله بن المبارك (ت 181) كان مولعا بفتاة ، وفى إحدى ليالي الشتاء، ذهب إليها وهو سكران، ووقف تحت بيتها، وهى على السطح، وظلا يتناجيان حتى الفجر. وعندما سمع الأذان ظن أنه أذان العشاء، ولم يدرك أنه أذان الفجر حتى طلعت الشمس، فأدرك أنه قضى الليل كله فى مناجاة حبيبته، فاعتبر بذلك وقال لنفسه: عار عليك يا ابن المبارك: أتقف على قدميك طوال الليل من أجل لذتك، ثم تغضب عندما يطيل الإمام في قراءة بضع آيات من القرآن؟ أين حقيقة الإيمان في مقابل الدعـوى ؟ ! ثم تاب، وعكف على طريق الزهد والعبادة (كشف المختوم ص 31).

5-الفضيل بن عياض (187) كان من قطاع الطرق، عشق جارية فبينما يرتقي إليها الجدران سمع تالياً يتلو)لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ( [الحديد: من الآية16] فقـال: يا رب قد آن – فرجع فأواه الليل إلى مكان خرب، فإذا فيه بعض الأصحاب يتساءلون : هل نرحل أم ننتظر حتى يظهر الصبـاح ؟، فـإن فضيـلا يقطع الطريق ... فتاب الفضيل، وأعطاهم الأمان، وجاور الحرم حتى مات (الرسالة القشيرية 15).

6-بشر الحافي (227) وجد في طريقه قطعة جلد مكتوب عليها اسم الله تعالى، وقد وطئتها الأقدام، فأخذها، واشترى بعض الروائح الطيبة بدرهم، وطيب بها الجلدة، ثم وضعها في شق حائط ... فرأى في نومـه قائلا يقول له: يا بشر، طيبت اسمى، لأطيبّن اسمك في الدنيا والآخرة ! (القشيرية 18).

7-ذو النون المصري (245) سأله أحد المريدين : كيف كانت توبتك ؟ فقال: عجب لا تطيقه ! فألح عليه أن يخبره فقال: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى ، فنمت في الطريق فى بعض الصحاري، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة سقطت من عشها على الأرض، فانشقت الأرض فخرج منها وعاءان، أحدهما من ذهب والأخرى من فضه، في أحدهما سمسم وفي الأخرى ماء ، فجعلت تأكل من هذا وتشرب من هذا، فقلت: حسبي قـد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل (القشيرية 14 ، 15) .

8-سري السقطي (257) كان تاجرًا في السوق، فجاءه ذات يوم الصوفى معروف الكرخي ومعه صبي يتيم، فقال: أكسُ هذا اليتيم. فكساه. ففرح به معروف ودعا له قائلا : بغّض الله إليك الدنيا وأراحك مما أنت فيه. يقول سرى: فقمت من الحانوت وليس شئ أبغض إلىّ من الدنيا، وكل ما أنا فيه من بركات معروف !

9-الجنيد (ت 267) يقول : كنت بين يدي سري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين ومعه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام ما الشكر ؟ قلت: الشكر ألا تعصى الله على نعمه: فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانُك ! قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري .

10-الحكيم الترمذي (285) يقول: اجتمعنا ليلة على الذكر في ضيافة لأخ من إخواننا، فلما مضى من الليل ما شاء الله، رجعت إلى المنزل، فانفتح قلبي في الطريق فتحا لا أقدر أن أصفه، وكأنه وقع في قلبي شئ طابت له نفسي والتذت به وفرحت حتى مررت فما استقبلني شئ هبته، حتى أن الكلاب ينبحن في وجهي فآنس لنباحها من لذة وجدت في قلبي، حتى بدا لى أن السماء بكواكبها وقمرها صارت إلى قرب الأرض !!

11، 12- (المحاسبى 243، الغزالي 505، ابن عربى 638) : كان تحولهم الصوفي عن طريق القراءة والاطلاع، ومعاينة أحوال المجتمع، وطوائف العلماء في عصرهم .. ثم اقتناعهم أخيرا بأن طريق التصوف هو أفضل الطرق التي توصلهم إلى اليقين، على قدر الطاقة البشرية. وقد سجل الغزالى تحوله العقلي والروحي فى كتابه الرابع (المنقذ من الضلال) أما ابن عربى فكان شاباً موسراً من أسرة تعمل في بلاط الخلفاء ثم آثر صحبة شيوخ التصوف في عصره (أكثر من سبعين) وكان يطلق على المرحلة التي سبقت تحوله الصوفي مرحلة الجاهلية !

وهكذا نرى أن لحظة التحول في حياة الصوفي ترتبط بحياته الشخصية كما تتعلق بالظروف المحيطة به، ومن هنا ذهبنا إلى التجربة الصوفية إنسانية في طابعها، ومن الممكن جدا أن تتشابه ملامحها الخاصة لدى الذين يمرون بها في مختلف بلاد العالم، دون أن يكون بينهم علاقات تأثير وتأثر، أو حتى تبادل ثقافي لا يكاد يوجد إلا في أذهان بعض الباحثين !

لكن ما الذي يمكن أن نستخلصه من تلك التحولات الصوفية التي  تخرج أصحابها من أسلوب حياة اعتادوا عليه إلى أسلوب آخر مختلف عنه تماما ؟

هل هي تلك النزعة الفطرية لدى الإنسان إلى الاتجاه إلى الروحانية، والشوق إلى الاقتراب من الملأ الأعلى الذي يتجاوز حدود هذه الحياة      المادية ؟

هل هي القناعة بأن ملذات الجسد ومباهج الدنيا ليست سوى سراب خادع، وأن الحقيقة تكمن فيما وراء ذلك من عوالم سامية وخالدة ؟

أم هل هو سعي الإنسان في محاولة الترقي نحو الكمال، وخاصة بعد أن يدرك أنه لا يوجد في هذا الجسد الضيق الذي حبست فيه روحه، ولا في تلك الدنيا المتقلبة الأحوال، والمتغيرة في وسائلها وغاياتها ؟

من الممكن أن تكون الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها هي التي تدفع هؤلاء الأفراد القلائل إلى طي صفحة حياتهم السابقة، والبدء بصفحة جديدة تماما.

*  *
















الطريق الصوفي


ينفرد الهروى (ت 481 هـ) من بين مؤلفي الصوفية بأنه قد وضع في كتابه (منازل السائرين) عشرة أقسام للتدرج الصوفي، وكل قسم يحتوى على عشرة أبواب، فيصير العدد (100) منزل، يظل الصوفي ينتقل منها من منزل إلى الذي يليه حتى يصل إلى نهايتها. والأقسام العشرة هي:

1-قسم البدايات.

2-قسم الأبواب.

3-قسم المعاملات.

4-قسم الأخلاق.

5-قسم الأصول.

6-قسم الأدوية.

7-قسم الأحوال.

8-قسم الولايات.

9-قسم الحقائق.

10-قسم النهايات.

أما تفصيلاتها فتتوالى على النحو التالي:

1- قسم البدايات :

اليقظة – التوبة – المحاسبة – الإنابة – التفكر – التذكر –    الاعتصام – الفرار – الرياضة – السماع.

2- قسم الأبواب :

الحزن – الخوف – الإشفاق – الخشوع – الإخبات – الزهد –    الورع – التبتل – الرجاء – الرغبة.

3- قسم المعاملات :

الرعاية – المراقبة – الحرمة – الإخلاص – التهذيب – الاستقامة – التوكل – التفويض – الثقة – التسليم.

4- قسم الأخلاق :

الصبر – الرضا – الشكر – الحياء – الصدق – الإيثار – الخلُق – التواضع – الفتوة – الانبساط.

5- قسم الأصول :

القصد – العزم – الإرادة – الأدب – اليقين – الأنس – الذكر – الفقر – الغنى – مقام المراد .

6- قسم الأدوية :

الإحسان – العلم – الحكمة – البصيرة – الفراسة – التعظيم –    الإلهام – السكينة – الطمأنينة – الهمة.

7- قسم الأحوال :

المحبة – الغيرة – الشوق – القلق – العطش – الوجد – الدّهَـش – الهيَمان – البرق – الذوق.



8- قسم الولايات :

اللحظ – الوقت – الصفاء – السرور – السر – النَفَـس – الغربـة – الغرق – الغيبة – التمكن.

9- قسم الحقائق :

المكاشفة – المشاهدة – المعاينة – الحياة – القبض – البسط – الشكر – الصحو – الاتصال – الانفصال.

10- قسم النهايات :

المعرفة – الفناء – البقاء – التحقيق – التلبيس – الوجود – التجريد – التفريد – الجمع – التوحيد.

تلك هى معالم الطريق الصوفي كما حددها الهروى في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، أي بعد أكثر من ثلاثة قرون مرّت على وضع أسس التصوف الإسلامي، واستقرار درجاتها وفروعها لدى الصوفية0 ومن الجدير بالملاحظة أن كتاب الهروى الذي حدد فيه هذه المعالم قد تم شرحه أكثر من مرة، وعلى امتداد عدة قرون. ومن أهم هذه الشروح:

-       شرح اللخمي (ت 650 هـ).

-       شرح الكاشاني (ت 730 هـ).

-       شرح ابن القيم (ت 750 هـ) بعنوان ( مدارج الساكين) .

-       شرح الفركاوى (ت 795 هـ).

لكن هناك من الصوفية من اختصر الطريق في مراحل أقل من تلك المراحل المائة. فأبو طالب المكى يخصص في كتابة الضخم (قوت القلوب)([32]) فصلاً عن أساس المريدين، وفيه يقول:

المريد أي الصوفي المبتدئ لا بد له من خصال سبع:

1-الصدق في الإرادة، وعلامته إعداد العدة.

2-التسبب إلى الطاعات، وعلامة ذلك هجرة قرناء السوء.

3-المعرفة بالحال، وعلامته استكشاف آفات النفوس.

4-مجالسة عالم بالله، وعلامته إيثاره تعالى على ما سواه.

5-توبة نصوح، التي فيها حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة، وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه.

6-طعمة حلال لا يذمها العلم.

7-قرين صالح يؤازره على حاله، وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى، ونهيه عن الإثم والعدوان.

فهذه الخصال السبع هي قوت الإرادة التي لا قوام لها إلا بها. ويستعين المريد بأربع وسائل هى أساس بنائه، وبها قوة أركانه ، وهي:

1-الجوع.

2-السهر.

3-الصمت.

4-الخلوة.

أما أبو سعيد الخراز، وهو من كبار صوفيـة القـرن الثالـث الهجـري (ت 277 ، أو 279) فيختصر طريق المريد إلى الله تعالى في معرفة ثلاثة أصول([33])، والعمل بها. وبذلك يقوى إيمانه، وتقوم حقائقه، وتثبت فروعه فتصفو عند ذلك الأعمال وتخلص. وهي الإخلاص، والصدق،   والصبر ... يقول الخراز: وهذه ثلاثة أسماء لمعان مختلفة، وهي داخلة في جميع الأعمال. ولا تتـم الأعمـال إلا بها، فإذا فارقت الأعمال فسدت ولم تتم. ولا يتم بعض هذه الأصول الثلاثة إلا ببعض، فمتى فقد أحدها تعطلت الأُخَر:

فالإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه، والصبر عليه.

والصبر لا يتم إلا بالصدق فيه، والإخلاص فيه.

والصدق لا يتم إلا بالصبر عليه، والإخلاص فيه.([34])

وعموما فإن التفصيلات التي ذكرها الصوفية للطريق الصوفي الذي يسلكه المريدون كثيرة جدا، ومتنوعة إلى حد كبير، ومن الملاحظ أنها ترجع في مجملها إلى منهج الشيخ الذي يقود خطى المريد في مراحله الأولى. وهذا الشيخ هو الذي يحدد له المراحل، ويساعده على تجاوز الصعاب، كما يصغى جيدا لكل ما يشاهده من رؤى في اليقظة، أو أحلام عند النوم، وهذه كلها مؤشرات تساعد الشيخ على أن يقوم بتوجيه المريد نحو الطريق الصحيح، والصمود في مواجهة تحدياته.


*    *




















البناء الهرمي للصوفية


يبدو أن تأثير الدنيا لم يبتعد كثيرا عن الصوفية، حين أعلنوا الابتعاد الكامل عنها والقطيعة التامة معها، وذلك لأنه عندما كثرت أعداد الصوفية، وبرز فيهم العديد من الشيوخ، وجدناهم يصنعون "نظاما موازيا" لنظام الحكم في الحياة الدنيوية. فكما يوجد الخليفة أو السلطان ثم يتلوه الوزراء،  والقواد, والحجاب, إذا بالصوفية يصنعون لأنفسهم "مملكة روحانية" يأتي علـى رأسهـا "القطب" أو "الغوث" وعلى جانبيه "إمامان" ، ثم "الأوتاد" وهم أربعة، والبدلاء وهم سبعة، والنجباء: أربعون، ثم النقباء: ثلاثمائة ... وبالإضافة إلي ذلك هناك "الأفراد" الذين يعادل كل منهم القطب في المكانة، لكنه لا يتولى أي قيادة .. وفيما يلي مخطط تقريبي لهذا النظام:

القطب (الغوث)


إمام عن يمينه                               إمام عن يساره

الأوتاد (وعددهم أربعة)

الأبدال (وعددهم سبعة)

النجباء (وعددهم أربعون)

النقباء (وعددهم ثلاثمائة)



وسوف نحاول هنا أن نحدد الوظيفة (الروحية) لكل من هؤلاء، تبعاً لاثنين من كبار الصوفية والمؤرخين لها وهما ابن عربي (ت 638 هـ) والكاشاني (ت 735):

القطب : وهو الغوث، عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم في كل زمان، وهو على قلب اسرافيل عليه السلام. وتمثل رتبته باطن نبوة محمد e ولا تكون إلا لورثته، لاختصاصه u بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب الأقطاب إلا على باطن خاتم النبوة.

ولا ينبغي أن يكون القطب معروفاً من الناس في عصره، بل حتى من سائر الصوفية، وإنما الذين يعرفونه هم فقط عدد قليل من كبار الصوفية، لأنه دائما يخفي حاله، وحين يُكتشف أمره في مكان فإنه يغادره على الفور إلى مكان آخر.

وعندما تنتهي حياة القطب بالموت فإن الأحق بعده بهذه القطبية يحـل محله، حتى لا يخلو العالم – كما يرى الصوفية – من قطب هو مدار حفـظ العالم !

ويروي ابن عربي أنه في زمانه رأى القطب، وتعرف عليه، لكن هذا الأخير شدّد عليه في عدم إشاعة خبره حتى لا يعرفه أحد آخر، ثم ما لبث أن اختفى من المكان الذي عرفه فيه ابن عربي.

الأفراد : ويتوازى مع القطب مجموعة من كبار الصوفية، لم يرد وصف الواحد منهم بالفرد، وإنما جاء وصفهم دائما بالجمع. ويعرفهم ابن عربي بأنهم الرجال الخارجون عن نظر القطب، ويشرح بأنهم رجال الله، الذين كشف عن قلوبهم فلاحظوا جلاله المطلق، فأعطاهم بذاته ما يستحقه من الآداب والإجلال، منهم الفاتحون بحق الله – لا بأمره. وهو مقام جليل لا يناله إلا الأفراد من الرجال. فهؤلاء خصائص الله، قاموا بعبادة الله على حق الله، وهم الخارجون عن نظر القطب بمعنى أنهم يستمدون معارفهم من الله مباشرة، ولا يأخذونها عن طريق القطب.

الإمامان : وهما شخصان أحدهما عن يمين القطب ونظره في الملكوت، والآخر عن يساره ونظره في الملك، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي يخلـف القطـب (بعد وفاته).

الأوتاد : عبارة عن أربعة رجال، منازلهم على منازل أربعة أركان من العالم: شرق وغرب وشمال وجنوب. مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة، وهم معاونون للقطب في حفظها بمشيئة الله تعالى.

البدلاء : (أو الأبدال) وهم سبعة. ويختص الواحد منهم بأنه يسافر من موضعه، ويترك جسداً على صورته حتى لا يعرف أحد أنه فقد. وذلك هو البدل لا غيره, وهم على قلب إبراهيم u.

النجباء : وعددهم أربعون. وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق، فلا يتصرفون إلا في حق الغير.

النقباء : وعددهم ثلاثمائة. وهم الذين تحققوا باسم الله (الباطن) ، ومنه أشرفوا على بواطن الناس واستخرجوا خفايا الضمائر لانكشاف الستاير لهم عن وجود السرائر.

والسؤال الآن : ماذا كان يقصد الصوفية من هذا النظام الهرمي الذي اخترعوه، وكانوا ملتزمين به أشد الالتزام ؟

الإجابة : من الممكن أنهم أرادوا أن يقولوا للحكام الدنيويين: إننا لا نقل عنكم مكانة ولا مقدارا، فكما أنكم تتحكمون في مملكة ، فإننا أيضا نتحكـم في مملكة. لكن إذا كانت مملكتكم دنيوية حسية زائلة، فإن مملكتنا أخروية روحية باقية .. وإذا كان يوجد عندكم حروب وسجون ومظالم فإن مملكتنا الروحية خالية من كل ذلك .. لأنها تقوم على الأخوة والتصافي والاحترام الخالص من الأصغر قدراً للأكبر منه، وخاصة في مراتب الزهد والورع والتقوى ..

لكننا – من الناحية التاريخية البحتة – لا نكاد نضع أيدينا على تحقق هذا التنظيم الصوفي الدقيق على أرض الواقع، في أي عصر من العصور، ولا في أي مكان على خريطة الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من طابعه الروحي الخالص إلا أنه – كما سبقت الإشارة – يحتوي على محاولة نقد ضمنية للأنظمة الفعلية التي كانت قائمة، والتي كانت تفتقر إلى إشاعة المبادئ السياسية في الإسلام وهي العدالة والمساواة والشورى .. بل إنها كانت تتجاوز حدودها في بعض الأحيان فترهق الرعية بالكثير من ألوان العسف والظلم والاستبداد !


*   *










قواعد التصوف


جمع شهاب الدين أحمد بن محمد البرنسى الفاسي المعروف بـ (زرّوق) في كتابه (قواعد التصوف) 217 قاعدة([35]). وقال في مقدمته القصيرة جداً: "وبعد، فالقصد بهذا المختصر وفصوله تمهيد قواعد التصوف وأصوله، على وجه يجمع بين الشريعة والحقيقة، ويصل الأصول والفقه بالطريقة" وإذن فهي محاولة لإحداث التصالح بين علم الفقه، وعلم أصول الدين (علم التوحيد أو الكلام) وبين التصوف. فإذا علمنا أن زروق توفى عام (899هـ) أي في آخر القرن التاسع الهجري أدركنا أن الخلاف أو الصراع كان قد استمر محتدماً بين الصوفية من ناحية، وبين كل من الفقهاء والمتكلمين من ناحية أخرى، ومن ثم تأتي تلك المحاولة لإخماد هذا الصراع، الذي نقول من جانبنا إنه مازال مستمراً حتى يومنا هذا .. وسوف نختار فيما يلي طائفة من تلك القواعد التي ذكرها زروق، مع بعض الاختصار، دون الإخلال بأسلوبه المتميز:

القاعدة (1):

الكلام في الشيء فرع تصور ماهيته وفائدته بشعور ذهني، مكتسب أو بديهي، ليرجع إليه في إقرار ما وقع عليه: رداً و قبولاً، وتأصيلا وتفصيلا. فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه: إعلاماً به، وتحضيضًا عليه، وإيماء لمادته.

القاعدة (2):

ماهية الشيء حقيقته. وحقيقته ما دلت عليه جملته. وتعريف ذلك بحد وهو أجمع، أو رسم وهو أوضح، أو تفسير وهو أتم لبيانه وسرعة فهمه.

وقد حُدّ التصوف ورُسم وفُسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه.

القاعدة (4):

صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى، وبما يرضاه. ولا يصح مشروط بدون شرطه.

(ولا يرضى لعباده الكفر) فلزم تحقيق الإيمان

(وأن تشكروا يرضه لكم) فلزم العمل بالإسلام

فلا تصوف إلا بفقه، إذْ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه.

ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه.

ولا هما .. إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه.

فلزم الجمع لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد ولا وجود لها إلا فيها، كما لا حياة لها إلا بها.

القاعدة (5):

أصل التصوف مقام الإحسان، الذي فسره رسول الله e بـ "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" .. كما دار الفقه على مقام الإسلام، والأصول على مقام الإيمان. فالتصوف أحد أجزاء الدين، الذي علمه عليه السلام جبريل، ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم.

القاعدة (7):

بعد أن يذكر زروق خمسة احتمالات لأصل كلمة التصوف، يرجح المعني الخامس، الذي يرجع إلى أهل الصفّة، الذين قال الله تعالى فيهم )وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ(      [الأنعام : 52]. وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه.

القاعدة (8):

وقد كان أهل الصفّة فقراء في أول أمرهم، حتى كانوا يعرفون بأضياف الله، ثم كان منهم الغني والأمير، والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت .. فلا يختص التصوف بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد وجه الله.

القاعدة (13، 14):

التصوف علم قصد به إصلاح القلوب، وإفرادها لله عما سواه.

والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام، وظهور الحكمة بالأحكام  والأصول لتحقيق المقدمات بالبرهان، وتحليه الإيمان بالإيقان ، والطب لحفظ الأبدان، والنحو لإصلاح اللسان .. إلى غير ذلك.

وقد صح أن شرف الشيء يكون بشرف متعلقه

ولا أشرف من متعلق علم التصوف

لأن مبدأه خشية الله، التي هي نتيجة معرفته، ومقدمة اتباع أمره ، وغايته إفراد القلب له تعالى.

فلذلك قال الجنيد: لو علمت أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه.!



القاعدة (20):

الاشتراك في الأصل يقضي بالاشتراك في الحكم . والفقه والتصوف شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه . وقد صح أن العمل شرط كمال العلم فيهما .. لأن العلم إمام العمل، فهو سابق في وجوده، حكما وحكمة.

وقد استعاذ الرسول r من علم لا ينفع، وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه.

القاعدة (21):

ثبت أن علوم الصوفية منح إلهية، ومواهب اختصاصية، لا تنال إلا بمعتاد الطلب، فلزم مراعاة ذلك وهو ثلاثة :

أولها: العمل بما علم قدر الاستطاعة.

الثاني: اللجوء إلى الله في الفتح على قدر الهمّة.

الثالث: إطلاق النظر في المعاني، حال الرجوع لأصل السنة، ليجري الفهم، وينتفي الخطأ، ويتيسر الفتح".

وقد أشار الجنيد إلى ذلك بقوله:

- ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال.

وقال رسول الله e: من عمل بما علم .. ورثه الله علم ما لم يعلم .

وقال أبو سليمان الداراني:

- إذا اعتقدت النفوس ترك الآثام، جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدى إليها عالم علما !

القاعدة (35):

غلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين،

وكالمطعون عليهم من المتفقهين

يرد قولهم، ويجتنب فعلهم،

ولا يترك المذهب الحق بنسبتهم له، وظهورهم فيه.

القاعدة (37):

إذا حقق أصل العلم، وعرفت مواده، وجرت فروعه، ولاحت أصوله، كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله.

فليس المتقدم فيه بأوْلى من المتأخر، ولو كان له فضيلة السبق. فالعالم حاكم، ونظر المتأخر أتم، لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل أحد.

ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: إذا كانت العلوم منحاً إلهية ومواهب اختصاصيه، فغير مستبعد أن يدّخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين.

نعوذ بالله من حسد، يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف!

القاعدة (55):

نظر الصوفي للمعلومات أخص من نظر الفقيه، إذْ الفقيه يعتبر ما يسقط به الحرج، والصوفي ينظر ما يحصل به الكمال.

وأخص أيضا من نظر الأصولي، لأن الأصولي يعتبر ما يصح به المعتقد، والصوفي ينظر ما يتقوى به اليقين.

وأخص أيضا من نظر المفسر، وصاحب فقه الحديث، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتوه.

القاعدة (85):

التوقف في محل الاشتباه مطلوب، كعدمه فيما تبين وجهه من خير أو شر. ومبنى الطريق الصوفي، على ترجيح الظن الحسن، عند موجبه، وإن ظهر معارض، حتى قال ابن فورك:

- الغلط في إدخال ألف كافر بشبهة إسلامه، ولا الغلط في إخراج مؤمن واحد بشبهة ظهرت منه !

وسئل مالك عن أهل الأهواء: أكفار هم ؟ فقال: من الكفر هربوا. وقد اختلف في جماعة من الصوفية: كابن الفارض، وابن حلا، والعفيف التلمساني، وابن ذي سكن، وأبي اسحاق التجيبي، والششتري، وابن سبعين، وابن عربي، وغيرهم.

وقد سئل شيخنا أبو عبد الله القوري – وأنا أسمع – فقيل له:

- ما تقول في ابن عربي ؟

فقال: أعرف بكل فن، من أهل كل فن

قيل له: ما سألناك عن هذا ؟

قال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية !

قيل له: فما ترجح ؟

قال: التسليم !

قلت: لأن في التكفير خطرا، وتعظيمه ربما عاد على صاحبه بالضرر، من جهة اتباع السامع لمبهماته وموهماته !

القاعدة (105):

تمرين النفس في أخذ الشيء وتركه، وسوقها بالتدريج أسهل لتحصيل المراد منها.

فلذلك قيل : ترك الذنوب أيسر من طلب التوبة. ومَنْ ترك شهوة سبع مرات، كلما عرضت له تركها، لم يبتل بها! والله أكبر من أن يعذب قلبا لشهوة تركت لأجله.

وقال المحاسبي رحمه الله في صفة التوبة: إنه يتوب جملة ثم يتتبع التفاصيل بالترك، فإن ذلك أمكن له. وهو صحيح.

القاعدة (172):

إفراد القلب لله تعالى مطلوب بكل حال.

فلزم نفي الرياء بالإخلاص، ونفي العجب بشهود المنة، ونفي الطمع بوجود التوكل.

ومدار الكل على سقوط الخلق من نظر الحق.

فلذلك قال سهل التستري: لا يبلغ العبد حقيقة هذا الأمر، حتى تسقط نفسه من عينه، فلا يرى في الدارين إلا هو وربه، أو يسقط الخلق من عينه، فلا يبالي بأي حال يرونه !

وقال الشيخ أبو العباس المرسي: من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء .. وعبد الله سواء عليه: أظهره أو أخفاه !


القاعدة (193):

لكل شيء وفاء وتطفيف. كما قال عمر بن الخطاب t  فمن أثبت مزية نفسه وجحد مزية غيره كان مطففا، وسواء: العلم والعمل والحال.

فأما إن أضاف فضيلة لغير نفسه، بتصريح أو تلويح، فهذا سارق والمتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور !

فمن ثم قيل: من حكى حكاية السلف واتخذها حالاً لنفسه زلت به قدمه في مهاوي الضلال، وعن قريب تفضحه شواهد الامتحان !

لأن من ادعى فوق مرتبته حط لدون مرتبته.

ومن وقف دون مرتبته رفع فوقها.

ومن ادعى مرتبته نوزع في استحقاقها !

القاعدة (208):

دواعى الإنكار على القوم (الصوفية) خمسة:

أولها: النظر لكمال طريقتهم، فإذا تعلقوا برخصة، أو أتواْ بإساءة أدب أو تساهلوا في أمر، أو بدر منهم نقص، أسرع للإنكار عليهم، لأن النظيف يظهر فيه أقل عيب ! ولا يخلو العبد من عيب، ما لم تكن له من الله عصمة أو حفظ.

الثاني: رقة المدرك، ومنه وقع الطعن على علومهم في أحوالهم، إذْ النفس مسرعة لإنكار ما لم يتقدم لها علمه.

الثالث: كثرة المبطلين في الدعاوي، والطالبين للأغراض بالديانة، وذلك سبب إنكار حال من ظهر منهم بدعوى، وإن أقام الدليل لاشتباهه.

الرابع: خوف الضلالة على العامة باتباع الباطن دون اعتناء بظاهر الشريعة كما اتفق لكثير من الجاهلين.

الخامس: شحة النفس بمراتبها، إذ ظهور الحقيقه: مبطل حقيقة !

فمن ثمّ أولع الناس بالصوفية أكثر من غيرهم، وتسلط عليهم أصحاب المراتب أكثر من سواهم. وكل الوجوه المذكوره صاحبها مأجور أو معذور، إلا الأخير !!  *    *



تفرد الصوفية

فى الآداب والمعارف


فتح هجوم الفقهاء وعلماء الحديث والمتكلمون على الصوفية مجالاً حاول فيه هؤلاء الأخيرون أن يدافعوا عن أنفسهم ، وأن يبينوا فى نفس الوقت حقيقة مذهبهم ، ويوضحوا الأسس التي يستندون عليها، والأهداف التي يسعون لتحقيقها. وبطبيعة الحال، لم يخل دفاع الصوفية عن أنفسهم من تلميح وغمز لخصومهم، فقد أطلقوا عليهم مصطلح "علماء الظاهر" و "علماء الرسوم" أي الشكليات، وذلك في مقابل وصفهم لأنفسهم بأنهم "علماء الحقيقة" أو"الباطن".

لكننا نتساءل: ما هو موقف الصوفية الحقيقي من علوم الشريعة الأخرى، كالفقه والحديث ؟ وهل صحيح أنهم لم يكونوا يهتمون بهذه العلوم، وينظرون إليها باستخفاف ؟ ومن الواضح أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة سوف تقودنا إلى معرفة مدى صلة التصوف كعلم بعلوم الشريعة الأخرى.

ويجيب الطوسي على ذلك بأن طبقات الصوفية اتفقوا مع الفقهاء وأصحاب الحديث في معتقداتهم، وقبلوا علومهم، ولم يخالفوهم في معانيهم ورسومهم – إذا كان ذلك مجانبا للبدع، واتباع الهوى، ومنوطا بالأسوة  والاقتداء – وشاركوهم بالقبول والموافقة في جميع علومهم([36]).

ويؤكد الطوسي أن الصوفية الذين يقصرون عن مستوى الفقهاء وعلماء الحديث في الدراية والفهم والاطلاع لا يترددون في الرجـوع إلـى هـؤلاء الفقهاء والعلماء فيما أشكل عليهم من أحكام الشريعة أو حدود الدين. وعنـد وجود "الإجماع" فإن الصوفية ينضوون تحت لوائه، أما عندما يختلف الفقهاء فيما بينهم حول مسألة معينة، فإن الصوفية يفضلون أو يستحبون "الأخذ بالأحسن والأولى والأتم احتياطا للدين، وتعظيما لما أمر الله به عباده، واجتنابا لما نهاهم عنه"([37])

وإذن فليس من مذهب الصوفية اللجوء إلـى الرخـص، وطلـب التأويلات، والميل إلى الترفه، والسعات، وركوب الشهبات، لأن ذلك – فيمـا يرى الطوسي – تهاون بالدين.

ولا شك أن هذا يذكرنا بقول الرسول،e: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه.

ويقول الطوسي: ثم إن الصوفية – من بعد ذلك – ارتقوا إلى درجات عالية، وتعلقوا بأحوال شريفة، ومنازل رفيعة من أنواع العبادات وحقائق الطاعات والأخلاق الجميلة، ولهم في معاني ذلك: تخصيص ليس لغيرهم من العلماء وأصحاب الحديث. وشرح ذلك يطول. غير أني أبين لك من كل شئ طرفا حتى تستدل بما أذكره على ما لا أذكره، إن شاء الله تعالى([38]) .

فأول شئ من التخصيصات للصوفية، وما تفردوا بها عن جملة العلماء، من بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم: ترك ما لا يعنيهم([39]) ، وقطع كل علاقة تحول بينهم وبين مطلوبهم ومقصودهم، إذ ليس لهم مطلوب ولا مقصود غير الله، تبارك وتعالى. ثم لهم آداب، وأحوال شتى، منها :

- القناعة بقليل الدنيا عن كثيرها، والاكتفاء بالقوت الذي لابد منه، والاقتصاد على ما لابد منه من مهنة الدنيا: من الملبوس، والمفروش، والمأكول، وغير ذلك.

-  واختيار الفقر على الغنى اختيارا، ومعانقة القلة، ومجانبة الكثرة، وإيثار الجوع على الشبع، والقليل على الكثير.

- وترك العلو والترفع، وبذل الجاه، والشفقة على الخلق، والتواضع للصغير والكبير، والإيثار في وقت الحاجة إليه، وأن لا يبالي من أكل الدنيا.

-  وحسن الظن بالله، والإخلاص في المسابقة إلى الطاعات، والمسارعة إلى جمع الخيرات.

-  والتوجه إلى الله تعالى، والانقطاع إليه، والعكوف على بلائه، والرضا عن قضائه.

-  والصبر على دوام المجاهدة ومخالفة الهوى، ومجانبة حظوظ النفس، والمخالفة لها، إذ وصفها الله تعالى بأنها أمارة بالسوء، والنظر إليها بأنها "أعدى عدوك التي بين جنبيك"، كما روى عن رسول الله e ([40]) .

ثم إن من آدابهم وشمائلهم أيضا : مراعاة الأسرار ، ومراقبة الملك الجبار، ومداومة المحافظة على القلوب بنفي الخواطر المذمومة، ومساكنة الأفكار الشاغلة التي لا يعلمها غير الله عز وجل، حتى يعبدوا الله بقلوب حاضرة، وهموم جامعة، ونيات صادقة، وقصود خالصة، لأن الله عز وجل، لا يقبل من عباده من أعمالهم إلا ما كان لوجهه خالصا، قال الله عز وجل ]أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ[ ([41]).

ومن آدابهم وشمائلهم وتخصيصهم أيضا: الاعتراض لسلوك سبل أوليائه، أي الاختلاف إليها ومتابعتها، والنزول في منازل أصفيائه، ومباشرة حقيقة الحقوق ببذل الروح، وتلف النفس، واختيار الموت على الحياة، ولإيثار الذل على العز، واستحباب الشدة على الرخاء، طمعا في الوصول إلى المراد، وأن لا يريد إلا ما يريد – أي لا يريد الصوفي إلا ما يريده الله تعالى.

وهنا يستشهد الطوسي بذلك الحوار العميق الذي دار بين الرسول،e ، وحارثة عندما سأله الرسول قائلا: "لكل حق حقيقة. فما حقيقة إيمانك ؟

فقال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمات نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة: كيـف يتزاورون، وإلى أهل النار: كيف يتعاوون. فقال له الرسول،e ،: عرفت  فالزم – أو كما روى في الحديث، والله أعلم.

وللصوفية أيضا تخصيص من طبقات أهل العلم: باستعمال آيات من كتب الله تعالى متلوة، وأخبار عن رسول الله،e، مروية، ما نسختها آية، وما رفع حكمها خبر ولا أثر([42]) ، يدعو ذلك إلى مكارم الأخلاق، ويبحث عن معالي الأحوال، وفضائل الأعمال، وينبئ مقامات عالية في الدين، ومنازل رفيعة خص بذلك طائفة من المؤمنين، وتعلق بذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وذلك أدب الرسول،e، وخلق من أخلاقه، إذ يقول: ،e، إن الله أدبني فأحسن أدبي: وإذ يقول الله عز وجل )وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([43]) ، وذلك موجود في دواوين العلماء والفقهاء، وليس لهم في ذلك تفقه واستنباط كفقههم في سائر العلوم.

إن الطوسي يرى في هذا المجال الأخلاقي الذي يهتم به التصوف أمرا لا ينبغي لأي عالم منصف أن يشكك فيه، بل إنه يدعو مثل هذا العالم للإقرار به، والإيمان بأنه حق: وذلك مثل حقائق التوبة وصفاتها، ودرجات التائبيـن وحقائقهم، ودقائق الورع وأحوال الورعين، وطبقات المتوكلين، ومقامات الراضين، ودرجات الصابرين، وكذلك في باب الخشية والخضوع، والمحبة، والخوف والرجاء، والشوق، والمشاهدة، والإنابة والطمأنينة )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ(([44]) ، واليقين، والقناعة، وعدة أحوال أكثر من أن يحصى عددها. ولكل حال من ذلك أهل وطبقات، ولهم في ذلك حقائق ومشاهدات، وأحوال مراقبات، وأسرار واجتهادات، ومقامات ودرجـات متباينات، وإرادات متفاوته، وتفاضل في قوة الإرادة، واعتراض الفترة، وغلبات الوجد، ولكل واحد من ذلك حد ومقام، وعلم وبيان، على مقدرا ما قسم له الله، عز وجل([45]) .

ثم إن للصوفية بعد ذلك: مستنبطات في علوم مشكلة على فهوم الفقهاء والعلماء، لأن ذلك لطائف مودعة في إشارات لهم تخفي في العبارة من دقتها ولطافتها، وذلك في معنى: العوارض، والعوائق، والحجب، وخبايا السر، ومقامات الإخلاص، وأحوال المعارف، وحقائق العبودية، ومحو الكون بالأزل، وتلاشي المحدث إذا قورن بالقديم، وفناء رؤية الأعواض (أي أنواع الثواب)، وبقاء رؤية المعطي بفناء رؤية العطاء، وعبور الأحوال والمقامات، وجمع المتفرقات، وفناء رؤية القصد ببقاء رؤية المقصود، وترك الاعتراض، والهجوم على سلوك سبل منطمسة، وعبور مفاوز مهلكة.

فالصوفية مخصوصون بحل هذه العقد، والوقوف على المشكل من ذلك، والممارسة لها بالمنازلة والمباشرة، والهجوم عليها يبذل المهج، حتى يخبروا عن طرقها وذوقها، ونقصانها وزيادتها، ويطالبوا من يدعي حالا منها بدلائلها، ويتكلموا في صحيحها وسقيمها([46]) .

ويؤكد الطوسي أن جميع هذه الأمور التي أشار إليها – ولم يستقصها – موجود علمها في كتاب الله عز وجل، وفي أخبار رسول الله، e.

لذلك فإنه يرى أن من أنكر علم التصوف إنما هم جماعة من المترسمين بعلم الظاهر، لأنهم لم يعرفوا من كتاب الله، تعالى، ولا من أخبار رسول الله، e، إلا ما كان في الأحكام الظاهرة، وما يصلح للاحتجاج على المخالفين. ثم يضيف قائلا:

"والناس في زماننا هذا إلى مثل ذلك أميل، لأنه أقرب إلى طلـب الرياسة، واتخاذ الجاه عند العامة، والوصول إلى الدنيا" ([47]) .

وهكذا يكشف الطوسي عن أحد العوامل الاجتماعية التي دفعت الفقهاء، لاتخاذ موقفهم المعادي من التصوف. وأيا كانت حقيقة هذا العامل، فينبغي على الباحث ألا يسقطه تماما من اعتباره.

وأخيرا، فإن علم التصوف – كما يرى الطوسي – ليس بالعلم الـذي يجذب سحره العلماء، فضلا عن الجمهور. فقل من تراه يشتغل به: لأنه علم الخصوص، ممزوج بالمرارة والغصص، وسماعه يضعف الركبتين، ويحزن القلب ويدمع العين، ويصغر العظيم ويعظم الصغير، فكيف استعماله ومباشرته، وذوقه ومنازلته ؟ وليس للنفس في منازلته حظ، لأنه منوط بإماتة النفوس، وفقد الحسوس، ومجانبة المراد ... فمن أجل ذلك ترك العلماء هذا العلم، واشتغلوا باستعمال علم يحفف عليهم المؤن، ويحثهم على التوسيع والرخص والتأويلات، وقد يكون أقرب إلى حظوظ البشرية، وأخف تحملا على النفوس التي جلبت على متابعة الحظوظ، والمنافرة عن الخلق([48]) .

ومعنى هذا أن سائر علوم الشريعة الأخرى إنما تتطلب من المشتغلين بها مجرد الاهتمام النظري، أما علم التصوف فإنه العلم الوحيد الذي يقتضي أصحابه خوض تجربة عملية، بالغة الصعوبة، لأنها لا تستغرق فقط جهدهم ووقتهم، وإنما تملك عليهم نفوسهم وأرواحهم.


*    *





التصوف الإسلامي والنفس الإنسانية

لو راعينا الترتيب المنطقي في النظر إلى التجربة الصوفية وجدناها تتدرج في مستويات ثلاثة: مستوى نفسي، ومستوى سلوكي، ومستوى فكري.

في المستوى الأول: تأخذ التجربة طابعا وجدانيا خالصا، يتمثل في انطواء الصوفي على داخله، محاولا الكشف عن أدق النزعات والخواطر التي تجول فيه ، وبتعرفه عليها يمكن مقاومتها، بقصد الوصول إلى مرحلة عالية جدا من التصفية الروحية.

وفي المستوى الثاني، وهو المستوى السلوكي، يبدو الصوفي متفاعلا مع الناس والأشياء من حوله، وطابع هذا التفاعل عملي يتصل          بالأخلاق ويختلف باختلاف البيئات، وتحدد سلبيته أو إيجابيته طبيعة الظروف المحيطة به .

أما المستوى الثالث، فهو ما يعبر عن الموقف الفكري الذي ينشأ بالضرورة عن المرحلتين السابقتين. وفيه يعرض الصوفي وجهة نظره تجاه المسائل الكبرى (الله-العالم-الإنسان) وهو، في هذا المستوى، قد يضطر في سبيل الدفاع عن فكرته إلى عرض مذاهب مخالفيه، كما قد يتسرب إليه أسلوبهم المجرد أو يغلب عليه، فينتقل النقاش إلى صميم الفلسفة([49]) .

ومن أحد هذه المستويات الثلاثة، لابد أن يدخل الدارسون إلى التصوف، ذلك أن محاولة الإحاطة بالتجربة الصوفية – دفعة واحدة – من أكبر الصعوبات، وهي تصطدم بعقبات كثيرة، أهمها استعصاء هذه التجربة الفريدة على التحليل النفسي داخل "المعمل" حتى الآن .. وقد يتمثل أبسط هذه العقبات في كيفية تفسير هذا الإنتاج العبقري الذي خلفه الصوفية من مختلف العصور والأمم، والذي تكفي مجرد النظرة العابرة إليه في رفض ما قاله بعض علماء النفس من أن التصوف ظاهرة مرضية شاذة([50]) !

والواقع أننا سوف نعكف هنا على إمكانية تناول هذه التجربة – داخل التصوف الإسلامي – من جانبها النفسي، وذلك لما يمتاز به هذا الجانب من خصوبة وإبداع، وما يحتمل أن يسفر عنه من نتائج تتصل بالنفاذ إلى الجوهر الأصيل للتجربة الصوفية، مجردة عن الظروف التاريخية، أو الخلافات المذهبية التي نرى أنها شوهت كثيرا من ملامحها ، هذا فضلا عن العناصر الروحية المضيئة، التي يمكن أن نراها، ونتمثلها في وقت، نحن أحوج ما نكون فيه، إلى دفعة صوفية، تواكب سلوكنا العملي، وتبعث فيه مزيدا من الحرارة.

يمكن أن نتخذ نقطة البدء: موقف التصوف الإسلامي من النفس، ونسارع فنقول: إنه موقف يمتاز عن مثيله في الفلسفة الإسلامية (التقليدية) بخاصتين هامتين:

أولاهما : أنه موقف يتسم بالدقة في البحث والتواضع في روحه. فهو لم يهتم بحقيقة النفس في ذاتها، ولم يبحث أصلها ومصيرها الخارجين عن نطاق الظاهرة التي أمامه، بقدر ما وجه اهتمامه إلى الآثار الصادرة عن هذا الجزء، غير المحسوس في الإنسان .. ذلك الجزء الذي حاول الفلاسفة تشريحه، وبيان أقسامه، وتحديد مواطنها في البدن (العقل في الرأس، والغضب في القلب، والشهوة في البطن).

وثانيهما : أنه موقف يمكن وصفه بالحركة والحيوية، في مقابل موقف الفلاسفة الساكن من النفس .. يتضح ذلك من تصوير التصوف الإسلامي النفس: ذات شخصية لها طابعها السيال المتدفق المضطرب دائما بين الخوف والرجاء، والهيبة والأنس، والقبض والبسط .. الخ.ويمكن أن يقال إن الفلسفة قد وصفت النفس في ثباتها، بينما رصدها التصوف في حركتها الدائبة ، ذلك أن الفيلسوف يلاحظ، ويحلل، ويقارن، ثم يستخلص من ذلك كله ما يكون مبررا لحكمه، أما الصوفي فهو يعيش وينفعل، ويتعثر ويندفع .. وهكذا تلقي التجربة الصوفية ذاتها ضوءا يفسر لنا هذا الخلاف بين الموقفين.

لقد أعطى صوفية الإسلام للنفس قدرا كبيرا من اهتمامهم، وربما ضاق المقام هنا عن سرد المؤلفات التي خصصت للموضوع ، فضلا عن استعراض ذلك الحشد الهائل الذي ورد متناثرا في كتب التراجم والطبقات، لكن ربما تكفي الإشارة إلى ما ذكره السهروردي من أن للصوفية علما من أعز علوم القوم، هو علم النفس ومعرفتها، ومعرفة أخلاقها([51]) .

يقول الكاشاني([52]) : " النفس: هو الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحركة والإرادة .. وهي المشار إليها في القرآن بالشجرة الزيتونة، الموصوفة بكونها مباركة، لا شرقية ولا غربية، لازدياد رتبة الإنسان بها، ولكونها ليست من شرق عالم الأرواح المجردة، ولا من غرب عالم الأجساد الكثيفة".

ثم يتحدث عن ثلاثة أنواع من النفوس، وهو في ذلك لا يقسم بقدر ما يصف حالات مختلفة، قد تطرأ جميعها على نفس واحدة في أوقات متعاقبة ..

النفس الأمارة : هي التي تميل إلي الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلي الجهة السفلية. فهي مأوى الشر، ومنبع الأخلاق الذميمة، والأفعال السيئة. قال تعالى: )إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ( ([53]) .

النفس اللوامة : هي التي تنورت بنور القلب تنورا قدر ما تنبهت به من سنة الغفلة، فتيقظت وبدأت بإصلاح حالها، مترددة بين جهتي الربوبية   والخلقية .. فكلما صدرت منها سيئة بحكم جبلتها الظلمانية وسنخها، تداركها نور التنبيه الإلهي، فأخذت تلوم نفسها، وتتوب عنها، مستغفرة راجعة إلى باب الغفار الرحيم، ولهذا نوه الله بذكرها بالإقسام بها في قوله تعالى: )وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(([54]) .

النفس المطمئنة : هي التي تم نورها بنور القلب، حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة، وتخلقت بالأخلاق الحميدة، وتوجهت إلى جهة القلب بالكلية، متابعة له في الترقي إلى جانب عالم القدس ، متنزهة عن جانب الرجس، مواظبة على الطاعات، مساكنة إلى حضرة رفيع الدرجات ، حتى خاطبها ربها بقوله: )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً  ،  فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي(([55]) .

وهنا نلاحظ أنه على الرغم من الأهمية المتساوية التي أعطاها الكاشاني لكل من النفوس الثلاثة فإن معظم الصوفية – إن لم يكن كلهم – قد ركزوا على "النفس الأمارة" وخصوها بمزيد من عنايتهم نظرا لأنها "معدن كل سوء والداعية إلى كل بلية" ثم هي بعد ذلك عدو، مقاوم صلب. يقول السري السقطي: "أقوى القوة غلبتك نفسك".

لقد أدرك الصوفية بحق أنهم أمام عدو عنيف، ومن ثم تحول كل اهتمامهم إليه، كما تنبهوا إلى ما يمتلكه هذا العدو من أسلحة خفية، لكنها قاتلة، فراحوا يحذرون من مكر النفس، وخداعها وزخرفها. يقول المحاسبي، وهو من زعماء التحليل النفسي الدقيق: "فاحذرها" (أي النفس) وفتشها، وخاصمها – كما يخاصم الخصم الظلوم، الخائن، الموارب، البليغ في حجته، المزخرف القول الباطل بشدة بيانه([56]) .

ويرى الحكيم الترمذي – إيغالا في مقاومة النفس وترويضها – أن يكون أدبها يمنع الحلال عنها، حتى لا تطمع في الحرام !

وقد ذهب الكثير من الصوفية في مقاومة النفس ومعاداتها إلى أقصـى مدى .. يعبر عن هذا الموقف أبو بكر الطمستاني بقوله: ما الحياة إلا في الموت: أي: ما حياة القلب إلا في إماتة النفس.

غير أن منهم من اتخذ موقفا معتدلا، يقوم في أساسه على المعرفة الحقيقية بطبيعة النفس، وقدرتها على تحمل العقاب الذي يفرض عليها من الصوفي ، فقال بأن موت النفس لا يتم نهائيا، وإنما يمكن القول بأنها تبقى –   فقط – مقهورة، مسجونة الرغبات.

لا نريد أن نلتمس – من جانبنا – مبررا لهذا الموقف الصارم الذي اتخذه صوفية الإسلام من "النفس" وإنما حسبنا أن نستعرض كفاحهم في هذا الميدان، وهو ميدان لا نجرؤ على خوض معاركه العنيفة، وإن كان لا يفارقنا الإعجاب والدهشة أمام رؤاه. يقول الفيلسوف الغربي برجسون: "المتصوف إذا تكلم لقي في أعماق معظم الناس صدى خفيا لا يدرك، فهو يكشف لنا. أو قل: إذا شئنا كشف لنا عن أفق عجيب. ولكننا لا نشاء ذلك ، وفي معظم الأحيان لا نستطيع أن نشاءه. فالجهد يضنينا ! ومع ذلك فإن سحره ليأخذ بألبابنا"([57]) .

ولقد وضع صوفية الإسلام المناهج النظرية لمعرفة النفس والوقوف على أغراضها، وتتبع نزعاتها، وكيفية مقاومتها .. حتى تخرج – في نهاية هـذه المقاومة - عن ملك الشيطان، وتصبح ملكا للصوفي الذي يرفعها بدوره إلى الله.

وإلى جانب ذلك طبق هؤلاء الصوفية على أنفسهم هذا المنهج، فمزقـوا من حوله ستار الخيال والتجريد. وعاشوا تجاربهم أعمق ما تكون .. ثم عبروا لنا عن ذلك في صدق وأصالة ، وبهذا خلفوا للأجيال من بعدهم تراثا نابضا بالحياة والقوة معا([58]) .


*    *







الديناميكية

في التصوف الإسلامي


[هذا البحث من تأليف المستشرق الفرنسى الكبير روجر أرنالديز ، وقد قمت بترجمته من الفرنسية كنموذج للدراسات الغربية المتعمقة فى التصوف الإسلامى]




كان من اللازم أن ينقضي زمن طويل على الفكر الأوربي، حتى يدرك أن المشاعر الإنسانية لا يمكن حصرها في أي نظام من أنظمة الفكر الواضحة، ولا يمكن التعبير عنها بأية وسيلة من وسائل المنطق الأرسطي.

فالمشاعر لا تخضع لمبدأ التناقض. وهي – في ارتباطها بالضمير – الذي هو أساسا حركة، يختفي عندما يراد تحديده، ولا ينغلق في مفاهيم أو موضوعات – من النادر أن تكون خالصة (=محضة)، لكنها قادرة عندما تعاش على أن تضم في ذاتها المتناقضات: فلا يوجد سرور دون بقايا حزن، كما لا يوجد حب دون بغض، أو بغض دون حب.

وليس معنى هذا أن الضمير قادر على أن يحس، في نفس الوقت، بشعورين متمايزين ومتضادين إن الأمور عندما تمثل على هذا النحو        تنتج موقفا هزليا مضحكا، كما فعل رابليهRablais  عندما                    أظهر جارجانتياGargantia ([59]) حزينا على وفاة زوجته، وسعيدا فى نفس الوقت بميلاد ابنه !

وهذه الكوميديا دليل على الطابع الكاريكاتيري للضمير، حيث لم يتم تناول المشاعر في ذاتها، وإنما تبعا لأسباب خارجية استدعتها.

والواقع أنه في الحالة الوحيدة التي يمكن أن يوجد في الضمير شعوران متناقضان: يكون الأمر أن أحدهما قد خرج من الثاني واستدعاه، بينما الثاني يرتد إلى الأول. وفي الحقيقة، يوجد للمشاعر قطبان يتذبذب الضمير بينهما بصورة مستمرة، وهذا الطابع الجدلي هو الذي يولد الديناميكية.

بمقدار ما اهتمت الفلسفة الكلاسيكية بالضمير الأخلاقي، وبحثت عن تحديد الفضائل والعيوب، والمشاعر الطيبة والمشاعر الرديئة، فقد حاولت أن تزج بالقيم السيكلوجية في المستويات المنطقية. ولم يحدث إلا بالتدرج أن أدركنا استقلال عالم المشاعر وعدم اختزاله. فلا توجد مشاعر طيبة ينبغي أن ترتبط بالأفكار الحقيقية: الواضحة والمتميزة، كما لا توجد مشاعر رديئة تنتج أفكارا خاطئة: غامضة ومرفوضة. وليس هناك أدنى شك في أن ضرورات الحياة الدينية في دفعها الإنسان لكي يتجه نحو "أحوال الضمير" قد ساعدت على اكتشاف الطبيعة الجدلية للمشاعر.

ولما كان المنطق عاجزا عن التعبير عن هذه الحركة الأساسية فقد كان على البلاغة، بطائفة من الكلمات والصور، أن تنهض بهذه المهمة، وعندما قال سينكاٍٍSeneque  ([60]) بصدد الإنسان المتعلق جدا بحياته، والذي لا يكف عن الاهتمام بأدق الأمور من أجلها "الحياة في صيانة مريض" كان قد ابتكر " عبارة جيدة" اشتهر استعمالها أكثر مما اشتهرت رسائله المنطقية نفسها. فأن يعيش الإنسان ليس باكتناز حياته، وإنما بالمخاطرة بها، والتعرض للموت. وقد بين فيلون الإسكندري، وهو يشرح الاسم الوارد في التوراة ماتوزالاMathosala  "رسالة الموت": أن هناك نوعين من الموت: موت النفس أمام الله الذي وهبها الحياة، وموت الإنسان الذي يرغب في الحياة، ومن أجل ذلك يقتل في الحقيقة نفسه. وإذن فهناك كلمات كثيرة، تبدو حتى في استعمالها المحدد – غامضة، وهذه الكلمات هي نفسها التي تعبر عن "الواقع السيّال" للضمير الإنساني.

وتحتوي اللغة العربية على عدد كبير من المصطلحات التي تضم دلالات متناقضة، وتلك هي ما يعبر عنها بـ (الأضداد) ومن ثم يصبح من المهم فحص ما إذا كانت تلعب دورا في لغة التصوف الإسلامي، خاصة وأننا قد رأينا أن الاهتمام بالقيم الدينية التي يعيشها الضمير ينحصر، بصفة خاصة، في اكتشاف الطبيعة الجدلية للمشاعر.

ميز الصوفية المسلمون بين ثلاثة مستويات في الكائن الإنساني:

-       مستوى النفس الذي هو الضمير بذاته،

-       ومستوى القلب،

-       ومستوى السر.

وتمتد حياة النفس من لحظة الميلاد حتى الموت، وهي متميزة بـ (مقامات) تتابع بالتوالي بعد أن يستمر كل منها وقتا ما. ومن مشاعر الضمير يتكون لحن النفس. غير أنه بمقدار ما يتوقف الضمير في كل واحدة من هذه المواقف، لا يستطيع أبدا أن يحتوى أي مجموع أو على الأقل، المجموع الكامل لحياته. ومن ثم فانه لا يعرف نفسه ولا يستطيع أن يحكمها. إذ إنه لكي يحاكم القاضي لابد أن يزن ويقيس، ولكي يفعل ذلك لابد أن يوجد في الخارج،     ولهذا فإنه من منظور النفس، يتم الحكم عادة بعد الموت ) إِذَا قَضَى أَمْرًا ( (سورة مريم 39). وقد أعلنت الشريعة للناس، قبل موعد هذا الاستحقاق لكي تحذرهم وتقودهم إلى الطريق المستقيم. وإذن فالذى يميز الشريعة هو أنها عبارة عن وعد مرتبط بتنفيذ العبادات والطاعة، وقد حددت بصورة موضوعية دقيقة، ما يجب التلفظ به من أقوال، وما يجب الإتيان به من حركات، وكذلك الأوقات التي يتم فيها كل ذلك. وتتجنب الشريعة الدعوة إلى استبطان الضمير. وقد لاحظ "ابن حزم" ذلك بصدد حديثه عن (النية) التي تعتبر ضرورة لكي تملأ الفراغ الكائن في أفعال العبادات. وقد صيغت النية ببساطة على أن ما يأمر به الله كاف، ولكي تقضي على كل إعجاب بالنفس وتتجنب البحث عن أي صفاء نموذجي لا يستطيع الإنسان بلوغ مستواه. وهكذا لا تتطلب أحقية العمل الديني أكثر من ذلك، فهي لا تشترط نية للنية، ولا نية نية النية .. ذلك الذي يمتد إلى مالا نهاية، دون أدنى فائدة. إن انكفاء الضمير على ذاته أمر مكروه. وتتكون العقيدة من ذلك اليقين غير المخلوق الذي لا يستطيع الإنسان أن يحصل عليه نتيجة تأمله في ذاته، وتركيزه حول نفسه، كأن الهداية تأتي بالتأكيد من خارج النفس، من الله الذي يتجلي عندئذ قادرا علي كل شيء، مفردا في تعاليه، لا يملك المؤمن المخلص أمامه إلا الطاعة في خشوع )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(([61]). وإذن فهذه الطاعة الخاشعة، حين يحملها النص المقدس إلى القلب هي أولا عبارة عن موقف في مقابل (الوحي) الذي يلقيه الله في ذاكـرة النـاس )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(([62]).

إنه في اللحظة التي يستهلك فيها الموت كل شيء، يرتفع الغموض الأساسي عن مشاعر النفس )وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ(([63]). وإذن فالشيطان، إبليس، هو الذي يغوي بالمتشابهات الباطلة وبالتلبيس، وهو الذي يحرض الإنسان على أن يتعلق بالمخلوقات والنعم الحادثة التي يظهرها له مشروعة ومطلقة. إن كل ما تشعر به النفس يمكن إرجاعه: إما إلى الله الذي يرسله، وإما إلى النفس ذاتها، التي تريد العظمة، ليس في الحقيقة، وإنما في ظاهرها وأمام الناس. ولأن النفس ليست كائنا صلب التكوين فهي تستسلم بسهولة إلى التعالي بذاتها، وهذا هو ما يسميه الصوفية بـ (الرياء) الذي ينبغي عدم خلطة بـ (النفاق) لأن معناه ينطبق على فكرة أن يعرض الإنسان نفسه أمام الآخرين، وهذا ما يحدث تزويرا كاملا في الكائن. ونحن نتذكر هنا نظريات سارتر في سوء الظن وفي العبث والكوميديا التي تتمثل في حياة (الكائن لذاته).

وللتعبير عن عدم تلائم الإحساس بالذات مع النفس، تحتوي اللغة العربية على الصيغة الفعلية (تفاعل) التي تعد ذات علاقة بصيغة (فاعل) وكلاهما يعبر عن فكرة المنافسة مع الآخرين. فمثلا نرى (تماجد وماجد) ينطبقان على معنى واحد. لأن المنافسة مصحوبة دائما بتفاخر وعرض أمام الناس. و(فاخر وتفاخر) لهما أيضا نفس معنى المنافسة في المجد. لقد كانت الأخلاق البدوية قائمة على: أخلاق التنافس ، فالكرم معناه أن يكون الإنسان أكرم من كل الآخرين، وأن يباهي بالكرم (كارم) ، ثم جاء الإسلام فعارض هذا المستوى من القيم، فالله وحده الكريم المختص بالمجد .. الخ، ولا أحد على الإطلاق يفكر في أن يضاهيه. وإذن فقد كان من اللازم مكافأة هذا الاتجاه الذي يتمثل في أن تقارن النفس ذاتها بالآخرين وتتظاهر أمامهم. وهذا هو ما جعل من قيم البدو بالنسبة للمسلمين، ولكثير من المسيحيين "عيوبا براقة". فليس لديهم سوى مظاهر خادعة. المشكلة إذن هي في الوصول إلى (الإخلاص) الحقيقي. لكن الإنسان، على مستوى الأنطولوجي للنفس لا يقدر على ذلك، لأنه لا يتصنع فقط في محاولته العظمة، وإنما أيضا في محاولته الخشوع. إنه يتصنع الفقر (تفاقر) والجهل (تجاهل) وبصفة عامة، فليست النفس إلا تصنعا، وهكذا فإن أي تطور صرفي علي مستوى الإخلاص الأنطولوجي، يفترض صراعا من أجل (مخالفة النفس).

إن الشريعة في شكلها المادي تنذر وتحذر. وفي إمكان المؤمن الذي يطيع تعاليمها أن يتخلص من ألوان الغموض الشيطانية، ومن لبس الضمير، فلا يثق في نفسه، وإنما يجهد ليحقق مشيئة الله فيه. وليس بمقدار ما يحفظ نفسه من الشر، إنه يصل، بصورة إيجابية، إلى الخير لأن كل مرحلة على الطريق، حتى لو تجنب السقوط، تظل معرضة لغموض الضمير المحقق. النجاة إذن عن طريق الشريعة تتمثل في أن يتمسك الضمير الإنساني بالنص المحدد للشريعة، وأن يضع نفسه في المكان الذي يحل فيه ضمير الشريعة محل ضمير نفسه. وهذا النوع من النجاة هو ما يشترك فيه عامة المؤمنين. إن ما يسيطر على المؤمن في ملاحظته لتعاليم الشريعة، هو كما لاحظ القشيري: فكرة الحياة الأخرى وما يتمثل له فيها من وعود ومخاطر. وهنا خطوة نحو الإخلاص )إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ(([64]). وتبعا للمفسرين، يمكن قراءة هذه الآية على وجهين: بخالصة (بالتنوين) أو خالصة ذكرى الدار (بالإضافة) وفي حالة التنوين يكون المعنى، كما يذكر فخر الدين الرازي: لقد جعلنا من (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) رجالا خالصين، تبعا للخصلة الخالصة التي لا شوب فيها، والتي هي عبارة عن إخبارهم بدخول الجنة لخالدة. وفي حالة الإضافة يكون المعنى: لقد أخلصناهم تبعا لما هو خالص في ذكرى هذا الإخبار، لأن هذه الذكرى يمكن أن ترجع: إما إلى الله، إذا لم نعتقد إلا فيه، ونحن نتذكر الإقامة في الجنة، وإما إلى الإنسان إذا ما تذكر في نفسه . إن هاتين القراءتين هامتان جدا لأنهما تدلان على أن المفكرين المسلمين على علم بالفكرتين وأنهم لا يستبعدون أيا منهما. الله تعالى دائما هو الذي يهب الإنسان الإخلاص، لأنه لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يصل إلى الإخلاص الذي هو عبارة عن بساطة دون امتزاج بأي كائن. لكن هذا الإخلاص وهذا الصفاء الأنطولوجى يمكن تصوره كـ (طبيعة) يتقبلها المؤمن المحافظ على الشريعة، طبيعة أشبه ما تكون بمنحه في ذكرى الإخبار الإلهي، وذلك ما نعبر عنه بقولنا: الضمير الإنساني يصبح عندئذ ضمير الشريعة. وفي الواقع، يذكر الرازي بصدد (ذكرى الدار) أن هؤلاء المخبرين بالجنة مستغرقون تماما في ذكرى هذا الإخبار المتعلق بالآخرة، وأن الذكرى المستمرة التي يحفظونها منه توصلهم إلى حد أنهم ينسون هذه الدنيا. وتذهب القراءة الثانية (الإضافة) إلى أبعد من ذلك: إنه ليس فحسب بالاستغراق في الضمير الموضوعي للشريعة تتم النجاة، ولا بنسيان الدنيا، لكي لا نفكر إلا في الآخرة، يتخلص الإنسان من غموض الأمور التي يستخدمها إبليس لإغوائه بها، وإنما بنسيانه نفسه من أجل الله ، وذلك باكتشاف نفسه، في ذاتيتها، وما وراء ذلك من صفاء خلقه الذي أبدعه الله، حيث يمكن الإخلاص الحقيقي الأكيد. لقد اعتقد الصوفية أن هذين الشكلين من الإخلاص: الموضوعي والذاتي، مرتبطان باطنيا، وأنه يجب الانتقال بصورة طبيعية من الأول إلى الثاني.

لكن كيف يتم هذا الانتقال من مستوى النفس إلى مستوى القلب الأكثر عمقا؟ - بمنحة إلهية، فبينما تعتبر النفس مجالا للجهود الإنسانية (وهنا توجد علاقة دقيقة بين "قام بجهد" و "تظاهر" فإن القلب هو موضوع العطايا: إنه يتقبل الفضل الإلهي في (الأحوال) ، وليست هذه الأحوال غامضة مثل (مقامات) النفس ، ولكنها لا تحقق بعد الصفاء الانطولوجى الكامل للإخلاص. وحيث إنها غير غامضة فهي تحتوي على قطبين أساسيين متقابلين، وهي لا مدة لها، ومع ذلك فليست خاطفة علي الإطلاق. ولأنها لا تبقي زمانا طويلا فلا يمكن أن تمثل تارة وجها، وتارة وجها آخر. كما هي الحال في أحداث الضمير.وبما أنها ليست خاطفة فلا تقدم الوحدة الكاملة التي تستبعد كل إمكانية للشرك، والتي يتطلبها الإخلاص الحقيقي. إنها لحظة، وتلك هي "أوقات القلب" الشبيهة بما يسميه الفيزيقيون "لحظات الامتزاج أو التزاوج" وهي ديناميكية، عبارة عن توتر بين قطبين، وتذبذب مستمر من أحدهما للآخر، وهي تبث في القلب قوة ترج النفس وتهزها كما تفعل إيقاعات لحن قوي ..

وإذا كانت مشاعر النفس تقبل التعبير عنها بواسطة صيغة (تفاعل) فإن (أحوال) القلب، التي وصفناها تقبل التعبير عنها بـ (الأضداد): تلك الكلمات التي يتذبذب معناها بين دلالتين متقابلتين. ومن المؤكد أنه كان من المناسب جدا أن كل المصطلحات التي أعطاها الصوفية لـ (الأحوال) كانت من الأضداد. على الأقل سوف نرى أن المصطلحين الأولين يتبعان مستوى الأضداد، وهما: (الخوف والرجاء)، تقول الآية )وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ(([65]). لكن يستشهد في المعنى المقابل بآية )فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً(([66]). وكذلك بآية )يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ(([67]). حيث يفسر فعل الأمر (ارجوا) بـ (احذروا أو اخشوا). ويترجم "بلاشير" هذه الآية )الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا(([68]) (لا يرجون = لا يخشون ، أي ليس لديهم خوف) وبهذه المناسبة، يحدد الخليل أن فعل (رجا) لا نلتقي به أبدا في معنى: فزع، إلا إذا لحقه أداة النفي، وهذا ما حدث في الآية السابقة ، بيد أن "أبا الطيب" يلاحظ أنه يمكن أن يأخذ هذا الفعل، نفس المعنى، حتى إذا لم يكن منفيا، كما يرى في الأمثلة الأخرى المستشهد بها.

ويدل الفعل: الفعل خاف على (الفزع) عندما يتعلق الأمر بشيء لسنا متأكدين منه، لكنه يستعمل أيضا عندما نكون متأكدين وهكذا فآية )فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا(([69]) ينبغي أن تفهم على معنى "إذا علمتم جيدا أنكم لن تعدلوا" وليس " إذا خشيتم" ، غير أنه بمقدار ما يفهم منه عدم التأكد، فإنه يعني في نفس الوقت خشي ورجا ، كما أشار إلى ذلك "قطرب".

إن الحياة الدينية كلها تبدأ في الإسلام من (الوعد والوعيد) اللذين يذكرهما الله في القرآن مبشرا بالجنة ومنذرا من عذاب النار([70]). وإذا كان (الخوف والرجاء) من المشاعر المشتركة في النفس الإنسانية، فإننا نجد القرآن يأتي ليمس في الإنسان كل ما هو مشهور جدا، وعادي جدا في أحاسيسه. لكن من الذي يتمثل الأخطاء التي يمكن أن تقع له ولا يمتلكه الخوف والفزع، وفي المقابل، يظل دائما الرجاء والأمل اللذان لا يحدهما شيء .. وتميل النفس دائما إلى أن تطيل (مقاماتها) عندما تنتقل من شعور إلى شعور آخر مضاد، وهذا يحدث عادة بالتعاقب: فهي ترجو بعد أن تخاف، وتخاف بعد أن ترجو .. وهذه الانفعالات المتعاقبة تولد اضطرابا في النفس، أما في القلب فالأمر على العكس تماما، لأن الخوف الكامن في الرجاء، والرجاء الكامن في الخوف يجعلان الإنسان في يقظة دائمة، مجنبين نفسه أن تفتر أو تتجمد.

إن ديناميكية (الأحوال) الصوفية لا تدع النفس تغفل أبدا ، وفضلا عن ذلك، فإن مفهوم المصطلحين الأولين يولد مفهوم المصطلحين التاليين على نحو روحي أكثر كمالا. ويؤثر هذا المفهوم الأخير على النفس بحيث يجعل (الضمير بذاته) يتحرر بالتدريج من (ذاته) خالصا، بمعنى الإخلاص الداخلي (وهنا لم يعد الأمر يتعلق بالضمير الموضوعي للشريعة). ثم ابتداء من المصطلحين الأولين تتوالى باقي المصطلحات الزوجية (قبض، بسط)، (هيبة، أنس) .. الخ. وإذا لم تكن هذه المصطلحات (أضدادا) على المستوى المادي للغة فهي – من حيث انبثاقها وتطورها عن المصطلحين الأولين – تظل (أضدادا) على المستوى الروحي. وبحركة (التصفية) هذه، التي تنشطها حيوية (الأحوال) تبلغ النفس درجة (التقوى) وتختزن منها رصيدا ضخما. ويحدد الصوفية أصل التقوى كما لو كانت عبارة عن التحفظ من كل شرك مع (الله) ومع كل ما ليس (هو) وكذلك تجنب كل لبس(=اتقاء الشرك والشبهات). ومن المعلوم في الإسلام أن الشرك لا يقتصر فحسب على عبادة الأصنام التي هي من صنع الإنسان، وإنما أيضا خدمة أهوائه الخاصة، والخضوع لها كما لو كانت أربابا، وإذن فالتقوى تؤدي مباشرة إلى تلاشي الضمير بذاته، إلى فناء النفس، وإلى القضاء على كل ما هو مثار شك فيها.

وعندئذ يمكن للقلب أن ينخرط بالكلية في الطريق إلى الله. وهذا القلب (تواب) أي الذي يتجه نحو الله من الفعل "تاب" أي رجع إلى الله، وهو قريب من الفعل: تاب بمعنى رجع أو عاد – والتوبة كما يذكر الغزالي عبارة عن إسقاط الحجب التي تبعد الإنسان عن الله: المخلوق الذي يحب، عن الله المحبوب. وإذن فكلمة (تاب) تعد من (الأضداد) لأنها بهذا المعنى تنطبق على الإنسان الذي يتوب، وعلى الله تعالى الذي يتوب عليه. تقول الآية )إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ(([71]) (التواب) إذن هو التائب، أى الذي يهجر أخطاءه ويقلع عنها "المقلع عن ذنوبه، الراجع عنها"، وبالنسبة لله فانه )قَابِلِ التَّوْبِ(([72]) أي الذي يقبل فعل التوبة. لكن تبعا للمعنى المضاد: الله أيضا تواب  (انظر الآيات : 4/16 ، 24/10)([73]) فالآية تقول: من تاب تاب الله عليه. إن كلا من الفكرة والتعبير قرآني )ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(([74]) والآية رقم 117 من السورة السابقة (التوبة) مباشرة تقدم معنيين متطابقين لفعل تاب )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ( وقد حاول بعض المفسرين (الجلالين مثلا) أن يحدد المعنى الدقيق للجذر (توب) المنطبق معناه على الله، فقالوا: إن الله (يوفق) الناس في توبتهم، وأنه (يديم) توبتهم. لكن الصوفية المسلمين لم يفتهم أن يستفيدوا من القوة التعبيرية الموجودة في (الأضداد) لأنه في ديناميكية فعل واحد: نجد الإنسان يتجه نحو الله، والله نحو الإنسان. وفي قمة التطور الروحي، سوف نكتشف أن هذا الفعل الواحد ليس له إلا فاعل حقيقي واحد، هو الله تعالى.

وفي الواقع عندما يتخلص القلب في (أحواله) من شبهات النفس ويقضي على السلطان الخادع للضمير بذاته، يكتشف المؤمن أن كل ما فيه ليس إلا لله: أو أنه أصبح يوجد كلية بالله. وهذا هو (البقاء) . ومع ذلك يبقى عمل أخير لا لابد منه، وهو أن الإخلاص الأنطولوجي لا يدرك في اللحظة التي يكتشف فيها فقط أن (كل ما هو كائن، وكل ما هو ذاته لله) وإنما أيضا (ليس إلا فعل الله).

وبهذا ننتقل من مستوى القلب إلى مستوى (السر) فالمؤمن على مستوى القلب يحب الله، فهو (مريد، محب) والله (مراد، محبوب) أما في السر، فينقلب كل شيء: ويصبح الموجب سالبا، إذ أنه في حب الإنسان لله يكتشف أنه هو المحبوب، وأن الله هو المحب. ويبلغ النشاط الإنساني في بحثه عن الله، غايته، عندما يتحقق كلية في سلبية مطلقة حيث يتمد الفعل الإلهي، الذي يخلق وينجي معا، فعل الفعال الوحيد، الحقيقة الأنطولوجية الوحيدة، المنشئ الوحيد للحقيقة.

والإنسان في هذه النقطة يقع في منطقة أعلى من (مقامات) النفس و(أحوال) القلب، منطقة تقبل فيها "اللمسات" الإلهية التي تعتبر، بصورة مطلقة، لحظية، وهي ما يسميه الصوفية بـ (الطوارق). وهنا لم يعد الأمر يتعلق بإظهار ما يعطي الله في (توكل) النفس و (تسليم) القلب، كما لم يعد يوجد مكان لـ (كسب أو اكتساب) لأنه لا مكان إلا للقدرة الكلية العميقة التي يحققها الله، الذي يفعل كل شيء، وذلك هو ما يسمى بـ (التفويض). لقد تجاوزنا العبادة الخارجية (= العبادة) الموجودة في النفس (= علم اليقين) وكذلك العبادة الداخلية (= العبودية) الموجودة في القلب (= عين اليقين) إلى مستوى السر، حيث يصير المؤمن هو حقيقة العبادة ذاتها (= العبودة) ، وتلك هي ما يوجدها الله وحده (= حق اليقين). وهنا تجهد النفس لكي تحقق (= التواجد) ويتمتع القلب في شطحاته (= الوجد) بينما السر في مستوى الوجود الحقيقي (= الوجود) الذي يتمليء بالإخلاص الأنطولوجي.

ونلاحظ أنه قد أشير لهذا العمق الثالث في الكائن بكلمة (السر) التي تندرج صيغتها الفعلية (أسر) في قائمة (الأضداد) حيث تدل على: أظهر وأخفى. والحقيقة أنه يظهر في الجوهر الخالص لفعله وحقيقته أنه الفاعل الوحيد، لكنه يخفي عن كل إدراك، حين يكون موضوعا للتقديس والعبادة أو الحب لكنه دائما (فاعل) في مطلق (فعاليته).

ومن وجهة النظر اللغوية، تعتبر (الأضداد) غالبا: كلمات لها في وقت واحد معنى إيجابي ومعنى سلبي. فمثلا (الأمين) يدل على الشخص المؤتمن – بكسر الميم، وعلى الشخص المؤتمن – بفتح الميم. ومهما يكن في أمر، فالفرق بين الطبيعة الموجبة والطبيعة السالبة هنا ينحصر في تغير الحركات. لقد كان "ماسينيون" يحب أن يمثل الحروف الصامتة، المكتوبة بالحبر الأسود بالهيكل العظمى للكلمات، بينما الحركات الأصلية أو الإعراب المكتوبة بالحبر الأحمر، هي النفس الحي الذي يبث الحياة في الهيكل. والانتقال من الموجب إلى السالب الذي يمثله الانتقال من (القلب) إلى (السر) ما هو إلا حركة النفس، وارتباط الحياة بالكائن ..

لا ينبغي استنتاج أن التصوف الإسلامي يعتمد فقط على هذه الخاصة الهامة للغة العربية المتمثلة في (الأضداد). لكنه، عمدا أو من غير عمد، قد انتزع جزءا كبيرا من مجال كلمات كثيرة، لم يكن استعمالها منهجيا في كل موضع، وإنما في مواقف – مفاتيح، وأدخلها في صرح متماسك جدا للغة التصوف. وتبعا لما علقه مفكرو العرب على لغتهم دائما من فائدة، فلن يكون من المستغرب أن يؤثر طابع (الأضداد) المعروف جيدا في تطور حركة تعدد القطب في الأحول الصوفية. وفي الديناميكية، التي بفضلها تجاوز التصوف الإسلامي مستوى التظاهر والاحتفال العلني بأعمال الضمير.


*    *





مفهوم الشعائر عند الصوفية


على الرغم من بعض الاتهامات الموجهة إلى الصوفية بشأن إهمال جانب الشعائر الدينية ( الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج) أو اعتبارها في مرتبة أدنى بالنسبة إلى أفعال القلوب ورسوم الطريقة، فإنه لم يؤثر عن أحد منهم الدعوة إلى إهمال أي شعيرة دينية، بل على العكس، صرح الصوفية بأنهم يتخذون من هذه الشعائر وسائل تعينهم على الوصول إلى هدفهم النهائي، وهو القرب من الله تعالى ، بل إنهم تطرفوا أحيانا في أدائها.

لكن الأمر الهام، والذي يحتمل أن يكون وراء سوء الفهم المتعلق بهذه المسألة، هو أن تصور الصوفية أنفسهم للشعائر الدينية يختلف عن تصور الفقهاء لها، وهذا ناشئ بالطبع من منهجهم العام في فهم النصوص الدينية . فهم يرون أن النص الديني له ظاهر هو من نصيب العامة والجمهور، وباطن من نصيب الخاصة والصفوة. وعندما يطبق الصوفية هذا المنهج على الشعائر الدينية، نجدهم يصلون إلى النتيجة الطبيعية له ، وهي أن أداء تلك الشعائر يتم على مستويين: أحدهما شكلي ظاهري، والآخر باطني عميق.

وسوف نحاول فيما يلي استعراض الشعائر الأربع في الإسلام، وهي الصلاة والصوم والزكاة والحج، من خلال العرض الجيد الذي قدمـه الهجويـري (ت 465 هـ) في كتابه الضخم (كشف المحجوب) الذي يعد أقدم مؤلف في التصوف باللغة الفارسية، كما أنه أول كتاب منظم يتم وضعه في المبـادئ النظرية، والأصول العلمية للتصوف الإسلامي .


الصلاة :

يقول الهجويري الصلاة في اللغة تعني الذكر والانقياد. وهي عند الفقهاء عبـارة مخصوصة تطلق على الأحكام المعتادة ، وهي أمر من الحق تعالى أن: أقيموها خمس مرات. ولها شروط قبل الدخول فيها :

أولهــا : الطهارة من النجاسة في الظاهر، ومن الشهوة في الباطن.

والثانـي : طهارة الثوب من النجاسة في الظاهر، وأن يكون من وجه الحلال في الباطن.

والثالـث: طهارة الروح من الحوادث والآفات في الظاهر، ومن الفساد والمعصية في الباطن.

والرابـع : استقبال القبلة، فقبلة الظاهر الكعبة، وقبلة الباطن العرش، وقبلة السر المشاهدة.

والخامس : قيام الظاهر في حال القدرة، وقيام الباطن في روضة القربة، بشرط دخول وقتها في ظاهر الشريعة، ودوام وقتها في درجة الحقيقة.

والسادس : خلوص النية فى استقبال الحضرة .

والسابع : التكبير في مقام الهيبة، والقيام في محل الوصلة، والقراءة بترتيل وعظمة، والركوع بخشوع، والسجود بتذلل، والتشهد باجتماع، والسلام بفناء الصفة، كما جاء في الخبر عن النبي، u، أنه كان يصلي وفي جوفه أزيز كأزيز المرجل([75]).


ويقول أحد المشايخ : سألت حاتما الأصم (من صوفية القرن الثالث) كيف تصلي ؟ فقال: حين يدخل الوقت، أتوضأ وضوءا ظاهريا، وآخر باطنيا: الظاهري بالماء، والباطني بالتوبة ، ثم أدخل المسجد، وأجعل المسجد الحرام شاهدي، وأضع مقام إبراهيم بين عيني، وأرى أن الجنة عن يميني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، وملك الموت خلفي، وعندئذ أكبر بتعظيم، وأقوم بحرمة، وأقرأ بهيبة، وأسجد بتضرع، وأركع بتواضع، وأجلس بحلم ووقار، وأسلم بالشكر([76]) .

ويرى الهجويري أن مراحل الصلاة المختلفة تقابل خطوات الطريق الصوفي بدءا ونهاية. وذلك عندما يقرر أن "الصلاة عبادة يجد فيها المريدون طريق الحق من البداية إلى النهاية، وتتكشف فيها مقاماتهم" :

فالطهارة للمريدين في مكان التوبة.

والتعلق بشيخ في مكان التوجه إلى القبلة.

والقيام بمجاهدة النفس في مكان القيام.

ودوام الذكر في مكان القراءة.

والتواضع في مكان الركوع.

ومعرفة النفس في مكان السجود.

والتشهد في مقام الأنس.

والسلام في مكان التفريد من الدنيا،

والخروج من قيد المقامات،

ولذلك فإن الرسول r حين كان ينقطع عن كل المشارب، كان يطلب الشوق في محل كمال الحيرة، ويتعلق بالمشرب الأسمى، وعندئذ كان يقول: ”أرحنا يا بلال بالصلاة“.

وقال الرسول r "جعلت قرة عيني في الصلاة" أي أن كل راحتي في الصلاة، لأن مشرب أهل الاستقامة يكون في الصلاة.

وكان ذلك أنه حين عرج بالرسول r وبلغ درجة القرب، انقطعت نفسه عن الكون، ووصلت إلى تلك الدرجة التي كان فيها قلبه: فوصلت النفس إلي درجة القلب، والقلب إلى  درجة الروح، والروح إلى محل السر، وفني السر عن الدرجات، ومحي عن المقامات، وبقى بلا دلالة من الدلالات، وغاب عن المشاهدة في مشاهدة، وشرد من المغايبة، وتلاشى المشرب الإنساني، واحترقت المادة النفسانية، وانعدمت القوة الطبيعية، وصارت الشواهد الربانية عيانا فى ولايته، فلم يبق من نفسه بنفسه، ووصل المعنى إلى المعنى، وانمحى في كشف لم يزل، واختار شوقا بدون اختياره، وقال: يا إلهي ! لا ترجعني إلى دار البلاء ثانية، ولا تلق بي في قيد الطبع والهوى، فجاءه الأمر: هكذا حكمنا أن تعود إلى الدنيا لإقامة الشرع لنعطيك هنالك أيضا ما أعطيناك هنا. فلما عاد إلى الدنيا، كان كلما اشتاق إلى ذلك المقام الأسنى، يقول "أرحنا يا بلال بالصلاة"، فكانت كل صلاة معراجا له وقربة، فكان الخلق يرونه في الصلاة، وكانت روحه صلاة، وقلبه في مناجاة، وسره في تحليق، ونفسه في انصهار، حتى صارت الصلاة قرة عينه، فكان جسده في الملك (الدنيوي) وروحه في الملكوت (السماوي): كان جسده إنسيا وروحه في محل الأنس([77]).

ولا شك في أن المستوى العميق من تصور الصلاة على أنها معـراج متجدد، يصعد فيه الرسول e إلى مكان القرب من الله في كل مرة – يختلف – كثيرا عن مستوى الفهم الفقهي لشعيرة الصلاة، باعتبارها مجموعة من الأفعال والأقوال المبتدأة بالتكبير والمنتهية بالتسليم. كذلك فإن التصور الصوفي يضع المسلم أمام الصلاة في موقف أكثر وجدانية، وإحساسا بجلال القدوم على أمر خطير!

قال قائل: كنت أصلي خلف ذي النون (ت 245) فلما بدأ التكبير وقال: الله أكبر، وقع مغشيا عليه، كالجسد الذي لا حس فيه !

ويقول عبد الله بن المبارك: أذكر أني رأيت في الصغر امـرأة من العابدات، لدغتها العقرب في الصلاة، ولم يظهر عليها أي تغير، فلما فرغت من الصلاة قلت لها: يا أماه .. لم تدفعي عن نفسك تلك العقرب ؟ قالت: يا بني، أنت صغير، كيف يجوز أن أعمل لنفسي أثناء عملي للحق([78]) ؟!

وكان أبو الخير الأقطع (ت 346 هـ) قد أصيب بالجذام في رجله، فقال الأطباء: يجب قطع هذه الرجل، ولم يرض بذلك ، فقال المريدون: يجب أن تقطع رجله في الصلاة، فهو لا يدري بنفسه، ففعلوا كذلك ، وعندما فرغ من الصلاة وجد رجله مقطوعة([79]) !

أما عن مسألة إسقاط التكاليف، ومنها الصلاة، التي اتهم بشأنهـا الصوفية، فإننا لا نكاد نعثر لها على أمثلة حقيقية، بل إن أكثر الصوفية شطحا ومغالاة في التعبير عن أحوالهم الخاصة يؤكدون العكس تماما من هذه التهمة.

يروى أن الحسين بن منصور الحلاج (ت 309 هـ) كان يصلي أربعمائة ركعة في كل يوم وليلة، وكان يفرضها على نفسه، فقيل له: لم كل هذا العناء وأنت في هذه الدرجة ؟ فقال: العناء والراحة يبدوان في حالكم، أما الأحبة فصفتهم فانية، فلا يبدو عليهم تعب ولا راحة([80]) .

ويذكر السراج أنه سمع ابن علوان يقول: كان الجنيد لا يترك أوراده من الصلاة على كبر سنه وضعفه، فقيل له في ذلك، فقال: حال وصلت به إلى الله تعالى في بدايتي، كيف يتهيأ لي أن أتركه في نهايتي([81]) ؟!

الصـوم :

كذلك يتخذ الصوم مفهوما أكثر عمقا لدى الصوفية. فهم يرون أن الله تعالى حين يعصم إنسانا من المعصية تكون كل أحواله صوما. ويقول الجنيد: إن الصوم نصف الطريقة([82]) .

ويرى الهجويري أن حقيقة الصوم هي الإمساك. والطريقة كلها مضمرة في هذا. وأقل درجة في الصوم هي الجوع. والجوع طعام الله في الأرض. وهو محمود بجميع الألسنة بين الخلق: شرعا وعقلا.

وللإمساك شروط. فكما أنك تحفظ الجوف من الطعام والشراب، فإنه يجب أن تحفظ العين من النظر إلى الحرام والشهوة، والأذن من الاستماع إلى اللهو والغيبة، واللسان من قول اللغو والآفة، والجسد من متابعة الدنيا ومخالفة الشرع، وعندئذ يكون هذا هو الصوم الحقيقي([83]) .

والواقع أن التصور الصوفي للصوم كان له دور كبير في تأكيد أن الصوم ليس مجرد الإمساك عن شهوتي البطن والفرج . فهم يقررون أن الصوم عن الطعام والشراب عمل الصبيان والعجائز وبذلك ”ينبغي الصوم عن الملجأ والمشرب والمهرب“ وهذا معناه الابتعاد عن كافة الشهوات، والنوايا السيئة، والرغبات الشريرة .. الخ.

وفى نفس الوقت، فإن الصوفية لم يهملوا شعيرة الصوم، وكل ما ورد عنهم في هذا الجانب يؤكد أنهم ملتزمون بالتمسك بهذه الفريضة، بل أكثر من ذلك نجدهم يغالون في أدائها، يقول الهجويري:

رأيت من المشايخ من كانوا يصومون دائما، ومن لم يصوموا غير رمضان .. فأولئك طلبا للأجر، وهؤلاء تركا للاختيار والرياء.

ورأيت من كانوا يصومون دون أن يعلم أحد، وحين كان يقدم لهم الطعام كانوا يأكلون. وهذا أكثر موافقة للسنة.

ورأيت من كانوا يصومون الأيام البيض، والعشرة المباركة، ورجب، وشعبان، ورمضان ([84]) .

أما عن المبالغة في أداء الصوم، فيروي عن أبي نصر السراج صاحب كتاب اللمع أنه ورد بغداد في شهر رمضان، فأعطوه خلوة في مسجد الشونيزيه، وأسلموا إليه إمامة الدراويش، فأمهم حتى العيد، وكان يختم القرآن خمس مرات في التراويح، وكان الخادم كل ليلة يضع قرصا في الخلوة، فلما كان يوم العيد رحل .. ونظر الخادم، فكان الثلاثون قرصا في مكانها([85]) !

ويروي عن إبراهيم بن أدهم أنه لم يكن يأكل شيئا في شهر رمضان من بدايته إلى نهايته([86]) .

الزكــاة :

أما هنا فإن تصور الصوفية يبدو مختلفا إلى حد كبير عن التصور الإسلامي المعروف لشعيرة الزكاة. ولا يرجع السبب في ذلك إلى البعد عن هذا التصور قصدا، وإنما يرجع إلى موقف الصوفية أنفسهم من المال، والثروة .. فهم لا يملكون شيئا لكي يزكوا عنه، أو يتصدقوا به. وفضلا عن ذلك، فإنهم يعتبرون الثروة ذاتها غير محمودة وفي رأيهم أن من يملك شيئا. يحول عليه الحول، أي يمضي على وجوده عنده عام كامل، لابد أن يكون بخيلا، والبخل مذموم، وعلى العكس من ذلك فإن السخاء محمود، ومطلوب. وإذا كان السخاء يؤدي إلى تجرد الصوفي عن كل ما يملك، فعلي أي مال تجب الزكاة([87]) ؟!

حاول أحد علماء الظاهر امتحان الشبلي (ت 334 هـ) في مدى معرفته بأحكام الزكاة فسأله: ما الذي يجب أن يعطي الشخص من الزكاة ؟ فقال حين يكون البخل موجودا، ويحصل المال، فيجب أن يعطي خمسة دراهم عن كل مائتي درهم ونصف دينار عن كل عشرين دينارا. وهذا في مذهبك. أما في مذهبي فيجب ألا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة. فسأله: من إمامك في هذه المسألة ؟ قال: أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لأنه أعطى كل ما يملك، فقيل له: ما خلفت لعيالك ؟ قال: الله ورسوله([88]) .

لكن الصوفية من ناحية أخرى وسعوا مفهوم النعمة التي تجب عليهـا الزكاة. فليست النعمة فقط منحصرة في المال، وإنما تشمل أيضا الجـاه، والصحة، كما أن هناك نعما ظاهرة فإن هناك أيضا نعما باطنه يعرفها المرء من نفسه .. وفي كل ذلك تجب الزكاة.

يقول الهجويرى: وللجاه أيضا زكاة، كما للمال. لأنه أيضا نعمة تامة، كما قال رسول الله e "إن الله تعالى فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة مالكم" وأيضا قوله: إن لكل شئ زكاة، وزكاة الدار بيت الضيافة([89]) .

وإذا كانت الزكاة عبارة عن أداء شكر النعمة من جنس النعمة نفسها. فإن الصحة نعمة عظيمة. ولكل عضو زكاة. وذلك أن يجعل الإنسان كل أعضائه مستغرقة في الخدمة، ومشغولة بالعبادة، ولا يميل إلى أي لعب أو لهو حتى يكون قد أدي حق زكاة النعمة.

وللنعم الباطنة أيضا زكاة. ولا يمكن إحصاء حقيقتها لكثرتها، فينبغي لها زكاة تناسبها، وذلك عرفان النعمة الظاهرة والباطنة. وإذا عرف العبد أن نعم الحق تعالى عليه لا حدود لها، فإنه يجب عليه لزكاة النعم التي لا حد  لها.. شكر لا حد له([90]) .

أما المسألة التي جرى فيها خلاف بين الصوفية، فهي قبول الزكاة من الآخرين . وقد كان من مشايخ الصوفية من أخذ الزكاة، ومنهم من لم يأخذها. فمن لم يكن فقرهم باختيار لم يأخذوها قائلين: مادمنا لا نجمع المال حتى إعطاء الزكاة، فإننا لا نأخذ كذلك من أرباب الدنيا حتى لا تكون يدهم العليا ويدنا السفلى. ومن كانوا مضطرين في الفقر أخذوها، لا لأنها كانت لازمة، بل لأنهم أرادوا أن يرفعوا الفريضة عن رقبة أخ مسلم.. ويعلق الهجويري على ذلك بقوله: "فلو كانت هذه نيتهم لكانت هذه هي اليد العليا، لا تلك"([91]) !!

الحــج :

كان الحج فرصة أخرى، قابل فيها الصوفية بين مستويين من العبادة أحدهما ظاهري، والآخر باطني. وقد قام الهجويري بمقارنة طريفة بين هذه المستويين، يقول:

الحج من الفرائض المفروضة فرض عين على العبد، في حال صحة العقل والبلوغ والإسلام وحصول الاستطاعة. ويكون ذلك بالإحرام بالميقات، والوقوف بعرفات، وطواف الزيارة بالإجماع، ولا يجوز السعي بين الصفا والمروة بلا إحرام في الحرم. على اختلاف.

ويسمون الحرم حرما لأن فيه مقام إبراهيم، ولأنه محل الأمن. ولقد كان لإبراهيم u مقامان: أحدهما مقام الجسد، والآخر مقام القلب. فمقام الجسد هو مكة ، ومقام القلب هو الخلة (ومنها لقب بالخليل).

وكل من يقصد مقام جسده، يجب أن يعرض عن جميع الشهوات واللذات ليكون محرما، ويلبس الكفن، ويكف اليد عن الصيد الحلال، ويقيد جميـع الحواس، ويحضر في عرفات، ويذهب من هنالك إلى المزدلفة والمشعر الحرام، ويأخذ الجمرات، ويطوف بالكعبة في مكة، ويذهب إلى منى، ويبقى هناك ثلاثة أيام، ويرمي الجمرات بشروطها، وهناك يطلق شعره، ويضحي، ويرتدي ملابسه ليصبح حاجا.

وأيضا عندما يقصد شخص مقام قلبه، يجب عليه أن يعرض عـن المألوف، ويقوم بترك اللذات والراحات، ويحرم عن ذكر الغير، ومن هنالك يكون الالتفات إلى الكون محظورا، وعندئذ يقوم بعرفات المعرفة، ويقصد من هناك إلى مزدلفة الألفة، ويبعث سره من هناك لطواف حرم تنزيه الحق، ويرمي جمرات الهوى والخواطر الفاسدة بمني الأمان، ويقدم النفس قربانا في مذبح المجاهدة حتى يصل إلى مقام الخلة، فيكون دخول ذلك المقام أمانا من الأعداء وسيوفهم، ودخول هذا المقام أمانا من القطيعة وأشباهها([92]) !

ويقول محمد بن فضل (ت 319 هـ): إني لأعجب مـن يطلـب بيتـه (بيت الله) في الدنيا، لم لا يطلب مشاهدته في قلبه، لأنه قد يجده في الكعبة، وقد لا يجده، ولكنه يجده في قلبه لا محالة في المشاهدة. فإذا كانت زيارته لحج بيت ينظر إليه مرة في السنة فريضة، فإن القلب الذي ينظر إليه في اليوم ثلاثمائة وستين مرة أولى بزيارته. ولكن لأهل التحقيق في كل قدم من مكة علاقة، وعندما يصلون إلى الحرم، يجدون من كل واحدة خلعة ([93]) .

وفي حالة من حالات الوجد الصوفي، يقول أبو يزيد البسطامي       (ت 261 هـ): "أول حج لي لم أر غير البيت، وفي المرة الثانية، رأيت البيت ورب البيت، وفي المرة الثالثة، رأيت الكل رب البيت، ولم أر أي بيت"([94]) !!

وهكذا تتخذ الشعائر الدينية لدى الصوفية مفهوما أكثر عمقا من الناحية الروحية، بحيث تتجاوز – قليلا أو كثيرا – مستوى التصور الفقهي العادي لها، وتتحول لديهم إلى وسائل تعينهم على مواصلة الطريق الطويل، والشاق الذي اختاروه بمحض إرادتهم ، ليحققوا عليه مغامرتهم الفريدة في سبيل التقرب من الحضرة الإلهية.

*    *



الحب الإلهي عند الصوفية


ذهب معظم الباحثين في التصوف الإسلامي إلى أن الحب الإلهي عبارة عن نظرية أو مذهب. وفي رأينا أنه ليس أكثر من اتجاه أو نزعة غلبت على بعض الصوفية فعبروا عن أحوالهم فيها ببعض المقطوعات النثرية أو الأبيات والقصائد الشعرية. والثابت تاريخيا حتى الآن أن رابعة العدوية (ت 185 هـ) كانت أول من استخدم كلمة الحب بمعناها الذي يسمو على كل من الحب الحّسى والحب العذري اللذين انتشر أولهما قبل ظهور الإسلام، ونما الثاني بعد ظهوره. وأبياتها الشهيرة تقول:

أحبك حبيْن : حب الهوى



وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى



فشغلي بذكرك عما سواكا

وأما الذي أنت أهل له



فكشفك لي الحجب حتى أراكا

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي



ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

وقد ترددت مع ذلك ، للتعبير عن تلك العاطفة الجياشة في قلوب الصوفية المسلمين نحو الله تعالى ، كلمات مثل الشوق (مالك بن دينار ت 131) والعشق (عبد الواحد بن زيد ت 177) لكن ما لبثت كلمة الحب ومشتقاتها، وما يتعلق بها من أحوال المحبين في اللغة العربية أن جرى استخدامها بكثرة عند (المحاسبي 243، وذى النون المصري 258، والحكيم الترمذى 258 ، والجنيد 297،) وأخيراً جاء الحلاج (ت 309) فشاع عنه هذا الاتجاه من خلال أحواله وأشعاره العديدة في الحب الإلهي. وقد استمرت تلك النزعة سارية في التصوف الإسلامي حتى ظهر فيما بين القرنين السابع والثامن الهجريين كل من ابن عربي (638) فأصدر ديوانا كاملاً في الحب الإلهي سماه (ترجمان الأشواق) وحين فهم خطأ اضطر لشرحه في كتاب (ذخائر الأعلاق).

ومن قصائده :

مرضى من مريضعة الأجفان



علّلاني بذكرها علّلاني

هفت الوُرق بالرياض وناحت



شجو هذا الحمام مما شجاني

بأبي طفلة لعوب تهادى



من بنات الخدور بين الغواني

طلعت في العيان شمسان فلما



أفلت أشرقت بأفق جناني

الهدى راتقي بغير سهام



الهوى قاتلي بغير سنان


أما ابن الفارض (632) فقد خصص أشعاره كلها للحب الإلهي وديوانه الكبير يحتوي على قصيدته الخمرية، التي يقول في مطلعها:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة



سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرْمُ

ويقول في ختامها:

على نفسه فلبيك من ضاع عمره



وليس له فيها نصيب ولاسهمُ

أما قصيدته التي عرفت بـ (التائية الكبري) وتسمى أيضا (نظم السلوك) فيقول مطلعها:

سقتني حميا الحب راحة مقلتي



وكأسي محيّا مَنْ عن الحسن جلّت

فأوهمت صحبي أن شرب شرابهم



به سرسري في انتشائي بنظرة

وهي تبلغ 768 بيتا، ونالت شهرة محلية وعالمية، كما شرحها العديد من الصوفية، وتغنوا بها في مجالسهم.

ولا شك أن الصوفية المسلمين، المتحدثين باللغة العربية، حين حاولوا التعبير عن أشواقهم، وما يعانيه المحب لله تعالى من وجد ولهفة، وما يمر به من تقلبات بين اليأس والرجاء، والقبض والبسط .. لم يجدوا أمامهم سوى تلك اللغة البشرية التي استخدمها الشعراء والأدباء من قبلهم في التعبير عن الحب الحسي أو العذري، ولذلك انتقلت تلك اللغة بألفاظها، ومعانيها إلى التصوف، لكنها كانت لدى الصوفية ذات دلالة خاصة، يفهمونها جيدا، ويتغنون بها لاستدعاء أحوالهم ومواجيدهم.

وقد أحدث ذلك ارتباكا لدي دارسي الأدب الصوفي. فعندما يخاطب الشاعر الصوفي محبوبه الأعلى نجده يستخدم نفس الخطاب الذي يمكن أن يخاطب به محبوبته الأرضية، متحدثا عن جمالها، وواصفا بالضرورة محاسنها. وهنا لا بد أن نميز جيداً بين أشعار هذا الصوفي التي قالها في حب الله تعالى، وبين ما يمكن أن يكون قد قاله – ربما قبل تصوفه – في حب محبوبة أرضية. وهذا ما يمكن أن نجده بسهولة في ديوان ابن الفارض، وكذلك ما فهم من ديوان ابن عربي.

لكن عشاق الصوفية يؤكدون أنهم إنما استخدموا تلك الألفاظ الحسية، سواء كانت وصفا لجمال المحبوب، أو لما تحدثه الخمر من حالة سكر   لشاربها – على أنها مجرد تعبير رمزي عن الجمال الإلهي الذي يشاهدون تجلياته في قلوبهم، وكذلك عن حالة الغيبة عن الذات والفناء فيمن يحبون التي تعتبر هي المرحلة النهائية من هذا الحب الكبير، الذي لا يمكن وصفه ولا استيعابه بتلك اللغة البشرية القاصرة !

يقول ابن عربي:

ما لمجنون عامر من هواه


غير شكوى البعاد والاغتراب

وأنا ضده فإن حبيبي


في خيالي، فلم أزل في اقتراب

فحبيبي مني وفيّ وعندي


فلماذا أقول مابي ومابى !

قال سحنون المحب: لا يعبر عن شيء إلا بما هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة، فبم يعبر عنها ؟!

أما مستند الصوفية في الانطلاق بحرية في مجالات الحب الإلهي فكان هو القرآن الكريم، الذي ورد فيه الكثير من الآيات التي تثبت حب الله تعالى لبعض عباده، وحبه بعض عباده له تعالى. ومن ذلك ورد أن الله تعالى (يحب) المحسنين والتوابين والمتطهرين، والمتقين، والصابرين، والمتوكلين، والمقسطين، والمطهرين، والذين يجاهدون في سبيله متحدين ... وفي المقابل فإنه تعالى (لا يحب) المعتدين، والكافرين، والظالمين، والمفسدين، والمسرفين، والخائنين، والمستكبرين، والفرحين، والمختالين ...

ويدل على أن السبيل إلى حب الله تعالى هو اتباع رسوله، e، )قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ( [آل عمران: الآية31]. ويعد المؤمنين الصادقين بحبه )فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ( [المائدة: الآية54].

وجاء في الحديث القدسي: "ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها".

وهكذا وجد الصوفية في القرآن الكريم، والحديث القدسي ما يدعمون به نزعتهم الجارفة في حبهم لله تعالى، ويؤكدون في نفس الوقت مشروعيته، وعدم خروجه عن إطار الدين. لكن إذا كان الفقهاء قد وقفوا في فهم هذا النوع من الحب المتبادل بين الله تعالى والإنسان عند التزام العبد بطاعة مولاه، ورضا المولى عز وجل عن عبده، فإن الصوفية قد تجاوزوا هذا المعنى إلى جعل الحب من جانب العبد عاطفة جياشة قد تستغرق حياة الصوفي بكاملها، ومن جانب الحق سبحانه وتعالى فيضاً عليه بالتجليات التي لا يمكن وصفها، ولا إحاطة اللغة البشرية بها ..

يقول الحلاج معبراً عن حالة من الحب التي يتحد فيها المحب بالمحبوب:

أنا مَنْ أهوى ، ومن أهوى أنا



نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته



وإذا أبصرته أبصرتنا

وبالطبع لم يوافق على ذلك فقهاء عصره، وكان ذلك أحد أسباب   إدانته.

ويحدثنا الحكيم الترمذي أن حاكم الإقليم حين بلغه من خلال فقهاء عصره أنه يتحدث في الحب الإلهي ألزمه بالإقامة الجبرية في بيته، وعدم الحديث للناس، حتى تبينت القضية، وتمت تبرئته فعاد يحدث الناس الذين كان عددهم يبلغ المئات عن الحب الإلهي !

والواقع أننا لا نلوم الفقهاء في أخذهم على الصوفية التصريح للعامة بهذه الأقوال في الحب، والتي تتطرق أحيانا إلى نوع من (الفناء في المحبوب) أو (حلول المحبوب في المحب) أو (الاتحاد به) .. فهي كلها قضايا مربكة لعقيدة المسلمين، وكان الأجدر بهؤلاء الصوفية أن يكتموا عواطفهم، ولا يعلنوها صراحة على الناس !

قيل للشبلي: ما لنا نجد صاحبك الحلاج يعلن حبه، ووجده، ويخرج أحيانا عن حدود المعقول، وأنت لا تفعل شيئا من ذلك ؟! فكان جوابه أن استشهد بقوله تعالى :)وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ( [النمل: الآية88] – ولم يزد عن الآية شيئا. فكأنما أراد أن يقول للسائل: بل إنني أشعر في أعماقي بمثل ما يشعر به الحلاج، وربما أكثر منه، ولكنني أتماسك أمام الناس، كما تبدو الجبال يوم القيامة ضخمة ومتماسكة بينما هي من الداخل كالعهن المنفوش، أي كالقطن المندوف !





النظريات والمذاهب الصوفية


كما ظهر في الصوفية أدباء وشعراء، فقد برز فيهم أيضا مفكرون وفلاسفة. ومن خصائص الفيلسوف أن يهتم بالأفكار، وأن يقف طويلاً أمامها: متأملا وناقدا، ثم مضيفا ومبتكرا. ومن الممكن أن يتمثل ابتكاره في فكرة أو نظرية، أو حتى مذهب متكامل. وكل ذلك نجده لدى فلاسفة الصوفية المسلمين، فهناك مَنْ أدخل على التصوف فكرة المعرفة، ومنْ أضاف إليه نظرية الولاية، أو نظرية الإنسان الكامل، ثم هناك أيضا من استطاع أن يصوغ مذهبا متكاملاً حول الإشراق أو وحدة الوجود.

والسؤال الآن: هل ممارسة التصوف التي تؤدي بالصوفي إلى الفكر الفلسفي، أم أن الصوفي يكون في الأصل فيلسوفا، ثم ينخرط في التصوف وتتحرك أفكاره في مجالاته ؟

والواقع أن التصوف نفسه يتضمن المنهج الفلسفي الذي اصطلح الفلاسفة عليه في كل العصور، وهو ما يعرف بـ الديالكتيك الصاعد والهابط. ومعناه أن الصوفي يبدأ طريقه بالعزلة عن الناس، ويكثر من التأمل في الملكوت الأعلى، محاولاً تصفية نفسه من تعلقها بالدنيا، وترويضها على تذوق المعاني المجردة، وتهيئتها لاستقبال النور الإلهي الذي قد يغمره في أي    لحظة .. ثم إنه بعد أن يتلقى بعض الضوضات الروحانية يجد نفسه مضطراُ للعودة إلى الناس مشتاقا في نفس الوقت لكي يحدثهم عما شاهد وحده من رؤى، أو عايش من مواجيد. وهنا يلجأ الصوفي إلى اللغة المتعارف عليها فيحاول تطويعها لأفكاره، مجاهدا قدر استطاعته أن يجعلها قريبة من أفهام الناس، وغير مستغربة على أذهانهم. وهذا هو نفس المنهج الذي اتبعه كل الفلاسفة في العالم: ديالكتيك صاعد ثم ديالكتيك هابط. والفارق الوحيد هنا أن الفيلسوف يبدأ من مسلمات العقل والمنطق، ولا يرجع غالباً إلا بهما .. أما الصوفي الفيلسوف، أو الفيلسوف الصوفي فإنه يبدأ من ذوقه الخاص، دون أن يلقى كبير اهتمام للعقل وقوانينه، ولا للمنطق ومقولاته، بل إن معظم فلاسفة الصوفية قد صرحوا بأنهم إنما يستمدون أفكارهم من (أفق فوق طور العقل)([95]).

بعد هذا التمهيد، سوف نعرض لبعض أهم الأفكار والنظريات والمذاهب التي ابتكرها وصاغها فلاسفة الصوفية المسلمين، ومن أبرزها:

-       فكرة المعرفة عند ذى النون المصرى.

-       نظرية الولاية عند الحكيم الترمذي.

-       مذهب الإشراق عند السهروردي.

-       مذهب وحدة الوجود عند ابن عربي.

-       نظرية الإنسان الكامل عند عبد الكريم الجيلي.

فكرة المعرفة:

عندما بدأ التصوف الإسلامي ينضج في القرن الثالث الهجري من حيث موضوعاته وتوجهاته التي دارت معظمها حول أعمال القلوب في مقابلة أفعال الجوارح التي اهتم بها الفقهاء – راح كل واحد من أعلام التصوف يتميز عن نظرائه باتجاه خاص به، ومنهج يؤدي إليه. وإذا كان قد غلب على الحارث المحاسبي التحليل النفسي، وعلى الجنيد التوازن بين الحقيقة والشريعة، وعلى الخراز الصدق في المعتقد والعمل – فقد غلب على ذي النون المصري الاتجاه إلى جعل المعرفة أحد المحاور الرئيسية التي يدور حولها تصوفه.

فعندما سئل: من هو الصوفي ؟ أجاب بأنه مَنْ إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق. ومعنى ذلك أنه الذي يجمع بين صدق الحكمة، وصدق السلوك.

وهو الذي يقول: إذا صح اليقين في القلب صح الخوف منه ، فجعل عمل القلب تابعاً لليقين، الذي هو نتيجة للمعرفة.

وهو يصرح عن اتجاهه قائلا: مفتاح العبادة الفكرة .. ويؤكد أن العارف كل يوم أخشع، لأنه كل ساعة أقرب .. ويطلق على الصوفي المتمكن لقب العارف: إن العارف لا يلزمه حال واحدة، إنما يلزم ربه في الحالات كلها.

ويوصي المريدين الجدد قائلا: يا معشر المريدين، من أراد منكم الطريق فليلق العلماء بالجهل، والزهاد بالرغبة، وأهل المعرفة بالصمت. وهو يؤكد لهم قرب التوصل إلى النتيجة بقوله: بأول قدم تطلبه تدركه وتجده !

من هنا استحق ذو النون المصري، القادم على بغداد من صعيد مصر، أن يكون صاحب اتجاه المعرفة في التصوف الإسلامي. صحيح أن هناك من سبقه ببعض العبارات المتفرقة، ولكنه كان أول من ظهر لديه هذا الاتجاه الواضح في جعل المعرفة جزءاً لا يتجزأ من حقيقة التصوف الإسلامي.

وسوف تكتمَل فيما بعد فكرة المعرفة الصوفية من خلال بحث الصوفية في وسيلتها: هل هو العقل أم القلب ؟ وكانت إجابتهم أن المعرفة مختصة بالقلب، الذي يحتوي على السر، وهو موضع التجلي الإلهي. ولذلك فرقوا بين العلم الناتج عن العقل، والمعرفة الناتجة من القلب. الأول يكتسبه الإنسان بالتعلم وكثرة التجارب، أما الثاني فيرد على القلب من الملكوت الأعلى، فيتحد بكل جوارح الإنسان. المعرفة إذن كلية، أما العلم فهو جزئي. المعرفة مستمرة ، أما العلم فهو متقطع.

نظرية الولاية :

تدور المعاني اللغوية للولاية حول معنى القرب. لكنها عندما تنسب إلى الله تعالى فإنها تعني العناية والوكالة والنصرة . ورد في القرآن الكريم أن الله )وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا( [البقرة257] ، )وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ( [آل عمران69] ،)وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ( [آل عمران 68] ، كما وردت كلمة(أولياء) بالجمع للدلالة على عباد الله المقربين إليه، والذين لا يخشى عليهم، ولا يشعرون بالحزن )أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون( [يونس:62].

وقد استعار الصوفية المسلمون معنى القرب من الله ليطلقوه على الصوفي الذي بلغ مرتبة عليا في مجال التدرج الروحي، مع حرصهم دائماً على أن يجعلوا مقام الولاية يأتي في مرتبة أدنى مباشرة من مقام النبوة والرسالة ..

ويفرق الحكيم الترمذي، وهو أكبر من تحدث عن نظرية الولاية، بين نوعين من الولاية، أحدهما يبلغه الصوفي نتيجه جهده وكسبه والآخر موهوب يأتي إليه من طريق المنة، أي اصطفاء من الله تعالى. وبالطبع يعتبر النوع الثاني أعلى مقاماً من الأول، لأنه يشبه مرتبة النبوة والرسالة التي لا تأتي بجهد من البشر، وإنما باصطفاء واختيار إلهي خالص.

ومن صفات الولي أن الله تعالى ينصره دائما ويؤيده، كما أنه يحفظه من الوقوع في المعاصى ، وقد يجري على يديه بعض الكرامات ، وإن كان كبار الصوفية المسلمين لا يعتدون بها أو لا يفتخرون بإجرائها على أيديهم. كذلك من صفات الولي استجابة دعوته عندما يلجأ إليه من المسلمين مَنْ يحتاج المساعدة.

وقد ذهب الحكيم الترمذي إلى القول بوجود خاتم الأولياء كما وجد في مقام الرسالة: خاتم الرسل. وقد جرّ عليه هذا القول الكثير من الهجوم. ومع ذلك فقد حاول الصوفية بعد ذلك شرح قوله أو بالأحرى نظريته في خاتم الأولياء على أساس أنه القطب الذي تتجلى فيها الحقيقة المحمدية التي تسري في بعض عباد الله المقربين منذ خلق البشر حتى قيام الساعة. ويؤكد ابن عربي أن خاتم الأولياء إنما يستمد معارفه من مشكاة محمد r وهذا يقطع بعدم علو مكانة الأولياء، بما فيهم الخاتم، عن مقام النبوة.

مذهب الإشراق:

يعتبر السهروردي (المقتول سنة 587 بأمر صلاح الدين الأيوبي) من أهم فلاسفة الصوفية الذين قالوا بهذا المذهب، ودعوا إليه. والواقع أننا هنا إزاء مذهب صوفي – فلسفي، متأثر تأثراً مباشراً بخليط من الفلسفة الإغريقية، والأفلاطونية المحدثة، وبمذاهب الصابئة، وبالحكمة الفارسية، والأفكار الهرمسية . وكلمة الإشراق تعنى الكشف الناتج عن فيض الأنوار، من النور الأقدس، والذي يظل يتنزل على قلوب عباده المتجردين فينطبع فيها حسب درجة صفائها([96]).لكن بلوغ هذا النور المشرق لا يصل إليه الصوفي إلا بالتخلص من كل علائق الجسد، والحياة المادية والتجرد الكامل للحياة الروحية الخالصة. وهنا يتميز السهروردي عن باقي صوفية المسلمين باشتراط معرفة الصوفي بالفلسفة العقلية، وهو يقسم الفلاسفة الصوفيين أو الحكماء إلى ثلاث أنواع:

حكيم إلهي متوغل في التأله عديم البحث.

حكيم بحاث عديم التأله.

حكيم إلهي متوغل في التأله والبحث.

وبالطبع يضع نفسه في هذا النوع الأخير، الذي يجمع بين التصوف والفلسفة.

مذهب وحدة الوجود:

عندما يذكر هذا المذهب، فإن الأنظار تتجه كلها إلى ابن عربى ، أكبر وأشهر فيلسوف صوفي عرضه شعراً ونثراً في العديد من مؤلفاته التي يبلغ واحد منها فقط أكثر من ستة ألاف صفحة، وهو كتاب (الفتوحات المكية).

ويقوم هذا المذهب على أن الوجود بأسره عبارة عن حقيقة واحدة، ليس فيها ثنائية ولا تعدد، على الرغم مما قد يبدو لحواسنا من كثرة الموجودات في العالم الخارجي، وما تقرره عقولنا من ثنائية الله والعالم، أو الحق والخلق، اللذين هما اسمان أو وجهان لحقيقة واحدة، إذا نظرت إليها من ناحية وحدتها سميتها: حقا، وإن نظرت إليها من ناحية تعددها سميتها خلقا([97]).

ومع ذلك، وعلى الرغم مما يبدو من ظاهر هذا المذهب، فإن ابن عربي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الله منزه في تعاليه عن الحوادث، وأنه الخالق للأكوان، وأنه وحده الذي يستحق العبادة ، بينما العبد يظل مفتقراً إليه، محاولاً التقرب منه حتى يرضى عنه، ويمنحه بعض التجليات التي تنقله من هذا العالم الحسي لكي يشاهد بعض مجالات الملكوت الروحي.

وقد جرّ القول بهذا المذهب الجريء على ابن عربي الكثير من الانتقادات، وأصبح معرضاً لهجوم الكثير من علماء الإسلام، بينما دافع عنه عدد آخر ليسوا بالقليل.

نظرية الإنسان الكامل:

اشتهر عبد الكريم الجيلى ، هذا الصوفي الكبيرـ وهو من أكبر أنصار ابن عربي - بهذه النظرية التي أودعها كتابه الذي يحمل عنوان (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل). ويتابع الجيلى أستاذه ابن عربي في القول أيضا بوحدة الوجود، لكنه يركز على صفات الإنسان الذي يجرد نفسه لكي يحظى بأعلى قدر من الفيوضات الإلهية، والذي تتجلى فيه الصفات الإلهية على قدر الطاقة البشرية التي تتحملها.

يقول الجيلي: إن أفراد هذا النوع الإنساني كل واحد منهم نسخة للآخر بكماله، لا يفقد في أحد منهم مما في الآخر إلا بحسب العارض .. فهما كمرآتيْن متقابلتين يوجد في كل واحد منهما ما يوجد في الأخرى. ولكن منهم من تكون الأشياء فيه بالقوة، ومنهم من تكون بالفعل، وهؤلاء هم الكاملون من الأنبياء والأولياء. ثم إنهم متفاوتون في الكمال، فمنهم الكامل ومنهم الأكمل، ولكن مطلق لفظ الإنسان الكامل حيث وقع في قولنا ، إنما أريد به محمد r تأدبا بمقامه الأعلى، ومحله الأكمل الأسنى .. إذا هو الإنسان الكامل بالاتفاق، وليس لأحد من الكمّل ما له من الخلق والأخلاق([98]).

والملاحظة الأساسية التي نخرج بها من هذه الاستعراض السريع للأفكار والنظريات والمذاهب، التي ظهرت في التصوف الإسلامي، هي أنها قد ابتعدت كثيراً عن التصوف السنّي الذي تميز بالطابع العملي والأخلاقي وخاصة خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين. وأن هذه الأفكار والمذاهب قد تأثرت إلى حد كبير بأفكار أجنبية سواء كانت إغريقية أو فارسية أو هندية أو مسيحية. وهنا بالطبع يمكن إجراء الدراسات والبحوث المقارنة لمعرفة تلك العناصر التي تسربت للتصوف الإسلامي، بل للثقافة الإسلامية كلها ، والتي استعان بها فلاسفة الصوفية لصياغة نظرياتهم ومذاهبهم، لكن لا ينبغي أن نغفل عن أن هذه النظريات قد ارتبطت ارتباطا مباشراً بفكر مؤسسيها على الرغم مما استعانوا به من مؤثرات أجنبية.

أما الملاحظة الحالية فهو أن هذا النوع من التصوف، أقصد الفلسفي، هو الذي تجري دراسته الآن في الغرب ويتخصص فيه العديد من الباحثين والمستشرقين، ومن خلاله يمكن للباحثين العرب أن يعقدوا معهم الندوات والمؤتمرات لمزيد من تقريب وجهات النظر ، وتصحيح المقولات الخاطئة التى تتردد غالبًا فى الغرب عن الإسلام وحضارته .


*    *











الطرق الصوفية


الطرق الصوفية جمع (طريقة). والطريقة عبارة عن منهج صوفي يختص بأحد كبار مشايخ الصوفية، ثم يلتف حوله عدد من الأتباع، وقد يتكاثرون بعد وفاة مؤسس الطريقة, ويستمرون في إحياء ذكرى مولده، بالتجمع حول مدفنه، وتذكير الأتباع بمناقبه، مع الإشارة أحيانا إلى بعض كراماته.

وقد ذكر الهجويري (ت 456) أسماء الطرق – أو كما سماها الفرق الصوفية – التي كانت موجودة حتى عصره وحصرها في اثنتي عشرة فرقة، رفض منها اثنتين تحت اسم (الحلولية)، وتحدث عن عشر فرق، اعتبرها  مقبولة ، وهي:

1- المحاسبية نسبة إلى الحارث المحاسبي.

2- القصارية نسبة إلى حمدون القصّار.

3- الطيفورية نسبة إلى أبي يزيد طيفور البسطامي.

4- الجنيدية نسبة إلى الجنيد.

5- النورية نسبة إلى أبو الحسين النوري.

6- السهلية نسبة إلى سهل التستري.

7- الحكيمية نسبة إلى الحكيم الترمذي.

8- الخرازية نسبة إلى أبي سعيد الخراز.

9- الخفيفة نسبة إلى محمد بن خفيف.

10- السيارية نسبة إلى أبي العباس السياري.

ومن المقرر تاريخيا أن هذه الفرق كلها قد غابت بغياب مؤسسيها، ولم يكتب لها الاستمرار بعد وفاتهم بوقت طويل.

أما الطرق الصوفية التي نشأت، وتأكدت بكثرة أتباعها ، واستمرار تقاليدها، فمن أهمها (في مصر) حتى الآن:

-  الطريقة القادرية، التي أسسها عبد القادر الجيلاني (ت 561) .

-  الطريقة الرفاعية، التي أسسها أحمد الرفاعي (578).

-  الطريقة الشاذلية، التي أسسها أبو الحسن الشاذلي (656).

-  الطريقة الأحمدية، التي أسسها أحمد البدوي (675).

-  الطريقة البرهامية، التي أسسها ابراهيم الدسوقي (676).

-  الطريقة الخلوتية، التي أسسها محمد الخلوتي.

وهناك طرق أخرى مثل :

النقشبندية، والسعدية، والعنانية، والشيباتية التغلبية، والميرغينية، والخضيرية، والصاوية، والعزازية، والرحيمية القنائية، والخليلية، والكتانية..

وقد ازدهرت الطرق الصوفية ابتداء من القرن السادس الهجري، حين اعترف صلاح الدين الأيوبي بالصوفية وبني لهم وزيره سعيد السعداء أول خانقاه (مكان للسكنى والمعيشة) لهم في مصر، وصارت تجري عليهم رواتب حسب أعداد الأتباع. أما القرن السابع فكان أكثر ملاءمة لظهور الطرق الكبرى الأساسية، والتي مازالت حتى اليوم، وهي الأحمدية البدوية، والشاذلية، والدسوقية البرهامية.

ويقال حاليا إن عدد المتصوفة في مصر وحدها يتجاوز الستة ملايين نسمة، غالبتهم في الريف، ولكل طريقة (شيخ) أو (خليفة) يأخذ العهد على المريد أو الدرويش الذي يلتحق بالطريقة، ويلتزم بأداء الذكر، والأحزاب والأوراد([99])، كما يحضر الموالد، ويشارك في الاحتفالات الدينية.

لقد تعرضت الطرق الصوفية لكثير من النقد الذي وجّه إليها سواء من المستشرقين، أو المسلمين. أما المستشرقون فربطوا بين فترات ازدهار الطرق الصوفية وفترات التخلف التي حدثت للمسلمين. ويرجع السبب في ذلك إلى أن هذه الطرق قد جذبت العديد من الأميين، والمتواكلين، والكسالى، وشجعتهم على ترك العمل، وعدم بذل الجهد من أجل تحسين مستوى معيشتهم، والارتقاء بمهاراتهم في العمل والإنتاج([100]).

وأما المسلمون، فقد وجدوا في الطرق الصوفية الكثير من مظاهر الخروج عن تعاليم الإسلام، وارتكاب العديد من البدع، والركون إلى الخرافات والشعوذة، وقد تمثل ذلك في خضوع المريدين المطلق لأوامر الشيخ، وتحويل قبور المشايخ إلى أضرحة، يجرى زيارتها والتبرك بها، وإقامة الموالد في الذكرى السنوية لوفاة مشايخ الطريقة. ومن الملاحظ أن هذه الموالد التي تقام حتى اليوم تشتمل على العديد من الأفعال والسلوكيات التي لا تتصل من قريب أو بعيد بالتصوف، فضلا عن الإسلام([101]). وقد أدت هذه الأفعال إلى أن يأخذ المجتمع فكرة سيئة عن التصوف، والكثير من الناس، بما فيهم المثقفون، يحسبون أن هذا هو التصوف، فى حين أن ما يحدث لا يقره الصوفية أنفسهم، بما في ذلك الشيوخ الكبار أنفسهم الذي أنشأوا تلك الطرق !


















الملامتية وأهل الفتوة


الملامتية طائفة من الصوفية، نشأت في خراسان، ثم انتشرت في معظم البلاد الإسلامية، وكان لها شيوخ كبار من أمثال حمدون القصار (ت 270هـ) وأبي حفص النيسابوري (ت 267هـ) ، وقد تميزت بأسلوب خاص في السلوك، والتمسك بمجموعة من المبادئ والتعاليم الصوفية التي طبقتها على نحو صارم في حياة أتباعها. وقد انقسمت آراء كبار الصوفية نحوها بين معجب ومعارض، وأحيانا منتقد، ومع ذلك فقد ظلت الملامتية أو كما أطلق على أتباعها أحيانا "أهل الفتوة" فرقة من الفرق الصوفية، التي تذكر أحوالها، وأقوال شيوخها في أدبيات التصوف الإسلامي.

ويرجع إطلاق اسم الملامتية على تلك الطائفة، وهو مستمد من كلمة الملام أو الملامة أو اللوم، إلى أمرين:

الأول : لوم النفس على كل ما يعتمل فيها من رغبات ونزعات وإعجاب بالذات نتيجة القيام بحق العبادة، وحسن معاملة الخلق.

الثاني : استحقاق لوم الناس على سلوك أتباعها، الذي كان يخرج أحيانا عن العرف، أو لا يلتزم بالمظاهر الدينية.

والواقع أن الهدف البعيد من وراء نشأة واستمرار الملامتية هو مجاهدة النفس وكسر إرادتها والقضاء على نوازعها، ومن أهمها الرياء .. والرياء كما نعلم هو محاولة الظهور أمام الناس بمظهر حسن لاستجلاب استحسانهم وإعجابهم، ومن ثم الشعور بالرضا والارتياح، وأحيانا بالسعادة بذلك !

سئل حمدون القصار عن طريق الملامة فقال: ترك التزين للخلق بكل حال، وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأفعال، وألا يأخذك فيما عليـك لله لومة لائم.

لقد أراد الملامتية أن تكون عبادتهم، وكل أفعالهم الخيرة متجهة فقط لله تعالى، ولم يهمهم على الإطلاق أن يطلع المجتمع عليها، بل إنهم كانوا يعملون بكل جهد لإخفائها عن الناس، وقد تطلب منهم ذلك أحيانا أن يقوموا ببعض الأفعال الشائنة لكي يجلبوا على أنفسهم سخط الناس، وهم في أعماقهم ملتزمون غاية الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه ..

لذلك كانت محاولة إخفاء جانبهم الحسن، والمبالغة فيه موضع انتقاد من بعض كبار الصوفية المسلمين، الذي كانوا يرون أن الصوفي الحقيقي لا ينبغى أن يخرج عن أدق تعاليم الدين، بل إن هذا الحرص الشديد عن عدم اعتبار رأي المجتمع فيهم لم يخل من هذا الاعتبار نفسه !

ومع ذلك، فإن طائفة الملامتية ظلت مستمرة في الأوساط الصوفية، وبرز فيها الأعلام الذين اتبعهم الكثير من المريدين، وتمشياً مع اتجاههم في إخفاء أحوالهم فقد أحجموا عن وضع المؤلفات التي تبين مذهبهم، وكل ما ورد إلينا إنما جاء من بعض مؤرخي التصوف الذين تتبعوا أقوال شيوخهم التي كانت تنتشر بين الأتباع، كما سجلوا لنا بعض أحوالهم التي رصدوها من خلال معاملاتهم مع الناس في المجتمع، وكان من أشهر هؤلاء: السلمي (ت 412) صاحب كتاب طبقات الصوفية، الذي خصص لهم رسالة جعل عنوانها (أصول الصوفية) جمع فيها أربعين أصلاً من أصول الملامتية، وفيما يلي بعض هذه الأصول:

أولا : أن الأذكار عندهم أربعة أنواع: ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وذكر بالسر، وذكر بالروح .. ولكل واحد منها آفة. فما ظهر من أحوال الروح للسر صار رياء في السر، وما ظهر من أحوال السر إلى القلب صار شركا في السر، وما ظهر من القلب للنفس صار هباء، وما أظهره الإنسان من أحواله وأفعاله فهو رعونة الطبع، ولعب الشيطان به.

ثانيا : أنهم يعملون على مخالفة النفس في كل حال .. حتى أن أحدهم ليسلم علـى من يرد عليه بالكراهية، ويترك السلام على من يرد عليه طوعا، ويترك مجالسة مَنْ يبره، ويقبل على مجالسة من يهينه .. ويأكل ما يعافه ويدع ما يشتهيـه، ويسافر إذا أراد المقام، ويقيم إذا أراد السفر .. وهكذا في جميع الأحوال من أجـل مخالفة النفس !

ثالثا : أنهم يرون التزين بشيء من العبادات في الظاهر شركا، والتزين بشيء من الأحوال في الباطن ارتدادا !

رابعا : إنهم يحبون أن يؤخذ الشيء منهم بالجهد، وإن كانوا يحبون إخراجه بكل سماحة. وقد بلغنى عن بعض مشايخهم أنه كان يؤخذ ماله منه فيقول لهم: هذا حرام لا يحل لكم، والقوم يأخذونه. ثم قال: إنما يأخذون مالهم، ليس لي فيه شيء، ولكن هكذا يستخرج المال من البخيل !

خامساً : أنهم يقابلون من يحقرهم بالاحتمال والحلم والخضوع والاعتذار والإحسان دون مقابلتهم بالمثل أو قريب منها.

سادساً : أنهم يتهمون النفس في جميع الأصول: أقبلت أم أدبرت، أطاعت أم عصيت، وترك مدحها، والميل إليها بأي حال !

سئل عمرو بن نجيد: هل للملامتي صفة ؟ فقال: نعم. ألا يكون له في الظاهر رياء، ولا في الباطن دعوى، ولا يسكن إلى شيء، ولا يسكن إليه شيء.

وفضّل أحد مشايخهم أن يتزيي الملامتي بزي الشطّار(اللصوص !) ، واستعمال عمل الأبرار. وأحبوا لأصحابهم ملازمة الأسواق بالأبدان، والفرار منها بالقلوب والأسرار..

وقال أبو محمد الجويني: الزم السوق والكسب، وإياك أن تأكل من كسبك، وأنفقه على الفقراء، واسأل الناس ما تأكله أنت !

أما أبو حفص فكان يقول لتلاميذه: اتركوا الكسب والسؤال جميعا !!

وسئل بعض شيوخهم: مَنْ يستحق اسم الفتوة (أو الملامة) فقال: من كان فيه اعتذار آدم، وصلاح نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق إسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود، وسخاء محمد،e وعليهم أجمعين، ورأفة أبي بكر، وحمية عمر، وحياء عثمان، وعلم علي،t وعنهم أجمعين.

وسأل عبد الله الحجام حمدون القصار: هل أترك الكسب؟ فقال له: الزم الكسب، فلأن تدعي عبد الله الحجام أحب إلي من أن تدعي عبد الله الزاهد، أو عبد الله العارف!

وكانوا يرون أن الخشوع مكانه القلب، وأن ظهوره على الجوارح إنما هو تبع لخشوع القلب !

سابعاً : ومن أصول الملامتية أنهم يعتبرون حسن الظن بالله غاية المعرفة، وسوء الظن بالنفس أصل المعرفة بها. قال رجل لأبي حفص: أوصني. قال: لا تكن عبادتك لربك سبيلا لأن تكون معبودا، واجعل عبادتك له إظهار رسم العبودية والخدمة عليك، فإن مَنْ نظر إلى عبادته فإنما يعبد نفسه !

ثامناً : ومن أصولهم كراهية القعود للناس على وجه التذكير والموعظة .     وقد قالوا في ذلك: إخراج أحسن ما عندك إلى الخلق، فماذا يتبقى لك مع الحق ؟! إن كلمتهم بأحوالك أفسدتها، وإن كلمتهم بأحوالهم فعلمك بأحوالهم جهل، وإن كلمتهم بأحوال السلف ظلمتهم حيث طرقت لهم السبيل إلى الدعاوى !

تاسعاً : ومن أصولهم كتمان الكرامات، والنظر إليها بعين الاستدراج، والبعد عن سبيل الحق. قال أبو عمرو الدمشقي: كما فرض الله تعالى على الأنبياء إظهار الكرامات والمعجزات فقد فرض على الأولياء كتمان كراماتهم لئلا يغتر بها الناس !

عاشراً : ومن أصولهم: ترك البكاء عند السماع عند الاجتماع في حلقات الذكر وغيره، وملازمة الكمد فإنه أحمد للبدن. قال أبو بكر المكي لرجل كان كثير البكاء في مجلسه: يا أخي، تلذذك بالبكاء ثمن البكاء! وقال أبو عثمان الحيري: بكاء الأسف يذهب بالأسف. ومداومة الأسف أحمد عاقبة من التسلي عنه بالبكاء، إلا أن يكون البكاء بكاء ذوبان الروح، فتكون الدمعة من ذلك البكاء تهدّ البدن وتفنيه، وقيل في ذلك:

وليس الذي يجري من العين ماؤها



ولكنها روحي تذوب، فتقطر !

تلك عشرة أصول فقط مما ذكره السلمي في رسالته عن الملامتية([102])، ومنها يمكن تكوين فكرة، ولو بسيطة، عن تلك الطائفة الخاصة من الصوفية المسلمين، والتي بالغت في تمسكها ببعض تعاليم الصوفية، وشددت على نفسها كثيرا، مع التضحية ببعض المظاهر الشكلية، بهدف بلوغ هدفها النهائي من الوصول إلى أعلى درجه ممكنة من الإخلاص في العبادة، والصدق الكامل في التوجه نحو الله تعالى.


*     *












السماع عند الصوفية


السماع أحد التقاليد ذات الطابع العملي في التصوف الإسلامي. ويعد لوناً من العبادة الجماعية، حيث يجتمع عدد من الصوفية في مكان خاص، ثم يبدأ قوّال([103])، ذو صوت حسن، منهم، أو من غيرهم، في إنشاد بعض الأشعار الصوفية، أو العذرية، بينما يستغرق الحاضرون في جمال اللحن، أو المعنى، وغالباً ما ينشأ عن هذا الاستغراق نوع من الجذب لدى أحدهم، فيفقد شعوره الطبيعي ويصيح ويضطرب، ثم يرتمي أخيراً على الأرض، وكأنما تلبسه روح غيبى ... عندئذ يتوقف كل شيء، ويسارع الجميع للتبرك به، وتهنئته بعدما  يفيق – كإنسان مسته، أو حلت به عناية الله ! ويسمى الصوفية الجذبة الحقيقية: وجدا، بينما يطلقون على المفتعلة: تواجداً .

تلك فكرة مختصرة عن السماع الصوفي، وهو كما يبدو لا يكاد يستند إلى أصل ثابت من القرآن، أو السنة، ولا إلى تعاليم الصدر الأول من المسلمين "بل لم يكن أحد، من أهل الدين، من الأعصار الثلاثة، لا بالحجاز، ولا بالشام، ولا باليمن، ولا بالعراق، ولا خراسان، ولا المغرب، ولا مصر، يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة الأولى، ويحدد ابن تيمية زمن هذا الابتداع بأواخر المائة الثانية.

لكننا لا نكاد نتبين مصدره الأصلي، لدى كتاب التصوف، الذين أفاض معظمهم في محاولة عقد صلته بالإسلام، وتفصيل القول في مباحه ومكروهه، ومواقف الصوفية من ... الخ([104]).

لقد حاول آسين بلاثيوس إرجاعه إلى المسيحية، معتمداً في ذلك على أن ذا النون المصري الجنسية، والمسيحي الثقافة، على حد تعبيره، من أوائل رواده([105])، لكن هذا ليس دقيقاً تماماً، إذ توجد له صور قبل ذى النون، ومن النصوص ما يثبت أن ذا النون نفسه وجده بالعراق حين قدم إليه([106]).

ويذكر أبو العباس المرسي أن السماع نزعة يهودية "لأن القوال يذكر العشق، وما هو بعاشق، والمحبة وما هو بمحب ، والوجد وما هو بمتواجد. فالقوال يذكر الكذب، والمستمع سماع له، ومن أكل من الفقراء طعام الظلمة، حين يدعي إلى السماع، فهو يصدق عليه آية )سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ(([107])، التي يرى أنها "أُنزلت في اليهود، ومن كان من فقراء هذا الزمان، مؤثراً للسماع بهواه([108]).

ومن ناحية ثالثة، يورد زروق رأياً لأبي إسحاق الشاطبى، خلاصته أن السماع "ليس من التصوف بالأصل، ولا بالعرض، وإنما هو من عمل الفلاسفة"([109]) ومن المهم أن نعثر لدى ابن سينا في تصوفه الفلسفي على محاولة لجعل السماع أحد البواعث الأساسية على الرياضة الروحية للمريد([110]).

وأخيراً .. يروى عن الإمام الشافعي (ت 204) أنه قال عن السماع: "خلفتُ ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة([111])"، ومن الواضح أن كلمة "الزنادقة" كانت تضم تلك الجماعات، غير العربية والمتظاهرة بالإسلام، والتي أصبح من المقرر أنها قامت بدور كبير في الكيد للعرب وتشويه جوهر الإسلام.

ومهما يكن من أمر مصدر السماع، وغربته عن الإسلام، فقد انحدر التطور التاريخي به، إلى حد صار معه مباءة ينهي عنها الشيوخ مريديهم. لقد ظهر ما يسمى "السماع بالشاهد" وفيه كان يستعان على استثارة وجد الصوفية، بحضور الغلمان المرد المزينين، حتى يحصل الصوفي على متعة السمع والبصر معاً، فإذا بلغت به النشوة مداها، لم يكن هناك مانع من تقبيل الغلام الجالس أمامه، وكأنه بذلك يرى فيه مجلي إلهياً منظوراً([112]) !

يذكر المرحوم الدكتور محمد مصطفى حلمي أنهْ "كان لابن الفارض (المعاصر لابن عربي، والمتوفي 632هـ) بمدينة البهنسا، بصعيد مصر، بيت يقيم فيه طائفة من الجواري المغنيات الضاربات على الدفوف والشبابات، وأن الشاعر كان يقصد إلى هذا البيت، حيث يلقي نفسه في غمرة من غمرات السمع، الذي ينشأ عنه الرقص بما يلازمه من حركة واضطراب، ويتولد منه الوجد ما يستتبعه من دهش وغيبة، وهنالك في هذا البيت، وبين هاتيك الجواري، كان يقضي صاحبنا لبانة نفسه من الوجد، ثم يعود إلى القاهرة !"([113]).

في مثل هذا الجو، شاهد ابن عربي سماع المشرقيين، فلم يرقه، وهذا يدلنا على أن هذا التقليد الذي أثاره في المشرق، لم يكن بوجد على هذه الصورة في الأندلس أو المغرب، يقول ابن عربي: "وأما أهل السماع والوجد، في هذه البلاد، فقد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً ... فلا أشبههم إلا براعي غنم، ينعق بغنمه، فتقبل وتدبر لنعيقه، ولا تدري في ماذا، ولا لماذا ؟"([114]).

لقد كان ابن عربي ينتظر من السماع أن يكون مجالاً تهبط على الصوفية فيه حقائق الإشراق الإلهي وأسراره، لكنه، بدلاً من ذلك، لم يجد لدى من يمارسونه سوى ضرب من السذاجة التي تدعي رؤية الله، ومكالمته، دون الحصول على عطاء فكري حقيقي، يقول: "فلا تسمع إلا من يقول لك: رأيت الحق، وقال لي، وفعل، وصنع، ثم تطالبه بحقيقة يمنحها، أو سر أفاده في شطحه، فلا تجد إلا لذة نفسانية، وشهوة شيطانية".

ويفرق ابن عربي بين نوعين من السماع. وتقوم تفرقته على أساس الباعث عليه، فهو إما أن يكون آية قرآنية، أو شعراً مصحوباً بالصفق والألحان. ففي الحالة الأولى، يرى أن السماع يعلو بصاحبه إلى أحد منازل العلم، أو الفراسة، أو الإلهام، ذلك لأنه انبنى على أصل صحيح، وهو القرآن، أما في الحالة الثانية، فإنه يهبط بالسامع إلى أحد منازل الجهل، أو الظن، أو الوسوسة، "وسر ذلك أن أصل انبعاث الشعر كلام المخلوق الناقص الدنس، الذي ما صح له كمال طهارته لامتزاجه، فالغاية في الشعر أن يكون ممتزجاً، لا تكمل طهارته أبداً، ومن ثم إلى أنزل في النقص والدنس، فمن المحال أن يعطي أبداً إلا حالاً ناقصاً"([115]).

وعلى كلتا الحالتين، يرى ابن عربي ألا يبيح الشيوخ السماع لمريديهم، على الإطلاق، "فواجب على كل محقق في هذا الزمان، ممن ينظر، ويقتدي به المريد الضعيف ألا يقول بالسماع أصلاً، ويقطعه قولاً، فصلاً"([116]) وهو يدعو الله تعالى، "ألا يجعلنا، وإياكم، ممن له إلى سماع الغناء أذن واعية، فيكون من أصحاب القلوب اللاهية"([117]).

أما سماع الشيوخ أنفسهم، فيرى ابن عربي أنه على أحد أمرين: إما أن يكون قبل أن تحصل للشيخ مرتبة التمكين "فالسماع عندنا عليه حرام في ذلك الوقت، أو سمع بعد التمكين – بشروطه المعروفة التي ذكرناها في غيـر الموضع([118]) – ويعلم، مع هذا، أنه قد نزل من المقام إلى ما هو أسفل منه وأدنى، لحظ نفسي، فإذا استمر الشيخ العارف طويلاً في السماع، فليعلم أنه مطرود، وليبحث على ما جنته نفسه، فلابد أن يجد ذنباً ضرورياً".

ويذكر ابن عربي، في روح القدس، أنه خاض كثيراً من المعارك الجدلية مع صوفية مصر، ومكة، بسبب رأيه هذا في السماع، فهو يقول: "وقد أوضحنا مقامه لأهل هذه البلاد، وما يتطرق إليه من الفساد، واحتجوا علينا بأحوال من سمع من الشيوخ في الرسالة (القشيرية)، وغيرها، فأوضحنا مبهمها، وأعربنا معجمها، فأقروا بنقصه في مراتب الوجود، فمنهم من عدل عنه، ومنهم من أقام فيه، على معرفته بنقصه"!

وأحياناً كان يغضب منه بعض رواد مجلسه، وينقطعون عنه بسبب رأيه في السماع، يقول: "ولقد بلغني من ثقة عن رجل من المتشيخين، لا من الشيوخ، كان يلازم مجلسنا، فسمعنا نتكلم في السماع ... فغضب وانقطع، فسألت عنه: ما شأنه ؟ فقيل: قد كان الشيوخ يسمعون مثل ابن الدقاق، وعبد الرازق، وغيره، فلم أدر بم أتعجب في جهله: من عدم تحصيله لما أوردناه، أو حكمه على الحق بالرجال" ([119])!

والذي يبدو أن ابن عربي شن هجومه على السماع في وسط صوفي متمسك بتقاليد السابقين، ولهذا نجده يلجأ – مضطراً – إلى الاستشهاد بالمأثور عن كبار الصوفية، المنكرين للسماع مثله، حتى يدحض حجة معاصريه بما يماثله، فهو يقول: "وإنما سقت كلام أبي يزيد، لما وصلني عن بعض الناس من المقلدين في هذه الطريقة أنه قال – لما سمع مني الإنكار في السماع، وقد أوضحت له حقيقته، حتى اعترف بها، فقال: تقليد بتقليد، فالأولى أن أقلد الشيوخ المتقدمين الذين قالوا بالسماع – فلهذا سقنا كلام أبي يزيد من المتقدمين، وأن كلامنا موافق له"([120]).

ثم يرسم ابن عربي صورة حية للسماع، ومما يضفي عليها مزيداً من الواقعية أنه يتحدث فيها عن نفسه (أو هكذا فعل، حتى يصل إلى هدفه، وهو التنفير الكامل من السماع)([121]): "يقول القوال زخرف القول، وغروره، فأهتز، وأقوم، وأقول "شاباش" هذا والله حسن! فأقسم بالله كاذباً، ولا يزال الملعون من شيطان يرقصني، ويزفن لي، كما يفعل صاحب القرد بقرده، فإذا أخذ حاجته مني، صفعني صفعة، فأضجعني فيقوم من قل فلاحه مثلي، فيغطيني برداء، حتى يخلي سبيلي، وأقوم، فأهنأ، وقد عزاني الملأ الأعلى في ديني، وفيما مضى من عقلي"([122]).

وهو يعرض بمزيد من التفصيلات ما يترتب على هذا السماع من إرهاق بدني، وتشبع نفسي، يؤثر كلاهما على الصوفي، في أثناء أدائه الفروض الدينية على صورتها الكاملة. وماذا ينتظر من صوفي، قضي الليل كله ساهراً في الرقص والانجذاب، وسماع الشعر بما يصحبه من صخب الطبول والمزامير؟! لسوف يقوم إلى الصلاة، وهو متثاقل من الإعياء، فيتوضأ كيفما اتفق، ونادراً ما يلحق صلاة الجماعة في المسجد، فإن لحقها، فهو وراء الإمام على أحد أمرين: إما مشغول النفس في ليلته الماضية، وما جرى فيها، وإما على عجل من أمره، يترقب، في ضجر،فراغ الإمام من الصلاة !([123]).

بقي أن نشير إلى أن ابن عربي عاد بعد ذلك في كتبه الأخرى، مثل الفتوحات المكية، ومحاضرة الأبرار، فتحدث عن السماع حديث الراضي عنه الداعي إليه. ويزول التعارض من هذا الموقف، حين نعلم أن السماع الذي هاجمه في روح القدس، كان هو ذلك السماع، ذا الطابع العملي، والطقوس البدنية المزرية، وكأنما كان يمهد بذلك للسماع الحقيقي في رأيه، وهو السماع النظري، الذي يطلق عليه "السماع الروحاني الإلهي"([124]) أو "السماع المطلق"([125])، وهو يعتمد على منهج خاص في التأويل([126])، ويفسر على أساسه نشأة الخلق، وعلاقته بالله، في إطار مذهبه العام في وحدة الوجود".


*    *




الكرامات عند الصوفية


يعرّف علماء الكلام المسلمون الكرامة بأنها أمر خارق للعادة يظهره الله على أيدي أوليائه تكريما لهم.ويفرقون بينها وبين المعجزة التي يظهرها الله تعالى على أيدي رسله وأنبيائه تأييداً لهم ([127])، وعلى الرغم من هذا الاعتراف الصريح من جانب علماء الكلام، والفقهاء طبعا ، بإمكانية وجود الكرامات ، فإنهم جميعا لم يرتاحوا تماماً لظهورها في الواقع على أيدي بعض الصوفية، ولذلك جرى الاعتراض عليهم، واعتبارهم أحيانا سحرة ومشعوذين !

ومن ناحية أخرى، فإن كبار شيوخ الصوفية، رغم اعترافهم بوجود الكرامات، إلا أنهم لم يعتبروها علامة على وصول الصوفي إلى مرتبة عليا، بل إنهم حذّروا منها أتباعهم لكي لا تكون مدعاة لغرورهم الذي قد يؤدي إلى هلاكهم، وهم مازالوا سائرين على طريق التصوف. والذي يطالع مؤلفات الصوفية الأوائل وخاصة في القرنين الثالث والرابع لا يكاد يعثر على اهتمام بالكرامات، وإنما كان التركيز غالباً ما يتم على أصول التصوف العملية، ولطائفة الأخلاقية والنفسية.

لكن المؤلفات المتأخرة، أي التي ظهرت منذ القرن السادس وما بعده، قد أوردت، وامتلأ بعضها بذكر كرامات الصوفية، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن التصوف قد أصبح معترفاً به في المجتمعات الإسلامية، وتعاطفت معه أعداد غفيرة ممن كان يستهويهم الاستماع إلى حكايات الصوفية الغريبة، ومنها الكرامات !

وفي كتابه (روح القدس في مناصحة النفس) يذكر ابن عربي        (ت 638 هـ) أكثر من خمسين شيخا من شيوخه، الذين صحبهم في بداية طريقة للتصوف. ومن خلال عرضه لأحوال هؤلاء الشيوخ الذي عايشهم، يورد ابن عربي الكثير من كراماتهم التي يمكن تصنيفها فيما يلي:

-  الإخبار عن المستقبل، ومنه التنبؤ بيوم الوفاة !

-  المشي على الماء وطيّ الأرض، وقطع مسافة خمسة وأربعين يوما في فترة ما بين المغرب والعشاء !

-  إبراء المريض بمجرد لمسه !

-  رؤية عمود نور متصل بالشيخ من السماء !

-  تحول الماء المالح إلى عذب، وتحول الدموع إلى مسك.

-  تحول النبات المر إلى حلوى.

-  الغرف باليد من النار، والضرب باليد على العشب فيشتعل !

-  الهيمنة (القراءة غير الواضحة) على باب مسجد مغلق، فينفتح !

-  الأكل عن إنسان غائب فيشبع !

-  قراءة الخواطر على البعد، والمناداة على البعد، فيسمع المنادي، والاتصال على البعد([128]).

أما الشعراني في كتابه الضخم (الطبقات الكبرى) فقد تحدث هو الآخر كثيراً عن كرامات الصوفية. ومن ذلك الشيخ أبو يعزي المغربي، الذي انتهت إليه تربية الصادقين بالمغرب. قيل عنه إنه أقام في بدايته خمس عشرة سنة في البرية، لا يأكل إلا من حب الشجر في البادية، وكانت الأسود تأوي إليه، والطير يعكف عليه، وكان إذا قال للأسد: لا تسكني هنا تأخذ أشبالها وتخرج بأجمعها. قال الشيخ أبو مدين، وهو من كبار الصوفية أيضا: زرته مرة في الصحراء وحوله الأسد والوحوش والطير تشاوره في أحوالها، وكان الوقت وقت غلاء، فكان يقول لذلك الوحش : اذهب إلى مكان كذا وكذا فهناك قوتك. ويقول للطير مثل ذلك فتنقاد لأمره، ثم قال لأبي مدين: يا شعيب، إن هذه الوحوش والطيور أحبت جواري، فتحملت ألم الجوع لأجلي ..([129])

ومن ذلك: الشيخ على بن وهب السنجاري، الذي تتلمذ عليه جماعة من كبار الصوفية بلغوا أربعون شيخا. وحكي أنه لما مات اجتمع هؤلاء المريدون في روضة تجاه زاويته، فجعل كل منهم يأخذ من تلك الروضة قبضة من نباتها، ويتنفس عليها فتزهر من جميع الأزهار المختلفة الألوان من أصفر وأخضر وأزرق وأبيض وغير ذلك حتى أقر بعضهم لبعض بالتمكن والتصريف([130]).

ومن ذلك موسى الزولى، الذي كان أوحد الأئمة، وكان الشيخ عبد القادر الجيلاني يعظم شأنه، وقال مرة: يا أهل بغداد ستطلع عليكم شمس ما طلعت عليكم بعد، فقيل له: ومن هو ؟ قال: الشيخ موسى الزولي.

ومن كراماته أنه كان إذا مسّ الحديد بيده لان حتى يصير كاللبان !

وكان يقول للصبي الذي عمره أربعة أشهر فأقل: اقرأ سورة كذا، فيقرأها الصبي بلسان فصيح، ولا يزال يتكلم من ذلك الوقت !

ويحكي عنه أنه عندما مات بمدينة ماردين، وكان قد كبر سنّه، وضعوه في لحده فنهض قائماً يصلي، واتسع له القبر، وأغمى على من كان نزل     قبره !([131])

ومن ذلك الشيخ أبو عمر، عثمان القرشي، كان من أكبر مشايخ مصر. توفى سنة 564. يقول عنه الشعراني إنه كان متتابع الكشف. وزاد النيل في إحدي السنين زيادة عظيمة كادت مصر تغرق وفاض على الأرض حتى كاد وقت الزرع يفوت، فضج الناس بالشيخ أبي عمرو بسبب ذلك، فأتى الشيخ إلى شاطئ النيل وتوضأ منه فنقص في الحال نحو الذراعين، ونزل عن الأرض حتى انكشف وزرع الناس في اليوم التالي([132]) !

ومن ذلك السيد أحمد البدوي، صاحب المقام المشهور بطنطا. رويت عنه كرامات كثيرة. وكان أصحابه كثيرا ، منهم الشيخ على المليجي. وكان يوماً عند السيد أحمد البدوي، ولديه رجل بناء يبني عنده، فطلبه الشيخ على ورغبه بزيادة أجره، فذهب إليه في بلدته، وعندما بدأ البناء وقع من فوقه فانفصلت يده عن جسده، فأخذها الشيخ علي وبصق عليها من ريقه، ولصقها فالتصقت، وأرسل يقول للسيد أحمد البدوي: أنت تقطع ونحن نوصل .. كأنما يباسطه في الكلام !

وهكذا لو ذهبنا نستقصي كرامات الصوفية لوجدنا الكثير، ولحدث الإنكار عليها ممن يقرأها أو يسمعها، لكن الثابت أن الذين رووها في مؤلفاتهم يؤكدون وقوعها، ولا يندهشون من حدوثها، خاصة وأن بعضها كان يقع أمام جمع غفير، وليس بين أفراد قلائل. ومن الواضح أن بعض الكرامات مازالت تجري على أيدي بعض أولياء الله الصالحين، إشارة للناس إلى قربهم من الله تعالى، حتى ينتبهوا لأنفسهم، ويدركوا أن كل ما يجري في الكون إنما يجري بمشيئة الله، التي وضعت نظامه وتحافظ عليه، كما أنها أيضا قادرة على خرق هذا النظام في بعض الأحيان.


*    *






















أسرار الحروف عند الصوفية


تحول الحديث المتناثر عن أسرار حروف اللغة العربية عند الصوفية إلى علم، صار موضوع غاية، وتخصص فيه علماء، ووضعت فيه مؤلفات. ويعد ابن خلدون (ت 808هـ) أفضل من عرض لنشأة هذا العلم وموضوعه وغايته في تركيز ووضوح شديدين. يقول: إن هذا العلم حدث في الملة، بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة، وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم، والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول، تنتقل في أطواره، وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف. وهو من تفاريع علم السيمياء([133])، لا يوقف على موضعه، ولا تحاط بالعدد مسائله. تعددت فيه مؤلفات البوني، وابن عربي، وغيرهما ممن اتبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته: تصرف النفوس الربانية في الطبيعة بالأسماء الحسنى، والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان([134]).

وبالنسبة إلى علماء هذا العلم الغريب لدى الصوفية المسلمين، يذكر ابن عربي عدداً منهم، بل ويشير إلى إفادته منهم، ومن هؤلاء: جعفر الصادق، وجابر بن حيان، كما ترد الإشارة إلى الفيثاغورين باعتبارهم أصحاب فكرة العدد، التي تعد وثيقة الصلة بالحروف، وكان من أكبر من تأثر بهم في العالم الإسلامي: إخوان الصفا. كذلك يذكر ابن عربي: الحكيم الترمذي الذي يقول عنه ابن عربي إنه جعل علم الحروف من بين علوم الأولياء. كذلك يشير ابن عربي إلى أن الحلاج كان من الذين أعلوْا شأن هذا العلم. وهناك اثنان من كبار صوفية الأندلس كانا من علماء الحروف، وهما: ابن مسرّة، وابن قسىّ. وأخيراً يحدثنا ابن عربي عن نفسه فيقول: إنه أحد القلائل الذين اختصهم الله تعالى بأسرار علم الحروف، ولهذا نجده يخصص له مساحة واسعة في كتابه الكبير الفتوحات المكية، كما يتناوله في العديد من رسائله الصغرى.

التحفظ في إظهار أسرار الحروف:

يذكر ابن عربي أحد أسبابه امتناعه عن كشف أسرار الحروف قائلاً:

لولا العهود التي عليّ قد أُخذت



أظهرت منها علوماً تبهر البشرا

كما يصرح بأنه لا يستطيع نشر كل ما لديه من هذه الأسرار في الكتب، وإن كان من الممكن فقط مشافهة واحد من اثنين بها: إما عارف شبيه له في علمه بهذا الفن، أو مسلم في أكمل درجات التسليم .. وهو يشترط لمثل هذا التصريح أن يكون عن طريق المشافهة. وليس عن طريق الكتب !

أما مكانة علم الحروف فيرى ابن عربى أن حروف المعجم إنما سميت كذلك "لأنها عجمت على الناظر معناها" وإذن فهي تعد سرا من أسرار الله تعالـى، والعلم بها من أشرف العلوم المخزونة عند الله، وهو من العلم المكنون المخصوص به أهل القلوب الطاهرة من الأنبياء والأولياء، كما يعد هذا العلم – في نظر ابن عربي – أفضل من العلم الطبيعي أو العلم الكوني، يقول :


علم الحروف شريف لا يقاس به



علم الكيان لمن قد جدّ أو سخرا

ومع ذلك، فقد يختلط هذا العلم (الشريف في نفسه) عند الأولياء بمثله لدى بعض الناس الذي يكتسبونه من طرق أخرى، ولذلك يدعو ابن عربي الناس إلى عدم طلبه، "لأن السلامة منه عزيزة .. فإنه من العلم الذي اختص الله به أولياءه على الجملة، وإن كان عند بعض الناس منه قليل، ولكن من غير الطريق الذي يناله الصالحون، ولهذا يشقى مَنْ عنده ولا يسعد"([135]).

التفسير الكوني والحروف:

يقارن ابن عربي بين كيفية تكوين الإنسان للكلاّم، وتكوين الله تعالى للموجودات " فإذا انقطع الهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سمي مواضع انقطاعه حروفٌا، فظهرت أعيان الحروف، فلما تآلفت ظهرت الحياة الحسية في المعاني، وهو أول ما ظهر من الحضرة الإلهية للعالم. ولم يكن للأعيان في حال عدمها شئ من النسب إلا السمع، فكانت الأعيان مستعدة في ذواتها، في حال عدمها لقبول الأمر الإلهي، إذا ورد عليها بالوجود، فلما أراد بها الوجود، قال لها: كن، فتكونت، وظهرت في أعيانها"([136]).

ومن خلال هذه المقارنة، يبدو ارتباط أسرار الحروف عند ابن عربي بمذهب وحدة الوجود. والنص التالي يكشف لنا عن فكرة الارتباط بين الله والعالم، محاولاً تقريبها بعرض فكرة ظهور الحروف في النَفَس، بعد أن كانت باطنة فيه. يقول ابن عربي: "ثم لتعلم أن نَفَس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس، فصار النفس ظاهراً، وهو أعيان الحروف والكلمات، فلم يكن الظاهر بأمر زائد على الباطن، فهو عينه. واستعداد المخارج لتعيين الحروف – استعداد أعيان العالم الثابتة في نفس الرحمن"([137]).

ولا تقتصر هذه المقارنة على مجرد إثبات التشابه، وإنما نجدها تؤكد قوة العلاقة، وتداخلها بين الحضرة الإلهية، والحضرة الإنسانية في هذا المجال([138]). فبينما يرى ابن عربي أن الكلمات نشأت عن الحروف، والحروف عن الهواء، والهواء عن النفس الرحماني، وأنه بالأسماء تظهر الآثار في  الكون – يقرر من ناحية أخرى "أن الإنسان بهذه الكلمات يجعل الحضرة الإلهية تعطيه من نفسها ما تقوم به حياة ما يسأل فيه بتلك الكلمات، فيصير الأمر دوراٌ"([139]).

الحروف أمة بذاتها:

ينظر ابن عربى إلى عالم الحروف، نظرته إلى غيره من العوالم التي تسري فيها الحياة، ويوجد بها مكلفون، ويظهر منها رسل ، ويخصص لها شريعة، فيقول: "الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون. وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العرف. منهم عالم الجبروت. وعالم الملكوت، والعالم الأوسط ... الخ، فهؤلاء عوالم . ولكل عالم رسول من جنسهم. ولهم شريعة تعبدوا بها. ولهم لطائف وكثائف. وعليهم من الخطاب الأمر، ليس عندهم نهي "ثم يضيف قائلاٌ: ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا"([140]).

ويعد هذا العالم – في رأي ابن عربي – أقرب العوالم شبهاٌ بالإنسان، من حيث المشاركة في الخطاب، ونظراُ لقبوله جميع الحقائق كالإنسان، وسائر العالم ليس كذلك([141]). وهنا يعقد ابن عربي مقارنة تفصيلية بين الحروف ، والنظام الصوفي الخاص بمراتب الولاية: فمنها القطب، وهو (الألف)، والإمامان (الواو والياء المعتلتان) والأوتاد الأربعة (الألف والواو والياء والنون، وهي علامات الإعراب) والأبدال السبعة (الألف والواو والياء والنون وتاء الضمير، وكافه وهاؤه)([142])، ومرة أخرى يعقب ابن عربي بأن "مدرك علم هذا على الكشف، فابحث عنه بالخلوة والذكر والهمة"([143]).

وإيغالاٌ في عقد الصلة بين عالمي الحروف والتصوف، يذكر ابن عربي أن الله تعالى، إنما "أوجد الحركات والحروف والمخارج، تنبيهاٌ منه، سبحانه وتعالى، أن الذوات تتميز بالصفات والمقامات. فجعل الحركات نظير المقامات. وجعل الحروف نظير الموصوف. وجعل المخارج نظير المقامات والمعارج"([144]).

الحروف والأفلاك :

ويجيب ابن عربي عن أحد أسئلة الحكيم الترمذي التي تقول ([145]): من أي حساب صار عدد الحروف ثمانية وعشرين حرفاٌ؟ بأن الحروف إنما ظهرت في عالم العناصر. وفي عنصر الهواء بالذات سلطانها ، وأن العناصر إنما حدثت عن حركات الأفلاك. وحركات الأفلاك إنما قطعت ثماني وعشرين مترلة في الفلك. فلما تكونت المولُدات من العناصر، ظهرت – في أكمل نشأة المولدات، وهو الإنسان – صورُ الحروف ثمانية وعشرين حرفاُ، عن ثمان وعشرين مترلة([146])، من أجل حروف النَّفَس الرحماني . وإنما قلنا ذلك، لأن الناس يتخيلون أن الحروف الثمانية والعشرين من المنازل، حُكْمُ هذا العدد لها. وعندنا بالعكس، يل عن هذه الحروف، كان عدد المنازل"([147]).

الفكرة إذن قائمة على أن هناك علاقة متبادلة بين عالم الأفلاك وعالم الحروف([148])، وإذا كانت الأفلاك ذات تأثير في العالم، فمن الممكن حينئذ استخدام الحروف للسيطرة على هذا التأثير، أو التحكم في توجيهه. ومن ثم فإن        ابن عربي يقرر أن "العمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق"([149]) ومن الواضح أنه يعني علم الفلك، أو في الأقل، ارتباط الظواهر الكونية بعضها بالبعض. يقول ابن عربي: "وقد تكون تلك الآثار التكوينية عن موازين معلومة عندنا"([150]) ومن ناحية أخرى، فإنه يدعو إلى ضرورة الإلمام الدقيق بالخواص الذاتية للحروف، والشروط اللازمة لاستخدامها.

الخواص الذاتية للحروف:

يُحدَّد ابن عربي القيمة الذاتية لخصائص الحروف، تبعاً لمرورها على المخارج. وبذلك تتفاضل فيما بينها، ويصبح الحرف أقوى في التأثير من حرف آخر، إذا مرّ على عدد من المخارج أكثر مما مرّ عليه ذلك الحرف الآخر. يقول ابن عربي "وآخر الحروف الواو. ففي الواو قوة جميع الحروف. كما أن الهاء أقل في العمل من جميع الحروف، فإن لها البدء. فكلمة (هو) جمعت جميع قوى الحروف، في عالم الكلمات. فلهذا كانت الهوية أعظم الأشياء فعلاً"([151])، وهنا يربط ابن عربي بين هذه الفكرة، وبين فكرة تطور الإنسان، في مراحل الخلق المختلفة، حتى وصوله إلى مستوى يقابل مستوى حرف الواو "وكذلك الإنسان آخر غاية النفس والكلمات الإلهية في الأجناس، ففي الإنسان قوة كل موجود في العالم"([152]) !

شروط استخدام الحروف:

يقسم ابن عربي الحروف إلى ثلاثة أقسام: رقمية وهي المكتوبة، ولفظية وهي المنطوق بها، ومستحضَرة وهي التي يستحضرها الإنسان في وهمه وخياله، ويصوَّرها. فإما أن يستحضر الحروف الرقمية، أو الحروف اللفظية. وهو يرى أن هذا الاستحضار الخيالي هو أساس العمل بكل هذه الأقسام "فاعلم أن الحرف الواحد، سواء كان مرقوماُ أو متلفظاً به، إذ عرى القصد للعمل به عن استحضاره في الرقم أو في اللفظ خيالاً، لم يعمل، وإذا كان معه الاستحضار عمل"([153]).

وحينما يقرر ابن عربي أن الحرف لا يعمل لمجرد كونه حرفاً، وإنما بكونه شكلاً، فإنه يثبت لجميع هذه الأشكال أرواحاً([154])، هي في الحقيقة صاحبة التأثير، الذي ينسب في الظاهر إلى الحروف "فإما الحروف المكتوبة فإن أشكالها تزول بالمحو، وعندئذ تنتقل أرواحها إلى البرزخ" في حين لا يدرك الحروف اللفظية موت بعد وجودها "فالجو كله مملوء من كلام العالم ، يراه صاحب الكشف صوراٌ قائمة"([155]) وأما الحروف المستحضرة، وهي لدى       ابن عربي أقوى الحروف في العمل "فهي باقية، إذ كان وجود أشكالها في البرزخ، لا في الحس. ولكن إذا استحكم سلطان استحضارها، واتحد المستحضر لها، ولم يبق فيها متسع لغيرها، ويعلم ما هي خاصتها، حتى يستحضرها، من أجل ذلك يرى أثرها"([156]).

وهنا يفرق ابن عربي بين من يحدث التأثير بالحرف المستحضَر وبين من يفعل ذلك بالهمة"([157]) وهذا الفعل بالحرف المستحضر، يعبر عنه بعض من لا علم له بالهمة والصدق. وليس كذلك. وإن كانت الهمة روحاٌ للحرف المستحضر لا عين الشكل المستحضر"([158]).

وقد نعثر لدى ابن عربي على قدر من التفسير المعقول لظاهرة العمل بالحروف، وذلك حين يذكر أن ألطف أنواع السيمياء هو "التلفّظ بالكلام الذي يخطف به (المتكلم) بصر الناظر عن الحس، ويصرفه إلى خياله، فيرى مثل ما يرى النائم وهو في يقظته"([159]) غير أن هذا إذا انطبق على الحروف اللفظية، فإن العمل بكل من الحروف المرقومة والمستحضرة، يظل في حاجة إلى مثل هذا التفسير !

الحروف والكلمات :

تجتمع الحروف على أنحاء خاصة، فتكون الكلمات "ويرى ابن عربي أن لله تجلياً في صور تقبل القول والكلام بترتيب مخصوص، ومنها كلمة (كـن) – تلك الكلمة التي بها ظهر الكون عن الله، وهي التي استبدل بها الصوفية – تأدباً مع الله – كلمة (بسم الله) المساوية لها في القيمة، والأثر. يقول ابن عربي: "وأما (كن) فهو من فعل الكلمة الواحدة، لا من فعل الحروف. وخاصيته في الإيجاد. وله شروط، مع هذا يتأدب أهل الله مع الله، فجعلوا بدله في الفعل (بسم الله)"([160]). وهو يذكر أن رسول الله e قد استخدمها في غزوة تبوك "وما سمع منه قبل ذلك، ولا بعده ، وإنما أراد إعلام الناس، من الصحابة بمثل هذه الأسرار، بذلك".

ويصل ابن عربي في هذا المجال إلى فكرة علمية حديثة، وهي التي تقرر أن العناصر المختلفة التي تدخل في تركيب شيء ما، لا تؤثر بخصائص كل عنصر فيها على انفراد وإنما بخاصية اجتماع هذه العناصر معاً. يقول   ابن عربي: "واعلم أن الحروف كالطبائع والعقاقير، بل كالأشياء كلها: لها خواص بانفرادها، ولها خواص بتركيبها، وليس من خواصها بالتركيب لأعيانها، ولكن الخاصة لأحدية الجمعية، فافهم ذلك، حتى لا بكون الفاعل في العالم إلا الواحد"([161]).

وترتبط الفكرة الأخيرة من النص السابق، بفكرة الاتحاد الصوفي، القائم على الحب، الذي يصدر فيه الإنسان الكامل – في جميع أفعاله – عن إرادة إلهية "فينفعل عن العبد بـ (البسملة) – إذا تحقق بها – ما ينفعل عن (كن)، فكأنه يقول (بسم الله يكون ظهور الكون)، فهو إخبار عن حقيقة، اقترن بها صدقُ محبوبٍ، كان الحقّ سمعَه وبصرَه، فيكون عنه مما يكون عن (كن)"([162]). وهو يرى أن الله قد أفرد العارفين في الدنيا بهذا الاختصاص، الذي سيعم في الجنة جميع المؤمنين. يقول ابن عربي: " ولها (مركبات الحروف) منافع كثيرة عالية الشأن عند العارفين، إذا أرادوا التحقق بها حركوا الوجود من أوله إلى آخره. فهي لهم هنا خصوص، وفي الآخرة هي عموم لجميع أهل الجنة. بها يقول المؤمن في الجنة للشيء يريده: كن، فيكون"([163]).

الحروف والأسماء الإلهية:

وإذا كانت الحروف هي أساس بناء الكلمات، فإن من هذه الأخيرة تتكون الأسماء الإلهية، ذات التأثير المباشر في العالم "فالحروف تحكم على الكلمات، والكواكب تحكم على فصول الزمان، والأسماء تحكم الموجودات. والأعيان مقسَّمة بين فاعل ومنفعل. فإذا فهمت هذا نسبت كل اسم إلهي إلى متعلَّقه غالباً"([164]) ثم يحدد ابن عربي لكل من الأسماء الإلهية جزءاً من العالم الذي توجّه لإيجاده، وحرفاً من حروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين، يختص بذلك الاسم.


*     *































لغة التصوف ومصطلحاته


تتحدد معالم اللغة في أي مجال علمي تبعاً لمضمون هذا المجال، كما أنها تتطور وتزدهر تبعا لتطور هذا المجال وازدهاره. واللغة التي أقصدها   هنا تشمل المفردات([165])، التي يتحول بعضها إلى مصطلحات([166])،ثم التركيبات اللغوية التي يصف بها على كل مجال ما يحدث فيه من ظواهر ثابتة          أو متحركة.

وعلى هذه القاعدة، صار للفقه لغته، ولعلم الحديث لغته، ولعلم الكلام لغته، وأخيراً للتصوف لغته.

ولما كان التصوف الإسلامي يدور في معظمه حول أحوال النفس، وتقلبات القلب، وتطلعات الروح إلى عالم الغيب – فقد تميز بلغة خاصة توسعت مفرداتها كثيرا، وبلغت مصطلحاتها حدًا دفع الكثير من مؤرخي التصوف إلى أن يخصصوا لها فصولاً كاملة([167])، أو حتى مؤلفات مفردة لجمع هذه المصطلحات، وتفسيرها لمن يرغب في الوقوف على معانيها الدقيقة.

وقبل أن نقوم هنا بمحاولة لتحديد خصائص لغة التصوف سوف نقدم عدة نماذج من أقوال الصوفية :


  • من دعاء إبراهيم بن أدهم:

اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.

-  وقيل له: إن اللحم قد غلا !

فقال: أرخصوه (أي لا تشتروه فيهبط ثمنه!)

  • وقال ذو النون المصري:

مدار الكلام على أربع: حب الجليل، وبغض القليل، واتباع التنزيل،    وخوف التحويل.

  • وقال الفضيل بن عياض:

ترك العمل لأجل الناس هو الرياء،

والعمل لأجل الناس هو الشرك !

(والمقصود هنا هو العمل الديني)

  • وقيل لمعروف الكرخي ، وهو على فراش الموت: أوصِ

فقال: إذا مت فتصدقوا بقميصي،

فإني أريد أن أخرج من الدنيا عريانا، كما دخلتها عريانا !

  • وقال السري السقطي:

أعرف طريقا مختصرا قصداً إلى الجنة، فقيل له: ما هو ؟

قال: لا تسأل من أحد شيئا،

ولا تأخذ من أحد شيئا،

ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدا

  • أبو سليمان الداراني:

إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة

  • حاتم الأصم:

ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ماذا تأكل ؟ وماذا تلبس ؟           وأين تسكن ؟

فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر !

  • أحمد بن عاصم:

إذا أردت صلاح قلبك، فاستعن عليه بحفظ لسانك.

  • حمدون القصار:

لا تفش على أحد ما تحب أن يكون مستوراً عنك.

  • محمد البلخي:

ذهاب الإسلام من أربعة:

لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون،

ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم !

ومن هذه الأقوال التي اخترناها سريعا من الرسالة القشيرية، يمكن أن نستخلص بعض الخصائص العامة للغة الصوفية، وهو موضوع يحتاج إلى مزيد من الدراسة، ومن أبرز هذه الخصائص:

أولا : التركيز الشديد أو ما يعبر عنه نقاد الأدب المعاصرون بالتكثيف، وهو أداء المعاني التي تحتاج إلى مزيد من التفصيل والإطناب في كلمات مختصرة، وعبارات مركزة، ولكنها تتميز في نفس الوقت بالكثير من الدقة، بحيث تؤثر مباشرة فيمن يتلقاها .

ثانيا : البساطة في اختيار الكلمات، وعدم اللجوء إلى الكلمات الغريبة أو المهجورة التي تحتاج في فهم معناها إلى قاموس. لقد كان الصوفية يدركون جيداً أنهم يخاطبون الناس البسطاء والعامة، ومن هنا نجحوا في التواصل معهم من خلال تلك اللغة البسيطة، والتي تحمل في نفس الوقت الكثير من المعاني العميقة.

ثالثا : استطاع الصوفية أن يصورا في لغتهم خلجات النفوس، وخفقات القلوب، وخشيتهم الشديدة من الله تعالى، ورغبتهم الأكيدة في التقرب إليه. وهذا هو الذي جعل لغتهم تنفرد بطابعها الروحي وتتميز بالتالي عن اللغة التي كانت تستخدمها سائر الطوائف الإسلامية الأخرى كالفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين ، والأدباء ..

رابعا : تقرب لغة الصوفية كثيرا من لغة الحكم والأمثال التي وردت في التراث الإنساني، والتي لا نكاد تعرف من أنشأها أو صاغها، لكنها نتيجة صدقها وحسن صياغتها قد حفظت على مر السنين.

خامساً : لا تبتعد لغة الصوفية كثيرا عن لغة القرآن الكريم والسنة النبوية، بل إنها تستمد منهما بلاغتها الخاصة، وتعتمد على معانيهما السامية، ولا شك أن هذا الجانب كان أحد أسباب قبولها والإعجاب بها من المسلمين.

أما مصطلحات الصوفية فقد اهتم بها الصوفية، قاصدين منها أولا: أن يتفاهموا بها فيما بينهم، وممهدين الطريق ثانيا: لمن يرغب في قراءة أعمالهم. ومن المعروف أن المصطلح عبارة عن لفظ يتم اختياره بعناية ليعبر عن معنى محدد في إطار علم من العلوم ، وهو يساعد أصحابه على اختصار الوقت والمجهود، لأنه بمجرد أن يذكر هذا اللفظ يدرك السامع المعاني المقصودة منه، والتي اتفق عليها أصحاب هذا العلم.

وقد اهتم الصوفية كثيرا باستخدام مصطلحات، خاصة بعلمهم، وأصبح على كل من يريد أن يقرأ لهم أن يكون على بينة من تلك المصطلحات التي تواضعوا عليها. ولدينا في هذا الصدد كتاب كبير وضعه الكاشاني (ت 735 ) على الترتيب الأبجدي عنوانه (اصطلاحات الصوفية). وكذلك قام ابن عربي (ت 638) بوضع رسالة صغيرة بنفس العنوان، يقول في مقدمتها :

أما بعد، فإنك أشرت إلينا بشرح الألفاظ التي تداولها الصوفية المحققون من أهل الله بينهم، لمّا رأيت كثيرا من علماء الرسوم (يقصد الفقهاء) وقد سألونا في مطالعة مصنفاتنا ومصنفات أهل طريقنا، مع معرفتهم بما تواطأنا عليه من الألفاظ التي بها يفهم بعضنا عن بعض كما جرت عادة أهل كل فن من العلوم.

فأجبتك إلى ذلك، ولم أستوعب الألفاظ كلها، ولكن اقتصرت منها على الأهم فالأهم، وأضربت عن ذكر ما هو مفهوم من ذلك عند كل من ينظر فيه بأول نظرة، لما فيها من الاستعارة والتشبيه، وقد أوردنا ذلك لفظة لفظة. والله المؤيد والنافع بمنّه، لا رب غيره. فمن ذلك:

الهاجس: يعبرون عن الخاطر الأول: وهو الخاطر الرباني ، وهو لا يخطئ أبدا. وقد يسمى: السبب الأول ونقر الخاطر، وإذا تحقق سموه: إرادة، فإذا تردد الثالثة سموه: همة، وفي الرابعة سموه: عزما، وعند التوجه إلى القلب إن كان خاطر فعل سموه: قصدا، ومع الشروع في الفعل سموه: نية.

السفر: عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر.

الوقت : عبارة عن حالك في زمان الحال، لا تعلق له بالماضي ولا بالمستقبل.

الحال : هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب. ومن شرطه أن يزول ويعقبه المثل، وأن يبقى ولا يعقبه المثل .. وقد قيل: الحال تغير الأوصاف على العبد.

المقام : عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام.

الانزعاج : هو أثر المواعظ في قلب المؤمن. وقد يطلق ويراد به التحرك للوجد والأنس.

الشطح : عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى. وهي نادرة أن توجد من المحققين.

الوجد : ما يصادف القلب من الأحوال المفنية له عن شهوده .

الوجود : وجدان الحق في الوجد.

التواجد : استدعاء الوجد، وقيل: إظهار حالة الوجد من غير وجد.

اللطيفة : كل إشارة دقيقة المعنى تلوح في الفهم لا تسعها العبارة.

الرياضة : رياضة أدب وهو الخروج عن طبع النفس.

ورياضة طلب وهو صحة المراد له،

وبالجملة هي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسية.

المجاهدة : حمل النفس على المشاق البدنية، ومخالفة الهوى على كل حال.

الذهاب : غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة محبوبه، كائنا المحبوب   ما كان !

الزمان : السلطان

الزاجر : واعظ الحق في قلب المؤمن، وهو الداعي إلى الله.

التجلي : ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب.

التصوف : الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي الأخلاق الإلهية. وقد يقال بإزاء إتيان مكارم الأخلاق وتجنب سفاسفها لتجلي الصفات الإلهية. وعندنا: الاتصاف بأخلاق العبودية، وهو الصحيح، فإنه أتمّ.

والمتأمل في هذه الطائفة القليلة من المصطلحات يظهر له على الفور أن الكلمة المتعارف عليها في اللغة تأخذ معنى خاصاً، وأحيانا خاصا جداً لدى الصوفية. فكلمة السفر التي تعنى في العادة توجه الإنسان من مكان إلى مكان آخر أبعد منه، باستخدام وسيلة انتقال عادية، تصبح في اصطلاح الصوفية هي توجه القلب إلى الحق بالذكر .. فالإنسان هنا لم يتحرك من مكانه المادي، وأصبح السفر لديه عبارة عن استخدام الذكر كوسيلة انتقال روحية للوصول إلى جناب الحق.

لكننا نلاحظ أيضاً أن الصوفية حينما استعاروا الألفاظ المتداولة ليجعلوا منها مصطلحات خاصة بهم، فإنهم قد أنشأوا أيضا مصطلحات خاصة بهم، ومن ذلك ألفاظ: الوجد، والشطح، والتجلي، والرياضة، والمجاهدة ..

وعموماً فإن التصوف الإسلامي المكتوب بالعربية، يتطلب من القارئ له أو الباحث فيه أن يلم إلمامًا جيداً بالمصطلحات الصوفية التي تعتبر هي المفاتيح الضرورية لإدراك المعاني والمفاهيم الصوفية.


*     *



الأدب الصوفي


ظهر في أوساط الصوفية المسلمين الكثير من الأدباء والشعراء الذين وظفوا موهبتهم لخدمة هذا الاتجاه الروحي، والتعبير الجميل عنه سواء بالنثر الفني، أو بالشعر، أو بالقصص ، أو بالأقوال المأثورة، وهذه الأخيرة عبارة عن عبارات مركزة ذات صياغة بلاغية راقية، وتشبه الحكم التي وضعها كبار المفكرين والفلاسفة، وتجيء عادة في صورة نصائح للمريدين أو للناس عموما بقصد التأثير المباشر فيهم، وإخراجهم من الغفلة التي تسببها لهم مشاغل الدنيا لكي توقظهم وتنبههم إلى الهدف الحقيقي من وجودهم، وكيف يعملون بكل جد للوصول إليه.

لكن الأدب الصوفي لم يكن كله وصايا ونصائح، وإنما اشتمل أيضا على التغني بأشواق الروح، وحنين القلب، والحرقة التي يشعر بها المولهون بحب الله تعالى .. ولكي يعبروا عن ذلك لم يكن أمامهم سوى استخدام لغة الحب البشري، والتي كانت تقترب أحيانا من طابع الشعر العذري باعتباره أقرب فنون الشعر العربي إلى الشعر الصوفي.

وقد سبق القول إن الصوفية قد اتجهوا بخطابهم إلى عامة الناس لكي ينصحوهم أو يطلعوهم على أحوالهم ومواجيدهم، ولذلك استخدموا لغة بسيطة الألفاظ، واضحة المعاني، قريبة دائما إلى الأفهام، ومن هنا اختلف أسلوبهم في التعبير عن كل من الفلاسفة، وعلماء الكلام، الأمر الذي جعل مؤلفاتهم تنتشر بين الناس ، بل وتصمد عبر العصور. ويكفي أن كثيراً من المؤلفات الصوفية مازال متداولا حتى اليوم، ومن أبرزها كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي، وكتاب (قوت القلوب) لأبي طالب المكي، وكتاب (الرعاية لحقوق الله) للمحاسبي ..

وسوف نعرض فيما يلي لنماذج من أدبيات التصوف الإسلامي، بعضها عبارة عن فقرات من أشهر المؤلفات الصوفية، وبعضها قصائد شعرية، وبعضها قصص رمزية، وبعضها أقوال مأثورة ، حتى يتعرف القارئ على طرف من جماليات هذا التراث الصوفي الذي كان ومازال جزءاً مضيئاً ومشرقاً في الحضارة الإسلامية.





أولاً : من النثر الصوفى


من كلمات الجنيد وكان يطلق عليه شيخ الطائفة (توفى سنة 297هـ)([168]).

- ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف هو صفة المعاملة مع الله تعالى، وأصله التعزف (العزوف) عن الدنيا، كما قال حارث: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري.

- إنك لن تكون له (تعالى) على الحقيقة عبدا، وشيء مما دونه لك مسترق. وإنك لن تصل إلى صريح الحرية، وعليك من حقيقة عبوديته بقية. فإذا كنت له وحده عبدا، كنت مما دونه حرا.

- الطرق كلها مسدودة على الخلق .. إلا من اقتفى أثر الرسول r واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحه.

- وكتب إلى بعض إخوانه: "من أشار إلى الله، وسكن إلى غيره ابتلاه الله تعالى، وحجب ذكره عن قلبه، وأجراه على لسانه !! فإن انتبه وانقطع مما سكن إليه كشف الله ما به من المحن والبلوى، وإن دام على سكونه نزع الله تعالى من قلوب الخلق الرحمة عليه، وأُلبس لباس الطمع، فتزداد مطالبه منهم، مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزا، وموته كمدا، ومعاده أسفا .. ونحن نعوذ بالله من السكون إلى غير الله !

الرعاية لحقوق لله والقيام بها([169])

جاء في الخبر: أن الله جل وعز يقول يوم القيامة: "وعزتي وجلالي لا أجمع اليوم لعبدي أمنيْن، ولا أجمع عليه خوفيْن. فمن خافني في الدنيا أمّنته اليوم، ومن أمننى في الدنيا أخفته اليوم".

فما ظنك بالله عز وجل يقولها ؟! وقلبك لا يخلو في ذلك الوقت أن يكون أحد قلبيْن: إما قلباً كان في الدنيا لله تعالى خائفا، فاستطار فرحا لما سمع الله عز وجل يقولها غبطة وسرورا، لما رأى من عواقب الصبر، وما حل في قلبه من الأمن، وما سمع من الخصوصية له من الله جل وعز بالأمن والرضا على رؤوس أهل الجمع .. وإما قلباً كان في الدنيا غافلاً مغترا آمنا، فاستطار فزعاً ورعباً، وغلبت عليه الندامة والحسرة حين رأى سوء عواقب غفلته واغتراره، ولزم قلبه اليقين بأن غضب الله عز وجل قد حلّ به، وأنه لن ينجو من عذاب الله جل وعز بضعفه وما خصه الله تبارك اسمه به من الشقاء والعداوة، من النداء بالخيبة على رؤوس أهل الجمع !

يا أخي .. فإني أحذرك ونفسي مقاماً عنت فيه الوجوه، وخشعت فيه الأصوات، وذلّ فيه الجبارون، وتضعضع فيه المتكبرون، واستسلم فيه الأولون والآخرون بالذل والمسكنة، والخضوع لرب العالمين، وقد جمعهم الواحد القهار الذي لا ثاني له في الهيبة ، ولا مشارك له في حكمه .. جمعهم بعد طول البلى للفصل والقضاء. في يوم آلي فيه على نفسه آلا يترك فيه عبداً أمره في الدنيا ونهاه حتى يسائله عن عمله في سره وعلانيته.

موقف البحر([170]) للنفّرى (ت 354) :

أوقفنى فى البحر ،

فرأيت المراكب تغرق ، والألواح تسلم

ثم غرقت الألواح

وقال لى : لا يسلم مَنْ ركب !

وقال لى : خاطر من ألقى بنفسه ولم يركبْ !

وقال لى : هناك من ركب وما خاطر !

وقال لى : فى المخاطرة جزء من النجاة

وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل !

وقال لى : ظاهر البحر ضوء لا يبلغ ،

وقعره ظلمة لا تمكن ،

وبينهما حيتان لا تستأمن !

وقال لى : لا تركب البحر فأحجبك بالآله ،

ولا تلق نفسك فيه فأحجبك به !

وقال لى : فى البحر حدود ، فأيها يُقلك ؟!

وقال لى : إذا وهبت نفسك للبحر فغرقت ،

كنت كدابة من دوابه !

وقال لى : غششتك إن دللتك على سواى !

وقال لى : إن هلكت فى سواى كنت لما هلكت فيه !

وقال لى : الدنيا لمن صرفته عنها ، وصرفتها عنه ،

والآخرة لمن أقبلت بها إليه ،

وأقبلت به علىّ !!

فانظر بأى بدن تقف بين يديه، وأعدّ للسؤال جوابا، وللجواب صوابا، فإنه لا يصدّق إلا الصادقين، ولا يكذّب إلا الكاذبين.

الخلوة ومزاياها([171])

وأما الخلوة فإنها تفرغ القلب من الخلق، وتجمع الهم بأمر الالحق، وتقوي العزم على الثبات، إذ في مخالطة الناس وهن العزم، وشتات الهم، وضعف النية.

والخلوة تقل الأفكار في عاجل حظوظ النفس، لفقد مشاهدتها بالأبصار، وأن العين باب القلب منها تدخل آفته، وعندها توجد شهواته ولذاته. وقد قال بعض الأدباء: من كثرت لحظاته دامت حسراته.

والخلوة تجلب أفكار الآخرة، وتجري الاهتمام بها لما أشهد به من الإيقان، وتنسى ادّكار العباد، وتواصل ذكر المعبود.

والخلوة من أكبر العوافي، وذلك أنه قد جاء في الحديث: سلوا الله العافية، فما أعطى عبد بعد اليقين أفضل من العافية. ثم قد روي في الخبر: العزلة عن الناس عافية، فدخل ذلك في معنى ما ندب إليه السؤال، وفيما فضل بعد اليقين على جميع الأحوال.

ولا يكون المريد صادقا حتى يجد في الخلوة من اللذة والحلاوة والمزيد  ما لا يجده في الجماعة، ويجد في السر من النشاط والقوة ما لا يجده في العلانية، وحتى يكون أنسه في الوحدة، وروحه في الخلوة، وأحسن أعماله في السر.

ومثل الخلوة في الأحوال المخالطة للناس مثل الخوف في المقامات من المحبة. والخوف يصلح لجميع العابدين. والمحبة مزيد أهلها المخصوصين، كذلك العزله والانفراد يصلح لجميع المريدين، والأنس بالناس مزيد لأهله خاصة من الأئمة العالمين، إلا أن الخلوة تحتاج إلى عقل آخر، والوحدة والانفراد تحتاج إلى إيمان ثان .

انتظام أمر الدنيا([172])

إن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا

ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا

فإن الدنيا مزرعة للآخرة

وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها منزلا،

لا لمن يتخذها  مستقراً ووطنا !

وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين

وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام:

أحدها أصول لاقوام للعالم دونها وهي أربعة:

الزراعة وهي للمطعم

والحياكة وهي للملبس

والبناء وهو للمسكن

والسياسة وهي للتأليف والاجتماع والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها

والثاني ما هي مهيَّئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها كالحدادة، فإنها تخدم الزراعة وجملة من الصناعات بإعداد آلاتها كالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد عملها.

الثالث ما هي متممة للأصول ومزينة كالطحن والخبز للزراعة، وكالقصارة والخياطة للحياكة ، وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته، فإنها ثلاثة أضراب أيضا : إما أصول كالقلب والكبد والدماغ ، وإما خادمه لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب والأوردة، وإما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبيْن.

من حِكَم ابن عطاء الله السكندرى (ت 709) :

-من علامات الاعتماد على العمل : نقصان الرجاء عند وجود الزلل .

-العلم كله فى كلمتين : لا تتكلف ما كفيت ، ولا تضيع ما استكفيت .

-لا يكن تأخر أمد العطاء مع الالحاح فى الدعاء موجبا ليأسك ، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختار لك ، لا فيما تختار لنفسك ،

-وجودك فى أرض الخمول ،

فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه

-كيف يشرق قلب ، صور الأكوان منطبعة فى مرآته ،

أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته ؟!

-لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها ،

فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج !

-طلبك منه اتهام له ،

وطلبك له غيبة منك عنه ،

وطلبك لغيره لقلة حيائك منه ،

وطلبك من غيره لوجود بعدك عنه !

-تشوفك إلى ما يظن يك من العيوب ..

خير لك من تشوفك إلى ما حُجب عنك من الغيوب !

-لا يعظم الذنب عندك عظمةً تصدك عن حسن الظن بالله

فإن من عرف ربه ، استصغر فى جنب كرمه ذنبه !

-لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك ،

وافرح بها لأنها برزت من الله عليك !







ثانيا: في مجال الشعر:



ذو النون المصري:

اطلبوا لأنفسكم


مثلما وجدتُ أنا

قد وجدت لي سكنا


ليس في هواه عَنَا

إن بعدت قربني


أو قربت منه دنا

البسطامي :

إذا ما عَدَتِ النفس عن الحق زجرناها

وإن مالت إلى الدنيا


عن الأخرى منعناها

تخادعنا ونخدعها


وبالصبر غلبناها

لها خوف من الفقر


وفي الفقر أنخناها

الشبلي ( في إحدى مناجياته)

محنتي فيك أنني


لا أبالي بمحنتى

ياشقائي من السقام وإن كنت علّتي

تبتُ دهرا، فمذ عرفتك ضيّعت توبتي

قربكم مثل بعدكم


فمتى وقت راحتي ؟!

صوفي مجهول:

كلهم يعبدون من خوف نار


ويروْن الجنان حظا جزيلا

ليس لي في الجنان والنار حظ


أنا لا أبتغي بحبي بديلا

سمنون المحب:

تريد مني اختبار سري


وقد علمت المراد منّي

وليس لي في سواك حظ


فكيفما شئت فاختبرني

أبو يزيد البسطامي:

عجبت لمن يقول ذكرت ربي


وهل أنسى فأذكر ما نسيتُ

شربت الحب كأساً بعد كأس


فما نفد الشراب، وما رويتُ

الحلاج :

إذا ما كنت لي عيدا


فما أصنع بالعيد

جرى حبك في قلبي


كجرْي الماء في العود

وأيضا:

والله ما طلعت شمس ولا غربت



إلا وحبك مغروس بأنفاسي

ولا خلوت إلى قوم أحدثهم



إلا وأنت حديثي بين جّلاسي

ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا



إلا وأنت بقلبي بين وسواسي

ولا هممت بشرب الماء من عطش



إلا رأيت خيالاً منك في الكاس

ولا قدرت على الإتيان جئتكمو



سعياً على الوجه أو مشياً على الراس

مالي وللناس كم يلحونني سفها



حبي لنفسي، وحب الناس للناس !

ابن عربي:

سلام على ليلى، ومَنْ حل بالحمى



وحق لمثلي رقةً أن يسلّما

وماذا عليها أن تردّ تحية



علينا، ولكنْ لا احتكام على الدّمى

سرواْ وظلام الليل أرخى سدوله



فقلت لها: صبا غريباً متيما

أحاطت به الأشواق صونا وأرصدت



له راشقات النبل أيّان يمّما

فأبدت ثناياها وأومض بارق



فلم أدر مَنْ شق الدياجر منهما

وقالت: أما يكفيه أني بقلبه



يشاهدني في كل وقت .. أَما، أما ؟!


ابن الفارض:

قلبي يحدثنى بأنك مُتلفي



روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ

لم أقض حق هواك إن كنت الذي



لم أقض فيه أسى، ومثليَ من يفي

ما لي سوى روحي وباذل نفسه



في حب من يهواه ليس بمسرف

فلئن رضيت بها فقد أسعفتني



ياخيبة المسعى إذا لم تسعف !!

يامانعي طيب المنام ومانحي



ثوب السقام به ووجدي المتلف

إن لم يكن وصل لديك فعِدْ به



أملي، وماطل إن وعدت، ولا تفي

فالمطل منك لديّ إن عز الوفا



يحلو كوصل من حبيب مسعف

ولقد أقول لمن تحرش بالهوى



عرضت نفسك للبلي فاستهدف



أنت القتيل بأيّ من أحببته



فاختر لنفسك في الهوى مَنْ تصطفي

ولقد صرفت لحبه كلي، على



يد حسنه، فحمدت حسن تصرّفي

فالعين تهوى صورة الحسن التي



روحي بها تصبو إلى معنى خفي

إن زار يوماً ياحشاي تقطعي



كلفا به ، أو سار يا عين اذرفي

ما للنوى ذنب ومن أهوى معى



إن غاب عن إنسان عيني فهو في !









ثالثا: من الحكايات الرمزية:


حكاية التاجر والببغاء



يروي جلال الدين الرومي (المتوفي 672 هجرية = 1273 ميلادية) في منظومته الكبرى المسماة بـ المثنوى (30 ألف بيت من الشعر) حكاية طريفة عن التاجر والببغاء، خلاصتها أن تاجرًا من بلاد الفرس قرر السفر إلى الهند، وقبل سفره عرض على خدمه أن يطلبوا ما يرغبون فيه، وراح كل منهم يحدد للتاجر طلبه من هناك. وكان لديه ببغاء جميل الريش، حسن الصوت فسأله: وما هديتك التي تريد أن أحضرها لك من الهند ؟ فأجاب: لي فقط رغبة بسيطة وهـي أن تبلغ ببغاواتها الطليقة في الهواء سلامي وأشواقي، وتحدثهم عن وجودي فـي هذا القفص !

سافر التاجر إلى الهند، وحين شاهد مجموعة من الببغاوات تطير وتمرح في فضاء الصحراء، توقف وأبلغها السلام، وأدى الأمانة، لكنه فوجئ بسقوط أحدها ميتا من سماع قوله ! تعجب التاجر، وراح يؤنب نفسه على أنه نقل مثل هذا الكلام الذي أدى إلى موت طائر مسكين، لكن كثرة مشاغل السفر غطت على أسفه وحزنه، وعندما رجع بالهدايا إلى خدمه، ذكر للببغاء ما حصل مع زملائه من ببغاوات الهند، وكيف أن أحدها سقط ميتا بمجرد سماع    رسالته .. حينئذ، اصفرّ لون الببغاء، وبرد جسمه، وسقط في قفصه من شدة التأثر، وعبثًا حاول التاجر أن يسعف الببغاء، لكنه أصبح إلى الموت أقرب، فأخرجه من القفص، ووضعه جانبا على الأرض، وهنا دبت الحياة من جديد في الببغاء، فاندفع بسرعة إلى أقرب شجرة، وحط على غصن فيها ..

حدث ذلك وسط دهشة التاجر، الذي راح يسأله: ما هذا الذي فعلته ؟ فقال الطائر: لقد ألهمتني حكايتك عن زملائي ببغاوات الهند، وسقوط أحدها ميتا أمامك، بأن أفعل نفس الشيء لكي أتخلص من سجن القفص الذي وضعتني فيه، وأنعم بالحرية التي منحها لي الله، ثم لوّح للتاجر: الوداع أيها السيد الطيب، فقد كنت لطيفًا معي وحررتني من القيد والظلم، وأنا الآن ذاهب إلى الوطن، وسوف تصبح ذات يوم .. حرًا مثلي !

الحكاية بالطبع رمزية، وهي مثل كل الحكايات التي يرويها جلال الدين الرومي في منظومته المليئة بالحكم والمواعظ الصوفية والأخلاقية، كما أنها لا تخلو من البعد الواقعي أو العملي الذي يمكن أن يبصر الإنسان بأفضل التصرفات في مواجهة مشكلات حياته اليومية، والمواقف الصعبة التي يوضع أحيانا فيها.

فماذا الذي نخرج به من تلك الحكاية البسيطة والرمزية ؟

أولاً: أننا أمام تاجر، طيب القلب، شهم الأخلاق، يحسن معاملة خدمة، فيعرض عليهم قبل سفره أن يطلبوا ما يرغبون فيه لكي يحضره لهم من رحلة بعيدة في بلاد الهند. ثانياً: أن التاجر يتميز بحس جمالي راق، فهو يقتني في منزله ببغاء، له صوت جميل، وألوان زاهية، وكلاهما يبعث في النفس الراحة والسرور. ثالثاً: أن الببغاء رغم وجوده في هذا الجو المترف، لا يشعر بالسعادة، لأنه يفتقد الحرية التي جعلها الله من صميم حياة الطيور ! رابعاً: أن هذا الببغاء يتميز بذكاء فريد، فقد استطاع أن يحصر طلبه من سيده في نقل رسالة وتحية إلى زملائه ببغاوات الهند، التي تعيش حرة طليقة. خامساً: أن الرسالة عندما بلغت تلك الطيور البعيدة، أدركت على الفور مغزاها، وفهمت الغرض منها، فتطوع أحدها بالموت أمام التاجر، لكي ينقل هذا المشهد المؤثر جدا .. إلى الطائر الحبيس في منزله. سادساً: أن الطيور في هذه الحكاية قد استطاعت أن تتواصل فيما بينها، على الرغم من بعد المسافة، كما نجحت تماما في إرسال واستقبال شفرة محددة، مع أن حاملها نفسه لم يفطن إلى مضمونها أو دلالتها سواء عند أخذها من صاحبها، أو توصيلها للطرف الآخر. سابعًا: أن الببغاء المحبوس في بلاد فارس قد استفاد من تجربة زملائه في بلاد الهند، فقام بالتظاهر بالموت أمام صاحبه، لكي يتم إخراجه من القفص. وأخيرًا: أن الحرية تستحق أن يبذل الراغب فيها كل الوسائل الممكنة حتى يحصل عليها. ولأن الطائر ضعيف، فقد استخدم وسيلة التلطف والمداراة، بينما توجد وسائل أخرى عديدة، تصل إلى حد التضحية بالروح من أجل الحصول على الحرية، التي لا يوجد للحياة بدونها أي معنى !!













رابعا: من الأقوال المأثورة:([173])



1- الفضيل بن عياض (ت187)

-  من جلس مع صاحب بدعة لم يُعط الحكمة !

-  من عرف الناس استراح.

-  إني لا أعتقد إخاء الرجل في الرضا،

ولكني أعتقد إخاءه في الغضب، إذا أغضبته.

-  جعل الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه الرغبة في الدنيا،

وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا.

-  أشتهي مرضا بلا عوّاد !


2- ذو النون المصري (ت 245)

-  إياك أن تكون بالمعرفة مدعيا،

أو تكون بالزهد محترفا،

أو تكون بالعبادة متعلقا.

-  الصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلا قطعه.

-  الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالخلق غم واقع.

-  الخوف رقيب العمل، والرجاء شفيع المحن.


3- ابراهيم بن أدهم

-  من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل،

ومن أطلق بصره طال أسفه،

ومن أطلق أمله ساء عمله،

ومن أطلق لسانه قتل نفسه !


4- بشر الحافي (ت 227)

-  اعمل على ترك التصنع، ولا تعمل في التصنع.

-  الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى الناس.

-  لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات حائطًا من حديد.

-  إني لأشتهي الشواء منذ أربعين سنة،

فما صفا لي درهمه !

-  إن لم تطع .. فلا تعصِ !

-  بحسبك أن أقواما موتى تحيا القلوب بذكرهم،

وأن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم !


5- سرّي السقطي (ت 251)

-  أربع خصال ترفع العبد: العلم والأدب والأمانة والعفة.

-   من لم يعرف قدر النعمة سُلبها من حيث لا يعلم.

-  من هانت عليه المصائب أحرز ثوابها.

-  أقوى القوة غلبتك نفسك،

- ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز،

- ومن أطاع مَنْ فوقه أطاعه مَنْ دونه.

-  من خاف الله خافه كل شيء.

-  إن اغتممت من نقص مالك، فابك على ما ينقص من عمرك.

-  لن يكمل رجل حتى يؤثر دينه على شهوته،

ولن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه !


6- الحارث المحاسبي (ت 243)

-  خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم،

ولا دنياهم عن آخرتهم.

-  حسن الخلق احتمال الأذى، وقلة الغضب،

وبسط الوجه ، وطيب الكلام.

-  لكل شيء جوهر. وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.

-  الظالم نادم وإن مدحه الناس،

والمظلوم سالم وإن ذمه الناس،

والقانع غني وإن جاع،

والحريص فقير وإن مَلَك !

-  الخلق كلهم معذورون في العقل، مأخوذون في الحكم.

-  من لم يشكر الله على النعمة فقد استدعى زوالها.


7- شفيق البلخي

-  احذر ألا تهلك بالدنيا،

ولا تهتم فإن رزقك لا يعطى لأحد سواك.

-  استعد .. إذا جاءك الموت لا تسأل الرجعة.

-  تعرف تقوى الرجل في ثلاثة: في أخذه، ومنعه، وكلامه.

-  الزاهد الذي يقيم زهده بفعله،

والمتزهد الذي يقيم زهده بلسانه !

-  من أراد أن يعرف معرفته بالله ..

فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس: بأيهما قلبه أوفق ؟!

-  تفسير التوبة: أن ترى جرأتك على الله، وترى حلم الله عليك.

-  إذا أردت أن تكون في راحة، فكل ما أصبت،

والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك.

-  جعل الله أهل طاعته أحياء في مماتهم ،

وأهل المعاصي أمواتا في حياتهم !


8- أبو يزيد البسطامي (ت 261)

-  لايعرف نفسه من صحبته شهوته.

-  عرفت الله بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله.

-  إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه،

فخلع عليهم الخلَع، فا شتغلوا بالخلع عنه ..

وأني لا أريد من الله إلا الله !

-  غلطت في ابتدائي في أربعة أشياء:

توهمت أنى أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبة

فلما انتهيت، رأيت ذكره سبق ذكري،

ومعرفته تقدمت معرفتي، ومحبته أقدم من محبتي،

وطلبه لي أولاً حتى طلبته.

-  العارف همه ما يأمله، والزاهد همه ما يأكله !


9- أبو سليمان الداراني (ت 215)

-  ليت قلبي في القلوب كثوبي في الثياب (وكانت ثيابه وسطا)

-  من صارع الدنيا صرعته.

-  من أراد واعظا بينا فلينظر إلى اختلاف الليل والنهار.

-  من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته.

-  لو أن محزوناً بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة.



10-حمدون القصار (ت 270)


-  إن استطعت ألا تغضب لشيء من الدنيا فافعل.

-  استعانة المخلوق بالمخلوق كاستعانة المسجون بالمسجون !

-  قعود المؤمن عن الكسب إلحاف في السؤال !

-  من شغله طلب الدنيا عن الآخرة ذل:

إما في الدنيا وإما في الآخرة !

-  كفايتك تساق إليك باليسر من غير تعب،

وإنما التعب في طلب الفضول !

-  تهاون بالدنيا، حتى لا يعظم في عينيك أهلها، ومَنْ يملكها.

-  جمال الفقير في تواضعه،

فإذا تكبر بفقره فقد أربي على الأغنياء في التكبر !

لا تفش على أحد ما تحبّ أن يكون مستورًا منك !



الصوفية أمام الموت



يقدم لنا الصوفية المسلمون موقفا فريدا أمام الموت. وكما أنهم اتخذوا من الحياة فرصة لتحقيق مواجيدهم واكتشافاتهم الروحية الخاصة، فقد استطاعوا أن يتجاوزا النظرة العامة، والمألوفة، للموت باعتباره نهاية الحياة لهذه الدنيا، وحرمانا من استمرارها – إلى أنه لحظة انتقال إلى الحياة الآخرة، التي ظلوا ينتظرونها بكل شوق، على أمل اللقاء بمولاهم، جل وعلا. بل إن الموت لديهم يتحول إلى انعتاق الروح من مكان ضيق هو الجسد ونزعاته، والنفس وأهوائها، والدنيا وزينتها .. إلى مكان أكثر اتساعا هو عالم النعيم الدائم، والخلود الأبدي.

لقد اعتبر الصوفية منذ البداية أنهم عابرون على هذه الدنيا عبورا سريعا. ولا نغلو إذا قلنا إنهم قد فضلوا الموت عليها، لأنهم يرون فيها عقبة تحول بينهم وبين القرب المنشود من الله تعالى، الذي نذروا أنفسهم له، وهاموا في حبه، وتشوقوا إلى لقائه .. ومن هنا فإن الموت لا يعتبر بالنسبة إلى الصوفية: نهاية الحياة الدنيا، بمقدار ما يعتبر بداية الحياة الآخرة.

ويفيض التراث الصوفي الذي تركه الصوفية المسلمون بطائفة من الأخبار المنقولة عنهم، عند حلول ساعة الموت بهم. وهي بالتأكيد ساعة عصيبة، اضطرب لها البعض، لكن الكثيرين منهم استقبلوها برباطة جأش، ورضا، وطمأنينة – ولا شك أن هذا الموقف يعتبر – في رأينا – أصدق محك على إخلاص الإنسان لمعتقداته، ولما عاش يؤمن به، ويدعو إليه.

وسوف نعتمد فيما يلي على الفصل الذي جمع فيه القشيري (ت 465 هـ) مواقف الصوفية أمام الموت، نظرا لأنه أكثر استيعابا وتنوعا، كما أنه يعتبر مصدرا استقي منه كل من جاء بعده نقلا أو اختصار([174]) .

يفصل القشيري أحوال الصوفية في لحظة الموت: فبعضهم تغلب عليه الهيبة، وبعضهم يغلب عليه الرجاء، ومنهم من كشف له في تلك الحالة ما أوجب له السكون، وجميل الثقة.

فمثلا عندما يسأل بشر الحافي – وهو في حالة الاحتضار – هل تحب الحياة ؟ يجيب قائلا: القدوم على الله، عز وجل، شديد ! لكن هذه هي الحالة الوحيدة التي يذكرها القشيري للتعبير عن الإحساس بالشدة، والمعاناة.

أما معظم الحالات الأخرى فيبدو منها شعور بالفرح، أو على الأقل، رباطة جأش باستقبال الموت على نحو هادئ متزن ..

فالجنيد، على سبيل المثال، يصمم على أن يختم القرآن (يكمل قراءته كله) ، وهو في حال النزع: حكي أبو محمد الجريري قال: كنت عند الجنيد في حال نزعه، وكان يوم جمعة، ويوم نيروز، وهو يقرأ القرآن، فختم، فقلت:     في هذه الحالة يا أبا القاسم ؟! فقال: ومن أولى مني بذلك، وها هو ذا تطوي صحيفتي ؟!

وفي مجال رباطة الجأش، يبدو تمسك الصوفية بآداب الشريعة وسننها. فقـد حكي عن حمدون القصار أنه أوصى أصحابه ألا يتركوه في حال الموت بين النساء – ومن الواضح أنه كان يخشى أن يولولن عليه، أو يفعلن شيئا يخالف السنة !

أما الشبلي، فلا يشغل باله، وهو في حال النزع، إلا درهم كان قد أخذه ظلما من شخص، ومع ذلك فقد كفّر عنه بألوف الدراهم، لكنه مع ذلك مضطرب. يروى عنه خادمه بكران الدينوري أنه قال له: على درهم مظلمة، وقد تصدقت عن صاحبه بألوف فما على قلبي شغل أعظم منه .. ثم قال: وضئني للصلاة، ففعلت، فنسيت تخليل لحيته (بالماء) وقد أمسك علي لسانه (يعني أنه كان قد فقد النطق !) فقبض على يدي وأدخلها في لحيته، ثم مات. فبكى جعفر وقال: ما تقولون في رجل، لم يفته حتى في آخر عمره أدب من آداب الشريعة ؟!

وبمناسبة المحافظة على السنة، وآداب الشريعة في ساعة الموت ما ورد عن أبي عثمان الحيري, عندما تغيرت حاله, ودنت ساعة وفاته, مزق ابنه أبو بكر قميصا, ففتح أبو عثمان عينيه, وقال: يا بني ! إن خلاف السنة في الظاهر من رياء الباطن.

وبالنسبة إلى شعور السعادة باستقبال الموت، فأمثلته متعددة: يروي القشيري أنه حين حضرت بلالا الوفاة، قالت امرأته: واحزناه ! فقال: بل واطرباه ! غدا نلقى الأحبه، محمد وحزبه !

وقيل: فتح عبد الله بن المبارك عينيه عند الوفاة، وضحك، وقال: )لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ(([175]).

وقيل: كان مكحول الشامي، الغالب عليه الحزن، فدخلوا عليه في مرض موته، وهو يضحك، فقيل له في ذلك، فقال: ولم لا أضحك ؟ وقد حان فراق من كنت أحذره، وسرعة القدوم على من كنت أرجوه وآمله([176]).

ويحكي الهروي أنه قال: وكنت عند الشبلي، الليلة التي مات فيها، فكان يقول طول ليله هذين البيتين:

كل بيت أنت ساكنه


غير محتاج إلى السرج

وجهك المأمول حجتنا


يوم يأتي الناس بالحج

ويفاجئ ابن سهل الأصفهاني أصحابه بقوله: أترون أني أموت كما يموت الناس: مرض وعيادة ! إنما أدعى، فيقال: يا علي ! فأجيب – فكان يمشي يوما، فقال: لبيك، ومات !

ولا نعدم بين الصوفية من سمع بيتا من الشعر، أثار في نفسه حالة وجدانية عالية ، أدت إلى الموت:

يقول القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري، أنه سمع هذا البيت:

لا زلت أنزل من ودادك منزلا


تتحير الألباب عند نزوله

فتواجد النوري، وهام في الصحراء، فوقع في أجمة قصب، وقد قطعت وبقي أصولها مثل السيوف، فكان يمشي عليها، ويعيد البيت إلى الغداة، والدم يسيل من رجليه، ثم وقع مثل السكران، فتورمت قدماه، ومات !

ويحكي أبو على الروذباري فيقول: دخلت مصر، فرأيت الناس مجتمعين، فقالوا: كنا في جنازة فتى، سمع قائلا يقول:

كبرت همة عبد


طمعت في أن تراكا

فشهق شهقة، ومات !

وأحيانا يكون الموت نتيجة خاطر داخلي ينقدح في نفس الصوفي، فيدفعه إلى أن يهيم على وجهه، وينتهي به الحال إلى الموت. قال الوجيهي: كان سبب موت ابن بنان: أنه ورد على قلبه شيء، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط متاهة بني اسرائيل في الرمل، ففتح عينيه وقال: "ارتع. فهذا مرتع الأحباب !" ، وخرجت روحه !

ولعل هذا السبب هو الذي جعل الجنيد لا يتعجب عندما سمع بموت أبي سعيد الخراز. قيل للجنيد: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجيب أن تطير روحه اشتياقا !

وينهي ذو النون المصري أصحابه عن أن يشغلوه، في حالة النزع، عما يشاهده من ألوان الجمال: قيل لذي النون المصري، عند النزع: أوصنا ! فقـال لا تشغلوني، فإني متعجب من محاسن لطفه !

أما الموضوع الذي يشترك فيه عدد كبير من الصوفية، فهو دهشتهم من حث أصحابهم لهم على ذكر الله، وهم في حالة النزع: فهم يرون أن من تدعوه لذكر الله هو الشخص الناسي، أو الغافل .. أما هم: فإن قلوبهم عامرة على الدوام بذكره، أو على حد تعبير واحد منهم: محترقة به !

قيل لبعضهم، هو في النزع: قل: الله ! فقال: إلى متى تقولون، وأنا محترق بالله تعالى !

وقيل لأبي محمد الدبيلي، وقد حضرته الوفاة: قل: لا إله إلا الله. فقال: هذا شيء قد عرفناه، وبه نفنى !

وقيل لأبي الحسين النوري نفس الشيء، فقال: أليس إليه أعود ؟! وقال أبو عبد الله بن خفيف: سمعت أبا الحسين المزين قال: لما مرض أبو يعقوب النهرجوري مرض وفاته، قلت له، وهو في النزع: قل: لا إله إلا الله !

فبتسم إلي، وقال: "إياي تعني ؟! وعزة من لا يذوق الموت، ما بيني وبينه إلا حجاب العزة" وانطفأ من ساعته.

فكان المزين يأخذ بلحيته، ويقول: حجام مثلي يلقن أولياء الله تعالـى الشهادة ؟! واخجلتاه منه !! وكان يبكي إذا ذكر هذه الحكاية.

وهناك حكايات مماثلة عن الجنيد، والشبلي، وممشاد الدينوري، وأحمد بن نصر([177]). ومن المؤكد أن أمثال هذه الحكايات تصدم من يسمعها لأول وهلة دون أن يكون على وعي بأحوال هؤلاء الصوفية، وما يهدفون إليه.

وعلى الرغم مما يعانيه الصوفي، طيلة حياته، من المكابدة والعناء التي تفوق قدرة المسلم العادي، فإنه يشعر في نهاية المطاف بالتقصير الشديد:

سئل أبو حفص، في حال وفاته: ما الذي تعظنا به ؟ فقال: لست أقوى على القول ! ثم رأى من نفسه قوة، فقال له الحيري: قل .. حتى أحكي عنك. فقال: الانكسار بكل القلب على التقصير !

أما طلب الموت، فنجد له عند القشيري مثالين: الأول يرويه أبو بكر الدقي، فيقول: كنا عند أبي بكر الزقاق بالغداة، فقال: "إلهي .. إلى كم تبقيني ها هنا ؟!" فما بلغ الغداة الأولى حتى مات !

ومن الواضح أن الدافع وراء هذا الموقف هو حب لقاء الله. الذي يبدو للصوفي أنه لن يكتمل إلا بالانعتاق التام من هذه الحياة الدنيا.

وأما الموقف الثاني، فيظهر من إجابة بعضهم على سؤال: أتحب  الموت ؟ فقال: القدوم على من يرجي خيره: خير من البقاء مع من لا يؤمن شره ! ولا شك أن هذا موقف عقلي ذو اتجاه عملي يقيس المسألة بحساب الربح والخسارة. وهو يذكرنا بـ (رهان بسكال).

هذا، وقد بلغ ببعض الصوفية تعلقهم الشديد باتجاه صوفي معين، مما جعلهم يتمنون تحقق أمنيتهم التي تعلقوا بها .. ولو قبل الموت بلحظة واحدة:

قيل لذي النون المصري، عند موته: ما تشتهي ؟ قال: أن أعرفه – يقصد الله تعالى ! – قبل موتي بلحظة ! ومن الواضح أن هذه الأمنية تلخص اتجاه هذا الصوفي الكبير، الذي كان "أبرز وأسبق صوفي، غلب عليه الكلام في المعرفة"([178]) وهو الاتجاه الذي جرى التوسع فيه، وتنظيره فيما بعد لدى كل من الغزالي، وابن عربي([179]).

فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى مستوى آخر، وهو مستوى الأدب الصوفي، وجدنا النفري (ت 354 هـ) يخصص في كتابه الفذ "المواقف والمخاطبات" موقفا للموت:

وفيه تنكشف للإنسان حقائق لم يكن يحسبها على هذا النحو الرهيب: فالأعمال كلها سيئات. والخوف غالب على الرجاء. والغنى يتلاشى تماما في النار، والفقر – الذي من الممكن أن يساعد الإنسان في تحسين موقفه أمام الله – يتحول إلى خصم، يقدم الحجج على التقصير. وكل شيء عاجز تماما عن أن يساعد شيئا آخر. والملك غرور. والملكوت خداع...

وما كان يحسبه الصوفي وسائل مقربة، وأحيانا غايات عزيزة كالعلم والمعرفة – امتنع تماما عن تقديم يد العون إليه، لعجزه الواضح عن ذلك. بل على العكس: كل شيء راح يسلم الإنسان، وكل مخلوق أخذ يتهرب منه، حتى عمله، لم يعد سوى سراب.

وعندئذ يشعر الإنسان بأنه وحيد تماما. وهنا تتدخل رحمة الله لتنقذه من هذه الوحدة، ولكن الأسئلة التقريرية والمعاتبة تتوالى من الجانب الإلهي إلى الإنسان عما أوصله إليه علمه وعمله ومعرفته .. ولا تكون الإجابة سوى مشاهدة النار !

وأخيرا يكشف له عن "معارفه الفردانية"، فتخمد النار. ويثبته بالولاية، وينطقه بالمعرفة، ويخرجه من مأساته الكبرى .. بدعوته إليه !

هذا هو عرض بسيط لموقف الموت لدى النفري. ولعل الفرصة هنا تؤاتينا لكي نوصي بضرورة "كتابة" مواقف النفري بالصورة التي نعرضها الآن.   فهي – بالإضافة إلى قيامها بدور هام في التبسيط والتقريب – تتمشى مع طبيعة الأسلوب الأدبي الذي تم وضع المواقف فيه. ولا شك أنه أسلوب شديد التركيز، وذو دلالات عميقة للغاية.




موقف الموت ([180])

أوقفني في الموت:

فرأيت الأعمال كلها سيئات،

ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء،

ورأيت الغنى قد صار نارا، ولحق بالنار،

ورأيت الفقر خصما يحتج،

ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء،

ورأيت الملك غرورا،

ورأيت الملكوت خداعا،

*  *

وناديت: يا علم ! فلم يجبني،

وناديت: يا معرفة ! فلم تجبني،

*  *

ورأيت كل شيء قد أسلمني،

ورأيت كل خليقة قد هرب مني،

وبقيت وحدي ..

وجاءني العمل، فرأيت فيه الوهم الخفي، والخفي الغابر

فما نفعني إلا رحمة ربي !

*   *

وقال لي: أين علمك ؟ فرأيت النار !

وقال لي: أين عملك ؟ فرأيت النار !

وقال لي: أين معرفتك ؟ فرأيت النار !

وكشف لي عن معارفه الفردانية .. فخمدت النار،

وقال لي: أنا وليك، فثبت

وقال لي: أنا معرفتك، فنطقت

وقال لي: أنا طالبك .. فخرجت !

وهكذا نرى أن الصوفية المسلمين – أمام الموت – قد عبروا بصراحة مدهشة عن أحوالهم. كما كشفوا في كثير من الأحيان عن جوانب من الصدق الحقيقي في تجربتهم، وهذا ما جعلنا نركز على هذا الموضوع باعتبار لحظة الموت من أهم اللحظات الفارقة، والتي لا تضلل أبدا في الكشف عن حقيقة المشاعر، وفضح خداع السلوك.

وبالإضافة إلى ذلك، كان لصوفية المسلمين في "موضوع الموت" أدبيات، ذات مستوى رفيع، عرضنا لنموذج واحد منها في مواقف النفري.

وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن صوفية المسلمين يتميزون بالفعل، في هذا المجال، عن غيرهم من العلماء، حتى الفلاسفة ذوي الاتجاه اليوناني. وتبقى المقارنة بينهم، وبين هؤلاء مجالا خصبا لدراسة مستقلة، نرجو أن يقوم بها في المستقبل أحد الباحثين.


*     *





نقد التصوف


تعرض التصوف منذ نشأته، وخلال مراحل تطوره المختلفة إلى نوعين رئيسين من النقد: الأول: نقد ذاتي صدر من الصوفية أنفسهم، واتجه في المقام الأول إلى تعديل مسار التصوف، وإصلاح الفساد الذي يطرأ عليه. ومنذ القرن الثالث الهجري وجدنا شيوخ الحلاج (309 هـ) وزملاءه ينتقدون شطحاته الموهمة. ورسالة القشيري (ت 465 هـ) ليست إلا محاولة لإصلاح التصوف، كما أن عمل الغزالي (ت 505 هـ) لم يكن في أساسه إلا محاولة لإرجاع التصوف إلى حظيرة الإسلام السني([181]) . فإذا وصلنا إلى محيى الدين بن عربي (ت 638 هـ) وجدناه يحمل حملة قوية للغاية على مظاهر الفساد التي طرأت على المتصوفة في بداية القرن السابع الهجري.

أما النوع الثاني من النقد، فهو الذي صدر من الفقهاء وعلماء الحديث بصفة خاصة، وهو الذي يعبر عن "وجهة النظر الأخرى" في موضوع التصوف ذاته. فقد رأى هؤلاء العلماء، المتمسكون بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية في التصوف خروجا أو انحرافا عن الشريعة بمفهومها الواضح الصريح.

وكان ابن تيمية (ت 728 هـ) أشهر من وقف في وجه مظاهر التصوف الخارجة عن الكتاب والسنة وسيرة السلف، كما ظهر ذلك في مذاهب الحلول والاتحاد، وأشكال الإباحة في السلوك، والغلو في أداء الشعائر. وقد انصب هجومه بصفة خاصة على الحلاج، الذي كان يرى فيه داعية من دعاة القرامطة، اتخذ التصوف ستارا لنشر آرائه السياسية الخاصة.

ومع ذلك، فإننا نجد قبل ابن تيمية، عالما حنبليا مثله، هو ابن الجوزي (ت 597 هـ)، يقف من التصوف موقفا هجوميا حادا، وهو يخصص الجزء الأكبر من كتابه " تلبيس إبليس"([182]) لنقد مظاهر الزهد الخادعة، وأشكال التصوف المنحرفـة. ولا شك في أن ابن تيمية نفسه قد أفاد منه.

والواقع أن نقد ابن الجوزي للتصوف والمتصوفة يتميز بحس تاريخي شامل، فهو يتناول نشأة الزهد، ثم انبثاق التصوف عنه، والمراحل التي مر بها التصوف، وأهم مظاهره الخارجية، محاولا بيان الأسباب التي عملت على تكوينها. وأخيرا فإن هذا النقد يتعرض لعدد كبير من الأسماء التي ورد ذكرها في الفصول السابقة. ومن هذا الجانب فإنه يعبر عن "وجهة النظر الأخرى" في الموضوع الذي نحن بصدده.

يرى ابن الجوزي أن "التصوف طريقة" كان ابتداؤها: الزهد الكلي، ثم ترخص المنتسبون إليها بالسماع والرقص، فمال إليها طلاب الآخرة من العوام، لما يظهرونه من التزهد. ومال إليها طلاب الدنيا، لما يرون عندهم من الراحة واللعب.

لذلك فإنه يقصد مباشرة إلى بيان زيف طريقة التصوف. "ولا ينكشف ذلك إلا بكشف أصل هذه الطريقة، وفروعها، وشرح أمورها".

وفي البداية يوضح ابن الجوزي أن زمن الرسول ، e ، وهو المرجع في القدوة، والمعول عليه في المحاكاة والاتباع، لم يكن يعرف سوى نسبة الشخص إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مؤمن ومسلم. ثم حدث اسم زاهد وعابد. ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد: فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقا تخلقوا بها.

ويفيض ابن الجوزي، بعد تحديد مراحل التصوف السابقة، في "أصل" كلمة تصوف، ومن أين جاءت الكلمة التي لم تظهر إلا قبل سنة مائتين للهجرة. وقد قدّم في هذا المجال خمسة تفسيرات:

1-نسبة إلى رجل في الجاهلية، كان يقال له (صوفة) واسمه: الغوث بن مر.

2-نسبة إلى (أهل الصفة) الذين كانوا يبيتون بمسجد الرسول e بالمدينة.

3-نسبة إلى (الصوفانة) وهي بقلة رعناء قصيرة تنبت في الصحراء.

4-نسبة إلى (صوفة القفا) وهي الشعرات النابتة في مؤخره.

5-نسبة إلى (الصوف)، وهذا يحتمل.

لكن ابن الجوزي يقرر – في اختصار – أن التفسير الصحيح هو الأول، أي نسبة التصوف إلى (صوفة) الذي اشتهر عنه – في الجاهلية – الانقطاع إلى الله، وخدمة الوافدين على الكعبة "وإجازة – أي إرشاد – الناس من عرفة إلى منى، ومن منى إلى مكة". ويقال إن "الإجازة" لم تزل في أبناء صوفة حتى أخذتها قبيلة عدوان، فلم تزل في عدوان حتى أخذتها قريش.

وعندما ظهر اسم التصوف، واللقب منه صوفي، قبل سنة مائتين للهجرة، راح أوائل القوم يتكلمون فيه، وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصلها أن التصوف عندهم: رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق، إلى غير ذلك من الخصال الحسنة، التي تكسب المدائح في الدنيا، والثواب في الأخرة .

وظهر بوضوح الطابع الأخلاقي على التصوف في تلك الفترة: يجيب الجنيد (ت 290 هـ) عندما سئل عن التصوف بأنه: "الخروج عن كل خلق ردي، والدخول في كل خلق سني" وإن كان صوفي آخر، معاصر للجنيد هو رويم (ت 303 هـ) يقول: "كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق" . ومن الواضح أن قول رويم يضيف إلى الطابع الخلقي للتصوف أمرا آخر جديدا هو: التفرقة بين ظاهر الشريعة وحقيقة مقاصدها، وبين رسومها الظاهرة وروحها الباطنة.

يقول ابن الجوزي: وعلى هذا كان أوائل القوم، فلبّس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضي قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبيسه عليهم، إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن..

وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل. فلما أطفأ مصباح العلم لديهم تخبطوا في الظلمات:

فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك: ترك الدنيا في الجملة، فرفضوا ما يصلح أبدانهم، وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح، وبالغوا في الحمل على النفوس، حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة، غير أنهم على غير الجادة.

وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة، وهو لا يدري.

ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات، وصنفوا في ذلك، مثل الحارث المحاسبي.

وجاء آخرون، فهذبوا مذهب التصوف، وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق، وتميزوا بإهمال النظافة والطهارة.

ثم مازال الأمر ينمي .. والأشياخ يضعون لهم أوضاعا، ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء، لا بل رؤيتهم ما هم فيه: أو في العلوم حتى سموه: العلم الباطن، وجعلوا علم الشريعة: العلم الظاهر.

ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة، فادعى عشق الحق، فكأنهم تخايلوا شخصا مستحسن الصورة، فهاموا به ! وهؤلاء بين الكفر والبدعة .

ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم. فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد. ومازال إبليس يخبط بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سننا.

وجاء أبو عبد الرحمن السلمي، فصنف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم، وإنما حملوا على مذاهبهم.

ويبدي ابن الجوزي دهشته من خوضهم في تفسير القرآن بآرائهم وخطراتهم مع تحريهم المتشدد في بعض الأمور الأخرى. يقول: والعجب من ورعهم في الطعام، وانبساطهم في القرآن !

أما عن السلمي، فإنه يروي بعض الأقوال التي تصفه بعدم الثقة، وبأنه كان يضع للصوفية الأحاديث !

ثم يقول: وصنف لهم أبو نصر السراج كتابا سماه "لمع الصوفية" ذكر فيه من الاعتقاد القبيح، والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة، إن شاء الله تعالى.

وصنف لهم أبو طالب المكي "قوت القلوب" فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل، من صلوات الأيام والليالي، وغير ذلك من الموضوع، وذكر فيه الاعتقاد الفاسد، وردد فيه قول "بعض المكاشفين"، وهذا كلام فارغ. وذكر فيه عن بعض الصوفية: أن الله، عز وجل، يتجلي في الدنيا لأوليائه.

ويذكر ابن الجوزي عن الخطيب أنه قال: وصنف أبو طالب المكي كتابا سماه "قوت القلوب" على لسان الصوفية، وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات.

لكنه يستمر بعد ذلك، فيقول: وجاء أبو نعيم الأصبهاني، فصنف لهم كتاب "الحلية". وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة، ولم يستح أن يذكر في الصوفية: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وسادات الصحابة t  فيه العجب، وذكر منهم شريحا القاضي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل. وكذلك ذكر السلمي في "طبقات الصوفية" الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، ومعروفا الكرخي، وجعلهم من الصوفية، بأن أشار إلى أنهم من الزهاد.

ويتوقف ابن الجوزي ليستخلص قائلا: فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد. ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد، وقد ذموا التصوف.

ثم يتابع قائلا: وصنف لهم عبد الكريم بن هوزان القشيري كتاب "الرسالة"، فذكر فيها العجائب من الكلام في: الفناء والبقاء، والقبض والبسط، والوقت والحال، والوجد والوجود، والجمع والتفرقة، والصحو والسكر، والذوق والشرب، والمحو والإثبات، والتجلي والمحاضرة والمكاشفة، واللوائح والطوالح واللوامع، والتكوين والتمكين، والشريعة والحقيقة .. إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء، وتفسيره أعجب منه.

وجاء محمد بن طاهر المقدسي، فصنف لهم صفوة التصوف، فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها ! وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، وصنف كتابا في جواز النظر إلى المرد (جمع: أمرد) أورد فيه حكاية عن يحيي بن معين قال: رأيت جارية بمصـر مليحة، صلى الله عليها، فقيل له: تصلي عليها ؟! فقال: صلى الله عليها، وعلى كل مليح ! – قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن    يحتج به.

وجاء أبو حامد الغزالي، فصنف لهم كتاب "الإحياء" على طريقة القوم، بالأحاديث الباطلة، وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم الكاشفة، وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم، صلوات الله عليه، أنوارا هي حجب الله، عز وجل، ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية.

وقال (الغزالي) في كتابه "المفصح بالأحوال": إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق !

ويرجع ابن الجوزي سبب إيراد هؤلاء المؤلفين لمثل هذه الأشياء إلى قلة علمهم بالسنة، والإسلام، والآثار، وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها ؛ لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد، وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة، ولا كلاما أرق من كلامهم. وفي سير السلف نوع (من الزهد) قد حسنوه.

ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد، لما ذكرنا من أنها طريقة، ظاهرها النظافة والتعبد، وفي ضمنها الراحة والسماع، والطباع تميل إليها.

وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء، فصاروا أصدقاء.

وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل، وإنما هى واقعات، تلقفها بعضهم عن بعض، ودونوها، وقد سموها بالعلم الباطن.

وقد سئل أحمد بن حنبل عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون.

وروينا عن أحمد بن حنبل أنه سمع الحارث المحاسبي، فقال لصاحب له: لا أرى أن تجالسهم.

وسئل أبو زرعة عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب .. هذه كتب بدع وضلالات. عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. وقيل له: في هذه الكتب عبرة ! قال: من لم يكن له في كتاب الله، عز وجل، عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمة صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء ؟! هؤلاء قوم – يقصد الصوفية – خالفوا أهل العلم، يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق. ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع !

ومن الملاحظ أن النقد هنا موجه إلى أن الصوفية قد استحدثوا علما لم يتحدث فيه السلف الصالح، وخاصة من الصحابة، والتابعين. ومن هنا جاء هجوم الفقهاء وعلماء الحديث على الصوفية، وتبعهم في ذلك عامة المسلمين، فتتبعوهم بالهجر، والنفي، والرمي بالزندقة مما كان يضطرهم إلى الهرب، والاختفاء أحيانا حتى الموت !

روى السلمي أن أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية: ذو النون المصري، فأنكر عليه ذلك: عبد الله بن الحكم، وكان حاكم مصر، وكان يذهب مذهب مالك، وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف، حتى رموه بالزندقة.

قال السلمي: وأخرج أبو سليمان الداراني من دمشق، وقالوا إنه يزعم أنه يرى الملائكة، وأنهم يكلمونه.

وشهد قوم على أحمد بن أبي الحواري: أنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة.

وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول، حتى أنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج، كما كان للنبي e معراج. فأخرجوه من بسطام.

وروي السلمي أن سهل بن عبد الله التستري كان يقول: إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه، وأنه يتكلم إليهم، فأنكر ذلك عليه العوام، حتى نسبوه إلى القبائح، فخرج إلى البصرة، فمات بها !

قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات !

وذكر أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" عن أحمد بن حنبل أنه قال: احذروا من الحارث أشد التحذير. الحارث أصل البلية – يعني في حوادث غلام جهم (المتعلقة بمسألة خلق القرآن) – ذلك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم, مازال مأوى أصحاب الكلام. الحارث بمنزلة الأسد المرابط: انظر أي يوم يثب على الناس !

لكن ابن الجوزي يعود ويعترف بأن أوائل الصوفية كانوا يقرون بأن التعويل على الكتاب والسنة. وإنما لبّس عليهم الشيطان لقلة علمهم. ثم يأتي بحشد كبير من الشواهد التي تبين تمسك سلف الصوفية بأصول الشريعة كما وردت في القرآن والسنة.

قال أبو سليمان الداراني: ربما تقع في نفسى النكتة من نكت القوم (يعني: الخاطر من خواطر الصوفية) فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة – وهذا يثبت أن الشريعة حاكمة على التصوف، ومعيار لسلامته.

وقال أبو يزيد البسطامي: "لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات ، حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا: كيف تجدونه عند النهي والأمر وحفظ الحدود" – وهذا يدل على أن التصوف إنما يقوم – قبل كل   شيء – على الالتزام الكامل بتعاليم الشريعة وأحكامها. وأبو يزيد أيضا هو الذي قال: "من ترك قراءة القرآن, والتقشف, ولزوم الجماعة، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وادعي بهذا الشأن – أي التصوف – فهو مبتدع" ومن الواضح أن حديثه هنا ينصب على آداب الشريعة، وضرورة التمسك بها.

والسري السقطي يقول: من ادعى باطن علم ينقض ظاهر حكم فهو غالط.

والجنيد هو القائل: مذهبنا هذا مقيد بالأصول: الكتاب والسنة. وله أيضا: علمنا منوط بالكتاب والسنة: من لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ولم يتفقه لا يقتدي به.

وعن أبي بكر السقاف: من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن – وهذا يعني بوضوح أن الشريعة هي مفتاح التصوف، أو الطريق المؤدي إليه.

وقال الحسين النوري لبعض أصحابه: من رأيته يدعي مع الله، عز وجل، حالة تخرجه عن حد علم الشرع، فلا تقربنه. ومن رأيته يدعي حالة لا يدل عليها دليل، ولا يشهد لها حفظ ظاهر، فاتهمه على دينه.

وعن أبي جعفر قال: من لم يزن أقواله وأفعاله وأحواله بالكتاب والسنة، ولم يتهم خاطره، فلا تعده في ديوان الرجال !

ويعقب ابن الجوزي على هذه الشواهد التي تؤكد التزام أوائل الصوفية بالكتاب والسنة، قائلا: وإذ قد ثبت هذا من أقوال شيوخهم، فإن كان ذلك صحيحا عنهم توجه الرد عليهم، إذ لا محاباة في الحق، وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هذا القول، وذلك المذهب من أي شخص صدر.

ثم يضيف: فأما المشبهون بالقوم، وليسوا منهم، فأغلاطهم كثيرة، ونحن نذكر بعض ما بلغنا من أغلاط القوم، والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط إلا تنزيه الشريعة، والغيرة عليها من الدخل. وما علينا من القائل والفاعل، وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم.

ومازال العلماء يبيّن كل واحد منهم غلط صاحبه قصدا لبيان الحق، لا لإظهار عيب الغالط، ولا اعتبار بقول جاهل يقول: كيف يرد على فلان الزاهد المتبرك به ؟! لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة، لا إلـى الأشخاص. وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة، وله غلطات، فلا تمنع منزلته بيان زللـه.

اعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص، ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ما جرى على يد المسيح، صلوات الله عليه، من الأمور الخارقة، ولم ينظر إليه، فادعى فيه الإلهية ! ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام لم يعطه إلا ما يستحقه.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يمدح الرجل، ويبالغ، ثم يذكر غلطه في الشيء، ويقول: نعم الرجل فلان .. لولا أن خلة فيه.

وقال عن سري السقطي: "الشيخ المعروف بطيب المطعم". ثم حكي له عنه أنه قال: "إن الله،عز وجل، لما خلق الحروف سجدت الباء "فقـال:" نفروا الناس عنه !"

وهكذا يختم ابن الجوزي نقده للتصوف بتقرير مبدأ منهجي هام، وهو أنه ينبغي ألا تقف شهرة شخص ما حائلا دون فحص آرائه،ونقضها إذا لزم الأمر. كما ينبغي ألا تمنعنا صحة رأي أحد العلماء في مسألة معينة من نقد آرائه الخاطئة في مسائل أخرى. وعلى أساس هذا المبدأ، فإن التصوف – في رأي ابن الجوزي – يشتمل على الغث والثمين، أو الصحيح والفاسد. وأنه من واجب علماء الشريعة أن ينهضوا للتمييز بينهما، وأن يكشفوا للناس جوانب الزيف حتى يحذروها.


*    *




ماذا نستفيد من التصوف فى العصر الحاضر ؟

هل يوجد فى التصوف الإسلامى ما يمكن أن نستفيده منه فى الوقت   الحاضر؟

والإجابة بكل تأكيد : نعم ، وسوف نفصل مجالات الإفادة من التصوف فيما  يلى :

أولاً : فى وقفه الإنسان مع نفسه لتقييم موقفه من الدنيا


الإنسان المعاصر فى غمرة السعى إلى توفير وسائل معاشه ، وتأمين إقرار مستقبله يكاد ينسى الغاية الحقيقية من وجوده 0 ومن المعلوم أن هذه الغاية تتعلق بصدق التوجه إلى الله تعالى بالعبادة ، وادخار العمل الصالح الذى ينفعه فى الآخرة 0 وبالطبع هنا معادلة صعبة : إذ كيف يندفع فى دروب الحياة المادية ليحصل لنفسه ولأسرته على ما يكفيها ويرضيها ، ثم يحقق فى الوقت نفسه هذا الجانب الروحى المتعلق بالآخرة ؟!

لا شك أن متطلبات الحياة الدنيا تكاد تستغرق جهود الإنسان فى السعى من أجل امتلاك المال ، وجمع الثروة ، وإشباع الشهوة ، إلى جانب تحقيق الجاه، والتمتع بنفوذ السلطة 00 وهو فى أثناء ذلك كله ، يصارع ويحارب ، فيدخل فى اشتباكات ويعقد تحالفات ، وقد ينجح مرة ، ويفشل مرات ، ثم     هو بعد ذلك كله يجد نفسه منهكا من الصراع ، وقد يصيبه المرض فيقع   طريح الفراش، ولا يكاد يتناول كوب الماء ليوصله إلى فمه إلا بمعونة   الآخرين !

قليل جدًا من الناس هم الذين يدركون - وهم فى غمرة هذا الصراع - أن مسئوليتهم تنقسم إلى قسمين ، أحدهما للدنيا والثانى للآخرة ، فيحاولون على قدر الطاقة المزاوجة بينهما ، وقد يتغلب جانب على جانب آخر ، ولكن الإنسان العامل هو الذى يسرع بإقامة التوازن بينهما ، فيجرى ويتوقف ، ويتعب ويستريح ، ويأخذ من الدنيا ما قدر له ويعطى الباقى للمحتاجين 00

أما الصوفية ، فقد قرروا لأنفسهم بالطبع موقفا ثالثا : فلم ينغمسوا فى الدنيا ، ولا حاولوا إحداث التوازن بين الدنيا والآخرة ، ولكنهم اختاروا طريق الآخرة وحده ، ومن ثم فقد كرسوا كل جهودهم على العمل من أجلها ، بل وتفرغوا تماما لها ، حتى أنهم تركوا الدنيا ومباهجها وملذاتها غير عابئين بها ، بل بلغ بهم الحال إلى وصفها أحيانا بـ (المزبلة) !

لا نطالب الناس جميعا بأن يحذوا حذو الصوفية ، وإنما أن يتبعوا الطريق الثانى ، المتوازن والمعتدل ، والذى يجمع بين جانبى الدنيا والآخرة ، لكن ما يمكن أن يستفيدوه من الصوفية أنهم حين يتعاملون مع الدنيا لا يستهلكون أنفسهم تماما فيها ، ولا يعتبرونها هى وحدها غاية الغايات ، بل إنها مجرد معبر إلى الآخرة ، وهى محدودة فى الزمان والمكان والأحوال 00 إن الصوفية يضربون لنا أروع الأمثال على قوة الإرادة أمام مغريات الدنيا المادية، والزائلة دائمًا ، وكذلك على بعد النظر عن الواقع الضيق الذى يحسبه كثير من الناس خطأ أنه مساحة واسعة بغير حدود !

ثانيًا : فى مجال التربية

يقدم الصوفية لنا منهجًا فى التربية ، يكاد يتجاوز أحدث ما وصلت إليه أساليب التربية الحديثة ، سواء فى الغرب أو الشرق ، من مستويات 0 وبالطبع يقوم هذا المنهج الصوفى على عدة أسس ، كما يتضمن عددًا من المراحل : وله أهداف محددة فى كل مرحلة ، ثم هدف نهائى لها جميعا 0

وقبل أن نشير إلى أهم معالم هذا المنهج ، تجدر الإشارة إلى شيوخ التصوف الذين كانوا يتولون الإشراف على تربية المريدين وبماذا كانوا يشعرون إزاء هذه التربية 0

يقول ممشاد الدينورى : إن عينى لتقر بالفقير الصادق ، وإن قلبى ليفرح بالمريد المتحقق !

وهذا معناه أن عملية التربية بالنسبة للشيخ أو الأستاذ لم تكن عملاً مفروضا أو وظيفة يتقاضى عنها الشيخ أجرًا ماديا من المريد ، وإنما كانت ناتجة عن حب حقيقى لإفادة المريد ، والأخذ بيده فى طريق التصوف     الشاق 00

وقد أوصى الصوفية بضرورة الشيخ للمريد 0 يقول أبو يزيد "من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان" !

وهذا الشيخ هو الذى يتابع صدق المريد فى توجهه نحو التصوف ، فالخداع أو النفاق أو الرياء مرفوض هنا تماما 0

ومن أهم ما يبدأ به المريد : تصحيح عقيدته مع الله تعالى ، ثم الخروج من المال ، والجاه ، وقطع علاقته تمامًا بأمور الدنيا 0

ومن واجب المريد نحو الشيخ أن يتأسى به فى جميع حركاته وسكناته ، وأن يحسن الظن به ، وألا يخفى عنه سرا حتى يتمكن الشيخ من تقويمه أولاً بأول ، كما ينبغى عليه أن يقصّ عليه أحلامه ، لكى يضع له المنهج الذى يخلصه من أضرارها 0

ويجب على الشيخ بعد أن يستوثق من صدق المريد أن يلقنه ذكرًا من الأذكار ، ويأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوى قلبه مع لسانه ثم يقول له : اثبت على استدامة هذا الذى كأنك مع ربك أبدًا بقلبك ، ولا يجرى على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك 0

كذلك يأمره أن يكون أبدًا فى الظاهر على طهارة ، ولا يكون نومه إلا غلبة (أى غير مقصود منه) وأن يقلل من غذائه على التدريج شيئا بعد شىء حتى يقوى على ذلك ، ولا يأمره أن يترك عادته التى نشأ عليها دفعة واحدة0

وعلى الشيخ ألا يسمح للمريد فى أول الطريق الصوفى بالأسفار ، فإنها تشتت الجهد ، والبال ، وإنما عليه أن يحثه على خدمة الفقراء ، ومساعدة كل من يحتاج إلى المساعدة من خلق الله 00 وهنا أمران محظوران تماما ، وهما : أخذ الهدايا من النساء ، ومصاحبة الفتيان ؛ لأنهما يفتحان على الصوفى باب الفساد !

وبالطبع ليس المطلوب من استعراض أهم معالم المنهج التربوى عند الصوفية أن نأخذه بالكامل ، وإنما الإفادة من بعض أساليبه مثل صدق الشيخ مع المريد ، وحرصه على إنجاح مسعاه ، والتعرف من حياته على كل كبيرة وصغيرة حتى يتمكن من حل مشكلاته على الفور ، وأخيرًا فإن العلاقة بين الشيخ والمريد ليست علاقة إجبار أو قهر ، وإنما هى مجرد صحبة ، يتعاون فيها الاثنان من أجل هدف محدد 0

ثالثا : تحقيق التوازن المعقول بين الجسد والروح

لو سألنا الناس جميعا فى عصرنا الحاضر : ما هو الهدف الأساسى من جهدهم الذى يبذلونه ، وأعمالهم التى يقومون بها ، وأغراضهم التى يتصارعون فيما بينهم من أجل الوصول إليها ؟ لوجدنا أن الإجابة تتمثل فى إشباع حاجات الجسد ، والدوران فى فلك المادة ، ولعلنا لا نكاد نعثر على واحد منهم يهتم بتلبية مطالب الروح ، وتطلعات القلب إلى علاقة صادقة وصافية مع         الله تعالى 0

ومن الواضح أن التصوف يقدم لنا صفحة جميلة تمتلئ بتجارب تلك الفئة التى فضلت الروح على الجسد ، وأدركت منذ البداية أن النفس البشرية ، بنوازعها وأهدافها ومتطلباتها التى لا تتوقف ، هى سبب البلاء ، ولذلك فإنهم حاولوا بحسم إخماد شهوتها ، وإيقاف رغبتها 0 قال أحد الصوفية :

اشتهت نفسى الشواء فحرمتها منه أربعين سنة ! ومثله ما قاله الآخر الذى اشتهت نفسه الماء البارد فحرمها منه نفس المدة !!

ومن جانبنا نؤكد مرة أخرى أن دعوة الإسلام تتضمن ضرورة الاهتمام بجانب الجسد وجانب الروح معا ، وهما فى الواقع جناحان ضروريان لكى يحلق بها الإنسان ، وبواحد منها فقط لا يستطيع الطيران!

رابعًا  التزود المستمر من الحكمة الصوفية :

لقد ترك لنا أعلام الصوفية المسلمين ثروة رائعة من الأقوال التى أصبحت تجرى مجرى الأمثال ، بل وصلت إلى مستوى الحكمة التى هى خلاصة تجربة عقلية وروحية ، تتميز بالصدق والأصالة ، ومن ذلك :

الفضيل بن عياض :





ذو النون المصرى :





بشر الحافى :






سرى السقطى :





الحارث المحاسبى :


شقيق البلخى :





أبو يزيد البسطامى:





أبو سليمان الدارانى:


حاتم الأصم :



أحمد بن أبى الحوارى:








أحمد بن خضرويه :



-إنى لا أعتقد إخاء الرجل فى الرضا ، ولكنى أعتقد إخاءه فى الغضب إذا أغضبته .

-أشتهى مرضا بلا عواد !

-ثلاثة خصال تقسّى القلب : كثرة الأكل ، وكثرة النوم ، وكثرة الكلام 0

-لم أر أجهل من طبيب يداوى سكران فى وقت سكره 0 لن يكون لسكره دواء حتى يفيق ، فيداوى بالتوبة 0

-الأنس بالله نور ساطع ، والأنس بالخلق غم واقع 0

-يا معشر المريدين : من أراد منكم الطريق فليلق العلماء بالجهل ، والزهاد بالرغبة ، وأهل المعرفة بالصمت !

-الصبر الجميل هو الذى لا شكوى فيه للناس !

-لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك ، وكيف يكون منك خير وأنت لا يأمنك صديقك ؟!

-الدعاء : ترك الذنوب !

-بحسبك أن أقواما موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وأن أقواما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم !

أقوى القوة غلبتك نفسك ، ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز ، ومن أطاع من فوقه أطاعه من دونه !

-أعرف طريقا مختصرًا إلى الجنة : لا تسأل أحدًا شيئا ، ولا تأخذ من أحد شيئا ، ولا يكن معك شىء تعطى منه   أحدًا !!

حسن الخلق : احتمال الأذى ، وقلة الغضب ، وبسط الوجه ، وطيب الكلام 0

-من لم يشكر الله على النعمة فقد استدعى زوالها !

-من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس : بأيهما قلبه أوثق ؟!

-إذا أردت أن تكون فى راحه : فكل ما أصبت ، والبس ما وجدت ، وارض بما قضى الله عليك 0

-إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه ، فخلع عليهم الخلع، فاشتغلوا بالخلع عنه 00 وإنى لا أريد من الله إلا   الله !

-قعدت يومًا فى محرابى ، فمددت رجلى ، فهتف بى   هاتف : من يجالس الملوك ينبغى أن يجالسهم بحسن الأدب !

من أراد واعظا بينا ، فلينظر إلى اختلاف الليل والنهار !!

-من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته 0

العجله من الشيطان إلا فى خمس : إطعام الطعام إذا حضر ضيف ، وتجهيز الميت إذا مات ، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب والتوبة من الذنب إذا أذنب 00

الدنيا مزبله ومجمع الكلاب 0 وأقل من الكلاب من عكف عليها ، فإن الكلب يأخذ منها حاجته وينصرف ، والمحب لها لا يزايلها (يتركها) بحال !!

-إنى لأقرأ القرآن ، فأنظر فى آية فيحار عقلى منها ، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ، ويسعهم أن يشتغلوا بشىء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن ؟ أما لو فهموا ما يتلون ، وعرفوا حقه ، وتلذذوا به ، واستحلوا المناجاه به لذهب عنهم النوم ، فرحًا بما رزقوا ووفقوا !!

الطريق واضح ، والحق لائح ، والداعى قد أسمع 00 فما التحير بعد هذا إلا من العمى !!

-قال له رجل أوصنى : فقال : أَمِتْ نفسك حتى تحييها !

يقول الشيخ أحمد الشرباصى فى تقديمه لكتاب طبقات الصوفية للسلمى (ط0 الشعب 1380هـ) :

فى زحمة الحياة ،  وصخب المادة ، والنفاق الناس عن نداء الروح ، وهتاف المثل العليا 00 يرتفع صوت ليتحدث عن أسلوب فى التربية والتهذيب الروحى ، قد أصلح فسادا ، وقوم اعوجاجا ، وخرج أبطالا 00 ذلك هو أسلوب التصوف الإسلامى الصحيح القويم ، البعيد عن تحريف المبطلين ، وتشويه المغرضين 0

وهذا الصوت يعلم أنه يدافع عن قضية مظلومة ، كثر أعداؤها وإن كثر فى الوقت نفسه أولياؤها وأصدقاؤها 0 وهو يقدم إلى أحباء التصوف لعله يكون شاهد صدق للصوفية ، يؤيد حقهم ، ويزكى قولهم 00 وإلى أعدائه أو الظانين به ظن السوء لعله يصحح لهم فهما خاطئا ، أو يقوم فى حكمهم اعوجاجا سببه الغرض أو المرض 0


*    *


قائمـة

بأهم المصادر والمراجع



أ-باللغة العربية :

  • إبراهيم بسيوني (د.)

- الإمام القشيري: سيرته وآثاره. مذهبه في التصوف.

المكتبة العصرية، بيروت 1972.

  • إخوان الصفا

- الرسائل (4ج)

ط . الزركلي – القاهرة 1928.

  • إقبال (محمد)

- تجديد التفكير الديني في الإسلام

ترجمة الأستاذ عباس محمود - القاهرة 1955.

  • بدوي (د. عبد الرحمن)

- شطحات الصوفية - الكويت 1975.

- تاريخ التصوف الإسلامي (منذ البداية حتى نهاية القرن الثاني الهجري). الكويت 1978.

  • بركة (د. عبد الفتاح)

- في التصوف والأخلاق: دراسات ونصوص دار العلم – بيروت 1983

- الحكيم الترمذي ونظريته في الولاية - جزآن . مجمع البحوث الإسلامية. القاهرة 1967 .

  • التفتازاني (د. أبو الوفا الغنيمي)

- ابن عطاء الله السكندري وتصوفه، مكتبة الأنجلو . ط. ثانية، القاهرة 1969.

- ابن سبعين وفلسفته الصوفية، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1973.

- مدخل إلى التصوف الإسلامي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1983.

- الطرق الصوفية في مصر، مجلة كلية الآداب، مج25 . ج2 ، 1968.

- الطريقة الأكبرية (نسبة إلى الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي) بحث منشور في الكتاب التذكاري عن ابن عربي، المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، القاهرة 1969.

  • توفيق الطويل (د.)

- التصوف في مصر إبان العصر العثماني، القاهرة 1946.

  • الجاحظ

- البخلاء، تحقيق د. طه الحاجري - القاهرة 1963.

- البيان والتبيين، تحقيق حسن السندوبي- القاهرة 1947.

  • ابن جبير

- الرحلة ، تحقيق د. حسين نصار- القاهرة 1955.

  • ابن الجوزي

- تلبيس إبليس ط. القاهرة 1340هـ

- صفة الصفوة ط. حيدر آباد الدكن، الهند 1355هـ

  • جولد تسيهر

- العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين. القاهرة 1946.

  • الجيلي (عبد الكريم ت 805هـ)

- الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، ط. القاهرة 1293هـ.

  • حامد طاهر (د.)

- الفلسفة الإسلامية ، مدخل وقضايا ، القاهرة 1991 .

- الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث ، نهضة مصر ، القاهرة 2005 .

- الأخرويات فى مذهب محيى الدين بن عربى . دراسات عربية وإسلامية (28) .

- المدينة الفاضلة بين الفارابي وأفلاطون القاهرة 1986.

  • ابن حزم

- الفصل في الملل والأهواء والنحل ط. القاهرة 1321هـ

  • الحكيم الترمذي

- ختم الأولياء 0 تحقيق د. عثمان يحيى - بيروت 1966.

- الفروق ومنع الترادف ، تحقيق د0


  • الرومي (جلال الدين)

- المثنوي (في جزئين) ترجمة د. محمد عبد السلام كفافي بيروت 1966، 1967.

  • أبو ريان (د. محمد علي)

- أصول الفلسفة الإشرافية، الأنجلو المصرية، القاهرة 1959.

  • الزبيدي (893هـ)

- طبقات الخواص من أهل الصدق والإخلاص ، المطبعة اليمنية، القاهرة 1321هـ.

  • زكي مبارك (د.)

- التصوف الإسلامي ، القاهرة 1938.

  • السبكي

- طبقات الشافعية الكبرى ، المطبعة الحسينية، القاهرة 1924

وقد حققها أخيرا د. عبد الفتاح الحلو . د. محمود الطناحي، الحلبى. القاهرة .

- معيد النعم ومبيد النقم ، تحقيق محمد على النجار وآخرين - مكتبة الخانجي بمصر، والمثني ببغداد – 1948.

  • السراج (أحمد بن الحسين)

- مصارع العشاق ط. القاهرة 1907.

  • السلمي

-طبقات الصوفية ،  تحقيق نور الدين شربية القاهرة 1953.

وكذلك نشرة المرحوم الشيخ أحمد الشرباصى ، ط. الشعب 1380هـ .

  • السهروردي (البغدادي)

- عوارف المعارف بهامش الإحياء – القاهرة 1334هـ

  • السهروردي (المقتول)

- هياكل النور ،

تحقيق د. محمد على أبو ريان القاهرة 1957.

  • شرف الدين (د. عبد العظيم)

- ابن قيم الجوزية: عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوف، ط. ثانية.

مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة 1967.



  • شرف (د. محمد جلال)

- سيكولوجية الحياة الروحية في المسيحية والإسلام، منشأة المعارف – الإسكندرية 1972.

  • الشعراني (ت 973هـ)

- اليواقيت والجواهر، ط. الحلبي (في جزئين) القاهرة 1959.

- الطبقات الكبرى، ط. صبيح، بدون تاريخ.

- لواقح الأنوار في طبقات الأخيار ط. بولاق – 1276هـ.

  • صبحي (د. أحمد محمد)

- الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي: العقليون والذوقيون، أو النظر والعمل .

دار المعارف . ط. ثانية . القاهرة 1983.

  • ابن عربي (محيى الدين)

- الفتوحات المكية ط. القاهرة 1293هـ

- فصوص الحكم تحقيق وشرح د. أبو العلا عفيفي ، دار احياء الكتب  العربية – القاهرة 1946.

- الرسائل (في جزئين) ط. حيدر آباد الدكن – الهند 1948.

- محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ط. القاهرة 1324هـ

- روح القدس في مناصحة النفس ، دراسة وتحقيق د0 حامد طاهر.

  • عزام (د. عبد الوهاب)

- التصوف وفريد الدين العطار ، القاهرة 1945.

  • عفيفي (د. أبو العلا)

- التصوف: الثورة الروحية في الإسلام. القاهرة 1963.

- الملامتية والصوفية وأهل الفتوة . القاهرة 1945.

  • الغزالي

- إحياء علوم الدين ، القاهرة 1334.

- المنقذ من الضلال ، تحقيق وتقديم د. عبد الحليم محمود القاهرة 1952.

  • الفيروزبادي (ت 817هـ)

- سفر السعادة ، المكتبة العصرية، بيروت 1982.


  • القشيري

- الرسالة ط. القاهرة هـ

  • الكاشاني (عبد الرزاق)

- اصطلاحات الصوفية ، تحقيق الويز شبرنجر، كلكتا، الهند 1845، ثم حققه د. عبد اللطيف العبد، القاهرة 1973،

وأخيرا د. محمد كمال جعفر، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 1981.

  • الكلاباذي

- التعرف لمذهب أهل التصوف ، تحقيق محمود النواوي مكتبة الكليات الأزهرية،     ط. ثانية القاهرة 1980.

وكان قد حققه في سنة 1960 كل من د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقي سرور.

  • ماسينيون

- سلمان الفارسي، والبواكير الروحية في الإسلام. ترجمة د. عبد الرحمن بدوي القاهرة 1946.

  • المحاسبي

- الرعاية لحقوق الله تحقيق د. عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور ط. القاهرة . بدون تاريخ.

  • محمد مصطفى حلمي (د.)

- ابن الفارض والحب الإلهي دار المعارف، ط. ثانية – القاهرة 1971.

- الحياة الروحية في الإسلام القاهرة 1945.

  • مصطفى عبد الرازق

- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ، مكتبة النهضة المصرية ط. ثانية – القاهرة 1966.

- تعليق على مادة (تصوف) التي كتبها ماسينون في دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية.

  • ابن المعمار

- الفتوة تحقيق د. مصطفى جواد وآخرين بغداد 1960.

  • المقدسي (محمد بن طاهر ت 507هـ)

- صفوة التصوف ، تحقيق أحمد الشرباصي القاهرة 1950.


  • المكي (أبو طالب)

- قوت القلوب (4ج) القاهرة 1933 تحقيق أ0د0 عبد الحميد مدكور ، أ0د0 عامر النجار ، القاهرة .

  • المقريزي

- الخطط والآثار ، القاهرة 1270هـ

  • المناوي

- الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية (في عشر طبقات، وهو يركز على صوفية اليمن خاصة) ط. في جزئين بالقاهرة 1938.

  • أبو نعيم (الأصبهاني)

- حلية الأولياء (10 أجزاء) مطبعة السعادة، القاهرة 1933-1938 .

  • النفري

- المواقف والمخاطبات تحقيق أربرى ط. ليدن 1935 – وقد نشرتها مصورة هيئة الكتاب مؤخرا بالقاهرة.

  • نيكلسون

- في التصوف الإسلامي وتاريخه ترجمة د. أبو العلا عفيفي القاهرة 1947.

- الصوفية في الإسلام، ترجمة نور الدين شربية القاهرة 1951.

ب-باللغة الأجنبية :

  • Anawati (G . C) et Gardet (L.)

-Mystique musulmane, vrin, 2e ed. , Paris 1968

  • Corbin (H.)

-En Islam iranien 4 Vol . Gallimard, Paris 1974

-L'imagination Creatrice dans le Coufisme d  Ibm Arabi, Paris 1958

-Introduction à Qeuvres metaphysiquesetet mustiques de  Suhrawardi d Alep,

Fondateur de la doctrine illuminative, Paris 1938

  • Gibb (H.)

- La structure de la pensée religieuse de l'Islam.

( trad. Fr. de l'Anglais ) Larosse, Paris 1950



  • Hamed Taher,

-La structure de l' Oeuvre de Tirmidhi, These de Doctorat d    Etat a la Sorbonn, Paris 1981.

  • Hurat (cl.),

-Les Saints des Derviches tourneurs, Paris, 1918

  • Laoust (H.)

-les schisms dans l Islam, Paris, 1965.

-La profession de foi d Ibn Batta, Damas, 1958.

  • Massignin (L.)

-Essai sur les Origines du hexique Technique de la Mystique musulmane, 2 e ed,

Paris 1954.

-La passion d al-Hosayn Ibn Mansour al- Hallaj, Martyr mystique de l'Islam. 4 Vol.

nouvelle éd. Gallimard, Paris 1975.

  • Mole (M.),

-les mustiques musulmans, Paris 1965.

  • Nwyia (P),

-Ibn Abbad de Ronda. Beyouth, 1961.

-Exégése Coranique et langue mystique. Beyrouth, 1970.

  • Yahia (o.)

-Histoier et Classification des oeuvres d Ibn Arabi 2 Vol. Damas 1964.

  • Encyclopedie de l Islam.

Nouvelle ed. (مواد متفرقة)


*      *



([1]) د. إبراهيم مدكور، في الفلسفة الإسلامية ج2 ، ص8 –  دار المعارف ، القاهرة 1983.

([2]) ترجع صلتي بالتصوف الإسلامي إلى أكثر من ربع قرن، وقد سجلت رسالتي في الماجستير سنة 1968 بدار العلوم وكان موضوعها "روح القدس في مناصحة النفس لابن عربي: تحقيق ودراسة" ، وعندما سافرت إلى فرنسا في بعثة حكومية سجلت رسالة الدكتوراه بجامعة السوربون بعنوان: La stnucture logique de l'oeuvre de tirmidhi : "البناء المنطقي لأعمال الحكيم الترمذي". وقد أجيزت سنة 1981 وأعترف بأنني خلال هذه الفترة لم انقطع عن القراءة في التصوف، واكتشاف الجديد فيه كلما قرأت !

([3]) المقصود بذلك هو د. عمر فروخ، في كتابه: التصوف في الإسلام ص9، 10 . بيروت 1981. وانظر مناقشة المرحوم د. أبو الوفا التفتازاني لمسألة كون التصوف ظاهرة مرضية، في كتابه: المدخل إلى التصوف الإسلامي، ص10، 11- ط ثالثة – دار الثقافة – القاهرة 1983.

([4])                   L. Gardet, L lslam, religigon et communaute, p. 408 paeis 1970 .

([5]) انظر فى هذا الصدد الكتاب الموسوعى الممتاز (المستشرقون) لنجيب العقيقى (3 أجزاء ط0 دار المعارف 64-1965) الذى يرصد حركة الاستشراق منذ بدايتها حتى الوقت الحاضر ، ويذكر بالتفصيبل أهم أعلامها 0

([6]) للأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازانى بحث جيد فى هذا الصدد بعنوان "الطرق الصوفية فى مصر" حوليات كلية الآداب م25 ، ح2 ، سنة 1968 0

([7]) اللمع ، ص 40 ، 41 0

([8]) اللمع ، ص42 0

([9]) هذا يخالف ما ذهب إليه المستشرق الانجليزى نيكلسون وتابعه عدد من الدارسين العرب من أن مصطلحى صوفى وتصوف لم يظهرا قبل سنة 200 من الهجرة !

([10]) اللمع ، ص42 ، 43 0 ويلاحظ أن جميع الدارسين قد تجاهلوا هذا الخبر من احتمالات أصل كلمة تصوف ، فى حين أنهم حاولوا الصعود به إلى الكلمة اليونانية ثيوصوفيا أى محبة الحكمة !!

([11]) يلاحظ أن جماعة من فلاسفة الاسماعيله  أطلقوا على أنفسهم فى القرن الرابع الهجرى اسم : اخوان الصفا ، وانتشرت رسائلهم ، متضمنه دعوتهم ، بين اعداد كبيرة من الناس، وكان من الممكن أن ينسب أتباعهم إلى (التصوف) لو كان الأمر يجرى على مصدر (الصفاء) ، ولكن ذلك لم يحدث 0

([12]) في كتابه الشهير "تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة" .

([13]) لا توجد فى التصوف الإسلامى كله فكرة التناسخ المذكورة .

([14]) باب كان .. وهي من الشمائل الشريفة – ص240-259 ط دار القلم – القاهرة 1966.

([15]) أورد الأستاذ عمر فروخ ثمانية مصادر للكلمة، وناقشها، ومال في النهاية إلى أنها ترجع إلى لبس الصوف. وإن كان قد ذكر ما يلي: "وأنكر ابن خلدون اشتقاق الاسم من الصوف ضرورة وجارى القشيري في ذلك، لأن المتصوفة لم يختصوا بلبس الصوف دون غيرهم، ثم إنه عقب على ذلك بقوله: والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف. وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف" ص22- 25 من كتابه: التصوف في الإسلام. ولا نملك أن نعجب من هذا التناقض الواضح في فهم نص ابن خلدون، على الرغم من وضوحه.

([16]) نلفت النظر هنا إلى دقة ابن خلدون في استخدام معظم مصطلحات التصوف في أثناء حديثه عن نشأة التصوف والتعريف به، وتفسير أحواله. ومن الممكن بالاعتماد على هذه المصطلحات تكوين قاموس أساسي مصغر يساعد كثيرا على فهم لغة التصوف الإسلامي.

([17]) من المرجح هنا أن هذه النزعة العلمية الواضحة في تفسير ابن خلدون لظاهرة الإدراكات الصوفية هي التي أثارت إعجاب المفكر الهندي محمد إقبال (ت 1938م) فصرح بأن ابن خلدون قد تناول عناصر التصوف بروح نقادة، وأوشك أن يصل إلى النظرة الحديثة عن العقل فيما وراء الشعور. انظر كتابه: تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، ص25.

([18]) والإشارة هنا إلى حقيقة أجمع عليها الصوفية، وهي أن طريقتهم إنما تعتمد على الالتزام بالشريعة في أصولها العامة وتطبيقاتها العملية. وأنهم يقومون بما وجب عليهم، وينفردون عن عامة المسلمين بفهم خاص، ومدارك معينة. انظر: الفصل الخاص بمفهوم الشعائر عند الصوفية.

([19]) يحسم ابن خلدون هنا التفرقة بين مجال العلوم التي تستخدم الأدلة العقلية لبيان صحة الآراء من فسادها، ومجال العلوم القائمة على التجربة الفردية التي لا يطبق فيها إلا قانون الذوق والمشاهدة. وقديما قال الصوفية: "من ذاق عرف".

([20]) يبدو أن ابن خلدون يقصد بهذا: كتاب "منازل السائرين" الذي لاقى من علماء التصوف اللاحقين اهتماما كبيرا، فتابعوه بعدد كبير من "الشروح".

([21]) وهذا هو الموضوع الذي كرس الباحث العراقي د. كامل مصطفي الشيبي معظم جهوده له. فألف فيه كتابين الأول تحت عنوان: العناصر الشيعية في التصوف، والثاني بعنوان: العناصر الصوفية في التشيع.

([22]) ما ينبغي التركيز عليه في حديث ابن خلدون أنه يشير إلى أن التأثير كان متبادلا بين الصوفية والشيعة. وهذا يعني أنه لم يكن في اتجاه واحد دائما: أي من الشيعة إلى الصوفية.

([23]) لا شك في أن موقف ابن خلدون العام من الصوفية موقف متعاطف. ومع ذلك فإنه يتميز بدرجة كبيرة من الموضوعية، حيث لا يتردد في الإنكار عليهم إذا ظهر ما يدعو لذلك.

([24]) انظر مقال محمد الطالبي، Talibi عن "ابن خلدون" في دائرة المعارف الإسلامية – الطبعة الجديدة بالفرنسية.

([25]) انظر: د. أبو العلا عفيفي: "التصوف: الثورة الروحية في الإسلام" حيث يعتبر القرن الثالث هو العصر الذهبي للتصوف الإسلامي – ط . دار المعارف، القاهرة 1963.

([26]) انظر ك نيكلسون: "التصوف الإسلامي وتاريخه" ترجمة د. أبو العلا عفيفي، ط. القاهرة 1965، وكذلك: "الصوفية في الإسلام" ترجمة الأستاذ نور الدين شربية – القاهرة 1956.

([27]) انظر ابن خلدون: المقدمة – الفصل 18 من الباب السادس – ط. الشعب، القاهرة 1967، وكذلك: ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص161 ،169، ط. القاهرة 1965.

([28]) فضلنا أن نطلق مصطلح (التصوف العملي) بدلا من (التصوف السني) نظرا لما تشتمل عليه هذه المرحلة من بعض الاتجاهات التي اعتبرت خارجة عن المفاهيم الإسلامية المتعارف عليها . ومنها على سبيل المثال اتجاه الحلاج.

([29]) انظر كتابة الأساسي: هياكل النور، ودراسة د. أبو ريان عن فلسفته بعنوان: أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي ط. الانجلو المصرية 1959.

([30]) انظر كتابه المركز: فصوص الحكم، بتعليقات د. أبو العلا عفيفي. ط. بيروت 1966.

([31]) انظر د. أبو الوفا التفتازاني، الطرق الصوفية في مصر، بحث منشور بحوليات كلية الآداب بجامعة القاهرة، م25 ، ج2 ، 1986م.

([32]) الفصل السابع وعشرون – ج 2 ، ص 5 . تحقيق أ. د. عبد الحميد مدكور، والدكتور عامر النجار – هيئة الكتاب - القاهرة 2007 .

(1) وهو عنوان كتابه الرائع الذي حققه الدكتور عبد الحليم محمود – دار الكتب الحديثة – القاهرة 1975 .

(2) السابق ، ص 13 – 15 .

([35]) صححها ونقحها محمد زهري النجار، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة 1968.

(1) اللمع ، ص 28 ، بتحقيق د. عبد الحليم محمود (بالاشتراك) ، القاهرة 1960 .

(1)  السابق ، نفس الصفحة .

([38]) السابق ، نفس الصفحة .

([39]) يعتبر مبدأ "ترك ما لا يعني" من أهم المبادئ التي التزم بها كبار الصوفية المسلمين. ولعل هذا كان مثار هجوم عليهم، من قبل بعض الباحثين المحدثين. انظر: د. عمر فروخ، التصوف في الإسلام، صـ9، 1 ط  بيروت 1981 .

([40]) من الطبيعي أن يلجأ الصوفية المسلمون كثيرا إلى الآيات والأحاديث التي تؤيد مبادئهم، ومنها هذا الحديث في هذا الموضع بالذات، ولكن النظرة الموضوعية الشاملة تبين أن قوى الإنسان متوازنة، وأنه بمحض اختياره يمكنه أن يرجح إحداها على الأخريات .

([41]) سورة الزمر ، الآية3 .

([42]) الواقع أن الصوفية قد استخدموا في أحاديثهم بعض الأحاديث النبوية الضعيفة، وكمية الأحاديث التي استدركها الحافظ العراقي على الغزالي في (الإحياء) شاهد علي ذلك. ولكنهم يرون أن هذه الأحاديث إنما تتعلق بالأخلاق والآداب، وليس المطلوب فيها الصحة المطلقة، كما هي الحال في الأحاديث المتعلقة بالعقائد والعبادات.

([43]) سورة القلم ،آية 4 .

([44]) سورة الأنفال ، الآية 2 .

([45]) اللمع ، ص 29 ، 30 .

([46]) الإشارة هنا إلى ما أطلقنا عليه في فصل (مراحل التصوف الإسلامي) مصطلح (التصوف العملي) أي الذي يقوم على ممارسة الأحوال والمقامات ، ومقاومة الأهواء النفسية والنوازع .. وقد فضلناه على مصطلح (التصوف السني) نظرا لاحتوائه على بعض الاتجاهات التي لا تتمشى تماما مع السنة .

([47]) اللمع ، ص 32 .

([48]) السابق ، ص 33 .

([49])  انظر د. محمد كمال جعفر، التصوف: طريقا وتجربة ومذهبا، القاهرة 1970 .

([50]) انظر د. أبو الوفا التفتازاني: مدخل إلى التصوف الإسلامي، صـ10 من المقدمات حيث يناقش هذه المسألة تحت عنوان: هل حالات التصوف سوية ؟

([51]) عوارف المعارف، على هامش الإحياء . ط . الحلبي ، القاهرة .

([52]) اصطلاحات الصوفية . تحقيق المرحوم د. محمد كمال جعفر – الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1981 .

([53])  سورة يوسف ، آية 53.

([54])  سورة القيامة ، آية 2.

([55])  سورة الفجر ، الآيات 27-30 .

([56])  الرعاية لحقوق الله ، ص 73 .

([57])  منبعا الدين والأخلاق ، ص 230 .

([58]) انظر في هذا المقام كلا من الحكيم الترمذي في كتابه (الرياضة وأدب النفس) وكذلك كتابه (الفروق) ، وأيضا الحارث المحاسبي في كتابه الرائع (الرعاية لحقوق الله).

([59]) رابليه كاتب فرنسي (1494-1533) وهو ذو نزعة إنسانية. وجارجنتيا هو اسم بطل كوميديا ذات طابع مأساوى (المترجم).

([60]) فيلسوف لاتيني ولد في قرطبة سنة 4 قبل الميلاد، ومات محكوما عليه بالإعدام من نيرون في روما سنة 65 ميلادية. درس الفلسفة على الرواقين، وتميز بنزعة إنسانية وأخلاقية واضحة، ولديه قدرة بالغة في نقد طبائع معاصريه وأخلاقهم. وقد أثر في كثير من الفلاسفة ورجال الكنيسة، والأخلاقيين المسيحيين (المترجم).

([61]) سورة المؤمنون ، آية 1، 2 .

([62]) سورة الحديد ، آية 16 .

([63]) سورة إبراهيم ، آية 22 .

([64]) سورة ص ، آية 46 .

([65]) سورة الإسراء ، آية 57 .

([66]) سورة الكهف ، آية 110 .

([67]) سورة العنكبوت ، آية 36 .

([68]) سورة يونس ، آية 15 .

([69]) سورة النساء ، آية 3 .

([70]) يشير إلى قوله تعالى: )لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ( [سورة الكهف ، الآية2]

([71]) سورة البقرة ، آية 222 .

([72]) سورة غافر ، آية 3 .

([73]) سورة النساء ، آية 16  ،  وسورة النور ، آية 10 .

([74]) سورة التوبة ، آية 118 .

(1) كشف المحجوب ج 2 ، ص 542 .

([76]) السابق ، ص 33 .

([77]) كشف المحجوب ج2 ص 543 ، 544 .

([78]) كشف المحجوب ج 2 ص 545 .

([79]) نفس المرجع ص 546 .

([80]) كشف المحجوب ج2 ص545 .

([81])  السابق : 2/545 ، اللمع ص 208 .

([82])  كشف المحجوب ج 2 ص 564 .

([83])  كشف المحجوب ج 2 ص 565 .

([84]) السابق : 2/566 .

([85]) السابق : 2/567 .

([86]) السابق : نفس الصفحة .

([87]) كشف المحجوب ج 2/557 .

([88]) المصدر السابق 2/558 ، اللمع ص 21 .

([89]) كشف المحجوب 2/557 .

([90]) السابق نفس الصفحة .

([91])  السابق 2/559 .

([92]) كشف المحجوب : 2/572 .

([93]) المصدر السابق : 2/573 .

([94]) المصدر السابق نفس الصفحة .

([95]) الغزالي في المنقذ من الضلال، وابن عربي في الفتوحات.

([96]) انظر كتاب: هياكل النور للسهروردى .

([97]) د. أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام . ص189. وانظر كتابه الذي ترجم مؤخراً إلى العربية.

([98]) كتاب الإنسان الكامل ، ج2 ، ص71، 72.

([99]) الفرق بين الحزب والورد، أن الورد يقرأ في أوقات منتظمة بالليل أو بالنهار، أما الحزب فليس لقراءته وقت محدد.

([100]) انظر : د. عامر النجار، الطرق الصوفية في مصر- دار المعارف ، القاهرة 1992.

([101]) من ذلك إقامة مخيمات الغناء والرقص بجوار أضرحة الأولياء والمشايخ، والاختلاط غير المنضبط أحيانا، والذي يؤدى إلى الفتنة, وانتشار باعة الطعام الملوث، وافتراش الأرصفة للنوم عليها...

([102]) حققها كل من د. أبو العلا عفيفي سنة 1945 ثم الزميل الفاضل د. عبد الفتاح الفاوي سنة 1985 بعنوان: أصول الملامتية وغلطات الصوفية.

([103]) أشار ابن الجوزي إلى أن القوال قد يكون امرأة، وتسمى قوالة، وهي غالباً جارية، ذات صوت حسن –تلبيس إبليس، ص242.

([104]) الطوسي في اللمع 338-385، والقشيري في الرسالة 166-173، والغزالي في الإحياء 2/236-268، والسهروردي في عوارف المعارف -  الأبواب من 22-26.

([105]) ابن عربي: حياته ومذهبه، ص173، 174.

([106]) عن أحمد بن مقاتل أن ذا النون المصري دخل بغداد، فاجتمع إليه قوم من الصوفية، ومعهم قوال، فاستأذنوه في أن يقول شيئاً، فأذن له ... الخ القصة كما وردت في السابق ص362، ورسالة القشيري، ص170.

([107]) الآية 42، من سورة المائدة.

([108]) لطائف المنن ص103، 104، وانظر اللمع للطوسي حين سئل إبراهيم المارستاني عن الحركة في السماع، وتخريق الثياب، فقال: بلغني أن موسى u قص في بني إسرائيل، فمزق واحد منهم قميصه، فأوصى الله إلى موسى، قل له: مزق لي قلبك، ولا تمزق قميصك" !

([109]) زروق قواعد التصوف، ص81.

([110]) الإشارات والتنبيهات 2/820-827 تحقيق د. سليمان دنيا. ط دار المعارف.

([111]) مجموعة الرسائل لابن تيمية 2/312، وتلبيس إبليس لابن الجوزي 230.

([112]) الحوادث والبدع (مخطوط) لأبي بكر الطرطوشي – نقلاً عن: ابن عربي حياته ومذهبه ص180، وهامش الصفحة.

([113]) ابن الفارض، ص38.

([114]) نفس المصدر، ص25، ويمكن الاستشهاد بالقصة التالية لبيان نموذج سماع شيوخ      ابن عربي بالأندلس "يقول ابن عربي:" وماشيت عبد الله بن الأستاذ (الموروري) وكان من السادة عند باب الفتح، من باب أشبيلية، فسمع بائع خس من العامة، وهو ينادي عليه: الخس رطب أبيض، فتأوه، وأخذته حالة من ذلك، وكان قوياً، فقال لي: يا أخي، أما تسمع ما يقول البائع: الخاص من عباد الله، لسانه رطب من ذكر الله، وقلبه أبيض من نور الله". محاضرة الأبرار 1/364.

([115]) روح القدس، ص239، وخلاصة رأي ابن عربي في الشعر أنه نفث الشيطان، إلا ما تعلق منه بتوحيد الله، أو بمعنى أدق، بوحدة الوجود، فهو محمود من محاميد النفس خاصة، روح القدس، ص238، وانظر أيضاً: محاضرة الأبرار 2/40، 41.

([116]) روح القدس، ص212.

([117]) نفس المصدر، ص236.

([118]) التدبيرات الإلهية 237، 238، ومحاضرة الأبرار 1/349، حيث يفسر قول الصوفية (وهو منسوب في اللمع للجنيد ص246) أن شروط السماع ثلاثة، إذا كملت فلا مانع: الزمان، والمكان، والإخوان. بقوله: "ويعنون بالزمان السلطان إذا قال به، ودعا إليه، وطاب الوقت لأصحاب القلوب، وانبسطت النفوس".

([119]) روح القدس، ص204، 241.

([120]) نفس المصدر، ص240.

([121]) انظر نهاية النص في ص24 من روح القدس.

([122]) روح القدس، ص231، 232.

([123]) روح القدس، ص233.

([124]) الفتوحات، 1/210.

([125]) نفس المصدر، 2/368.

([126]) انظر أمثلة من سماع ابن عربي على أبيات الشريف الرضي، وقيس المجنون في محاضرة الأبرار 1/197، 198، وعلى أبيات مهيار الديلمي 1/281، وعلى أشعار مختلفة في 2/351، 363، 364. هذا، ويمكن اعتبار كتابة "ذخائر الأعلاق" كله، الذي شرح فيه ديوانه الغزلي "ترجمان الأشواق" مثالاً تطبيقياً لهذا المنهج.

([127]) انظر العقيدة الطحاوية (فصل المعجزة والكرامة) .

([128]) انظر دراستنا لكتاب روح القدس . ص 85 – 87 .

([129]) الطبقات الكبرى 1/137 .

([130]) السابق 1/138 .

([131]) السابق 1/139 ، 140 .

([132]) السابق 1/151 .

([133]) انظر: مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده، حيث يورد فكرة مركزة عن علم السيمياء، ويلاحظ أن لفظ سيمياء عبراني معرب 1/279.

([134]) مقدمة ابن خلدون، بتحقيق د. على عبد الواحد وافي 4/151.

([135]) الفتوحات 1/191، وهو يقض السحرة، والذين يستخدمون السيمياء لإحداث التأثيرات المختلفة في عالم الطبيعة.

([136]) الفتوحات 1/168.

([137]) نفس المصدر، 2/396.

([138]) يقول ابن عربي في الفتوحات (السفر الأول فقرة رقم 396) "والحضرة الإنسانية كالحضرة الإلهية. لا .. بل هي عينها".

([139]) الفتوحات 1/168.

([140]) الفتوحات، السفر الأول المحقق. الفقرة رقم 640.

([141]) المصدر السابق الفقرات 640، 641، 642.

([142]) وهو يذكر في موضع آخر أن من الحروف: عامة وخاصة، وخاصة الخاصة، وخلاصة، وصفاء الخلاصة، وعين صفاء الخلاصة . انظر السفر الأول من الفتوحات الفقرات الآتية على الترتيب (674، 675، 676، 678،680).

([143]) الفتوحات السفر الأول، نهاية الفقرة رقم 640.

([144]) الفتوحات 1/105.

([145]) عددها 155 سؤالاً. وقد ذكرها ابن عربي في المجلد الثاني من الفتوحات، وأجاب عنها واحداً واحداً.

([146]) الفتوحات 2/123، 391.

([147]) نفس المصدر 2/440.

([148]) انظر فكرة وجود الحروف عن الأفلاك، في الفتوحات 1/84.

([149]) الفتوحات 2/449.

([150]) نفس المصدر، 2/385.

([151]) الفتوحات 2/395، 396، وهذا قائم على اعتبار الهاء آخر حروف الحلق، وبذلك فإنه يمر على جميع المخارج، فأما الواو فيخرج من الشفتين، وهما أول المخارج.

([152]) الفتوحات 2/396.

([153]) الفتوحات 1/90 ويقول ابن عربي في موضع آخر (2/123): "فعن الحروف اللفظية يوجد عالم الأرواح. وعن الحروف الرقمية يوجد عالم الحس، وعن الحروف الفكرية يوجد عالم العقل في الخيال". هذا ويلاحظ أن ابن عربي قد ذكر في فهرسه أنه ألف كتاباً بعنوان "السر المكشوف في المدخل إلى العمل بالحروف" انظر ابن عربي، ص55.

([154]) الفتوحات 2/448.

([155]) المصدر السابق 1/190.

([156]) المصدر السابق 1/190، 191.

([157]) وهو يفرق كذلك بين من يفعل بالهمة، من الصوفية وغيرهم، فيقول: "ومن خالط العزابية ورأى ما هم عليه من عدم التوفيق، مع كونهم يقتلون بالهمة، ويعزلون ويتحكمون لقوة هممهم، وأيضاً لما في العالم من خواص الأسماء التي تكون عنها الآثار التكوينيات عند من يكون عنده علم ذلك، مع كون ذلك الشخص مشركاً بالله"      الفتوحات 2/385.

([158]) الفتوحات 1/191.

([159]) نفس المصدر 3/43، وانظر: الخيال في مذهب محيي الدين ابن عربي للمرحوم الدكتور محمود قاسم ص13 ط معهد الدراسات العربية 1969.

([160]) الفتوحات 2/300، 401.

([161]) الفتوحات 2/300.

([162]) المصدر السابق 2/401.

([163]) المصدر السابق. السفر الأول المحقق، الفقرة رقم 688.

([164]) الفتوحات 2/470.

([165]) المفردات تشمل: الأسماء والأفعال والأدوات.

([166]) المصطلحات تكون عادة من الأسماء (المفردة مثل الحال، والمقام، والمضافة مثل سر السر، وصفاء الصفاء) وهي التي اصطلح الصوفية على معانيها، فلا تحتاج منهم أن يشرحوها لبعضهم، وإنما الذي جرى هو تفسيرها لمن يرغب في معرفتها. وأهم المؤلفات التي خصصت لها كتاب (اصطلاحات الصوفية للكاشاني ت ..) .

([167]) مثل الطوسي في اللمع، والقشيري في الرسالة، والسهروردى في عوارف المعارف ...

([168]) من طبقات الصوفية للسلمي (ت 412).

([169]) من كتاب الرعاية لحقوق الله ، للمحاسبى (ت 243هـ) .

([170]) من كتاب المواقف للنفّرى ( ت 354هـ ) .

([171]) من كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي (ت 386) ج2 ،      ص2/ 15. تحقيق أ0د0 عبد الحميد مدكور ، أ0د0 عامر النجار.

([172]) من مقدمة الغزالى (505) لكتابه الضخم : إحياء علوم الدين .

([173]) قمت باختيارها من عشرة أعلام فقط من (طبقات الصوفية) للسلمي ت 412 هـ .

([174]) الرسالة القشيرية، ط الحلبي 1959. والموضوع فيها تحت عنوان "باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا" ، الصفحات 150- 154 .

([175]) سورة الصافات ، الآية 61 .

([176]) ومع ذلك، يبدو أن الزهاد والأوائل كانوا يستحبون أن يجهد الميت عند النزع. روي عن إبراهيم النخعي (ت 95 هـ) أن الزهاد "كانوا يستحبون للمريض أن يجهد عند الموت" انظر صفة الصفوة للمقدسي جـ3 ، ص 48 .

([177]) انظر الرسالة القشيرية ، ص 151 ، 153 ، 154 .

([178]) مدخل إلى التصوف الإسلامي ، للمرحوم د. أبو الوفا التفتازانى ، وانظر كذلك فيه ص 102 ، 103 .

([179]) السابق ، ص 103 .

([180]) المواقف والمخاطبات للنفري ، بتحقيق آربري ، تقديم وتعليق د. عبد القادر محمود . الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1985 .

([181]) بالنسبة إلى النقد الذاتي انظر : مدخل إلى التصوف الإسلامي للمرحوم د. أبو الوفا التفتازاني – الفصل الخامس ص 145 حيث يتناول فيه هذا الاتجاه الإصلاحي لدى كل من القشيري والهروي والغزالي .

([182]) طبع هذا الكتاب مرات عديدة في القاهرة. ويطلق عليه بعض الناشرين عنوانا آخر هو "نقد العلم والعلماء" ، ولكن موضوعه أعم من هذه التسمية . والطبعة التي اعتمدنا عليها في هذه الدراسة هي الصادرة فى سنة 1340 هـ .

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الجمعة, 01 نوفمبر 2019 14:47