الافكار الرئيسية فى الفلسفة الاسلامية |
كتبها د . حامد طاهر |
الأحد, 09 مايو 2010 23:33 |
فى عهد المأمون (198-218هـ) الذى كان مشجعا لحركة العلوم والآداب ، تمّ إنشاء (بيت الحكمة) وهو مؤسسة ثقافية ، ذات طابع عالمى ، كان يجرى فيها ترجمة المختارات من مختلف لغات العالم إلى اللغة العربية. وفى هذه المؤسسة توافر عدد من المترجمين الأوائل على نقل كنوز التراث اليونانى فى الفلك والرياضيات والطب والفلسفة . وكان (المنطق) بصفة خاصة الذى اعتبره اليونان مدخلاً للفلسفة هو أهم ما حاز إعجاب المسلمين ، فأقبلوا عليه بالدرس والشرح والتلخيص ، بل إنهم راحوا يستخدمونه فى جدلهم الدينى، وعلومهم اللغوية والدينية(2) . وقد أتاح هذا التنوع الدينى والثقافى من ناحية ، والوقوف على عناصر الفلسفة اليونانية من ناحية أخرى – الفرصة لأصحاب الميول الفلسفية من المسلمين لكى يمارسوا التفكير الفلسفى الخالص ، بل ويعبروا عنه فى جو مشجع من القبول والحرية ، خاصة وأن الأرض كانت ممهدة من قبل بوجود طائفة المتكلمين ، الذين كانوا قد بدأوا مهمتهم بالدفاع العقلى عن الإسلام ضد خصومه ، ثم انكفأوا بعد ذلك يتجادلون فيما بينهم حول أصول العقيدة ، وأدق تفصيلاتها (3) . وكان الكندى (ت 252) هو أول فيلسوف إسلامى من أصل عربى خالص ، يهتم بالفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة ، أى بالموضوعات التى سبق أن تناولتها الفلسفة اليونانية القديمة ، وتطور بعضها على يد الأفلاطونية المحدثة ، التى ظهرت فى الإسكندرية على يد أفلاطين (ت 269م) ممتزجة بعناصر شرقية ، ومتخذه اتجاها روحيا وزهديا(4) ، وسوف نجد من بين أهم المسائل الفلسفية التى بحثها الكندى : مسألة النفس ، ومسألة العقل (المعرفة)، وقضايا الميتافيزيقا . فى مسألة النفس ، التى سبق أن درسها كل من أفلاطون وأرسطو ، ولكل منهما رأى يخالف صاحبه ، اختار الكندى رأى أفلاطون ، القائل بأن النفس مفارقة للبدن ، وأنها خالدة بعد موته ، أما فى أثناء الحياة ، فهناك ثلاثة أنواع من النفوس : -الشهوانية ، الباحثة عن الطعام والجنس . -الغضبية ، المتطلعة للتملك والغلبة . -العاقلة ، الأقرب إلى مستوى الروح ، والأبعد عن طبيعة البدن . أما أرسطو ، فقد ذهب إلى أن النفس مرتبطة بالبدن ارتباطاً عضويا ، توجد بوجوده وتفنى بوفاته . ويمكن أن نقول باختصار إن بحث النفس لدى الكندى يمثل البحث عن حقيقة الإنسان ، تمهيدًا لتحديد دوره فى هذه الحياة ، واستعداده لما بعدها(5) . أما مسألة العقل عند الكندى ، فقد كان الهدف من بحثها هو الوقوف على طبيعة المعرفة الإنسانية . والسؤال هنا : -هل يدرك الإنسان المعقولات بعقله ، الموجود فى بدنه ، والذى هو جزء من النفس (كما هو مذهب أرسطو) ، أم بقوة أخرى خارجة عنه ، وأعلى منه (كما يذهب إلى ذلك شراح الأفلاطونية المحدثة) ؟ هنا خلط كبير . وقد ذهب الكندى إلى أن العقول أربعة : -العقل الأول . -العقل بالقوة . -العقل الذى خرج من القوة إلى الفعل . -العقل الظاهر من النفس . وسوف يتابعه فى هذا التقسيم كل الفلاسفة المسلمين الذين جاءوا بعده ، وأهمهم : الفارابى وابن سينا ، لكن المصطلحات عندهما سوف تصبح أكثر بلورة وتحديدا . فهى عند الفارابى : -العقل الفعال . -العقل بالقوة . -العقل بالفعل . -العقل المستفاد . وعند ابن سينا : -العقل الفعال . -العقل الهيولانى . -العقل بالملكة . -العقل المستفاد(6) . وعلى أى الأحوال ، فقد مهد الحديث عن العقل الفعال (الذى هو خارج النفس تماما) إلى القول بالمعرفة الإشرافية ، أو الفيض المعرفى الذى يهبط على الانسان نتيجة تصفية نفسه ، وليس بالبحث الحسّى أو العقلى فى شئون الكون . وهى الفكرة التى سوف تتسرب إلى كثير من مفكرى الإسلام ، وبصفة خاصة فلاسفة الصوفية من أمثال السهروردى وابن عربى . وفى مجال الميتافيزيقا ، التى سماها الكندى (علم ما فوق الطبيعة) أو (علم الربوبية) الذى يقابل عن المتكلمين : علم التوحيد ، سوف يحدد تعريف الفلسفة بأنها : علم الأشياء بحقائقها . وأشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى ، أعنى علم الحق الأول ، وهو علة كل حق(7) . والحق الأول عند الكندى هو البارى سبحانه ، الذى هو عند المتكلمين : الله تعالى . وهنا يتطرق الكندى إلى العلاقة بين الفلسفة والدين ، باعتبار كل منهما بحثا وطلبًا للحق . وهما عنده يتفقان فى الموضوع والغاية ، وحتى المنهج . وبهذا الشكل يكون الكندى أول مَنْ فتح باب البحث فى إحدى أهم مسائل الفلسفة الإسلامية ، وهى علاقتها بالدين أو الوحى أو الشريعة ، التى شغلت كل مَنْ جاء بعده من الفلاسفة (الفارابى ، وابن سينا ، وإخوان الصفا ، وابن طفيل حتى حسمها أخيرا ابن رشد) . وسوف يبحث الكندى موضوع الجوهر والأعراض . ومن المهم أنه يزيد على المفهوم الذى حدده أرسطو للجوهر بخاصتين اثنتين هما الهيولى والصورة – ثلاثة مفاهيم أخرى ، هى المكان والزمان والحركة . وهى الخصائص الخمسة التى يمكن مقارنتها بما أسفرت عنه علوم الطبيعة فى العصر الحديث . لكن أهم مسألة ركز عليها الكندى فى ميتافيزيقاه هى مفهوم الألوهية ومحاولة تجريده من كل الصفات التى قد تؤدى إلى اختلاطه بالكثرة أو التعدد . وقد اقتصر على وصف الله تعالى بأنه : الأول والواحد والحق والمبدع ، مستدلاً على كل هذه الصفات بالمنهج الرياضى أو العلمى الطبيعى ، ومتفقا فى ذلك كله مع ما قرره السلف من فهم صحيح للصفات الإلهية كما وردت فى القرآن الكريم(8) . ثم بعد الكندى ، يبرز الفارابى (ت 339هـ) الذى يؤكد د إبراهيم مدكور أنه "أول من صاغ الفلسفة الإسلامية فى ثوبها الكامل ، ووضع أصولها ومبادئها" بعد أن كانت نظرات متفرقة ومتعلقة بموضوعات مختلفة عند سلفه الكندى . أما العمود الفقرى لفلسفة الفاربى فإنه يتمثل فى نظرية السعادة التى تعنى ترقى العقل البشرى فى مستويات متدرجه حتى (يتصل) بالعقل الفعال العاشر ، الموكل بالسماء الدنيا والعالم الأرضى ، ويصبح بالتالى أهلاً لتقبل الأنوار الإلهية . وتلك هى السعادة العقلية التى ما بعدها سعادة للإنسان . وقد اهتم الفارابى كثيرا بفكرة السعادة ، فخصها بكتابين هما : تحصيل السعادة ، والتنبيه على السعادة(9) . وفى مجال تدعيم الدين بالأدلة والبراهين العقلية ، كان الفارابى أول فيلسوف يضع نظرية فى النبوة ، تقوم على دعائم من علم النفس ، وما وراء الطبيعة ، وتتصل اتصالاً وثيقا بالسياسة والأخلاق . وإذا كان مفكرو الأديان عموما يجحدون إمكانية اتصال السماء بالأرض ، أو الله بالإنسان عن طريق الوحى ، فإن الفارابى من خلال عرضه لتلك النظرية يثبت صحة النبوة ، ويعدّها وسيلة من وسائل الاتصال بين علم الأرض وعالم السماء ، بل إنه يرى فوق ذلك أن النبى لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية(1) . وفى المجال السياسى الخالص ، سوف يقدم الفارابى للعالم الإسلامى فكرته عن آراء أهل المدينة الفاضلة ، محاكيا ومعارضا فى نفس الوقت الفيلسوف اليونانى الكبير أفلاطون ، فى كتابه الشهير : الجمهورية . يرى الفارابى أن الاجتماع ضرورى للإنسان الفرد . وأقل أنواعه اجتماع أهل البيت الواحد ، ثم أهل السكه (الشارع أو الحارة) ثم أهل المحلة (الحى) ثم أهل القرية. أما الاجتماعات الكبرى فتبدأ بالمدينة ، ثم بالأمة ، ثم بالإنسانية كلها . وهذا التصور كما نلاحظ مخالف لتصور أفلاطون الذى حصر الاجتماع الأمثل فى المدينة وحدها . أما أفضل أنواع الاجتماع الإنسانى فهو الذى يحقق السعادة من خلال تعاون الأفراد على الأشياء التى توصل إليها . وهذه الوسائل ينبغى أن تكون فاضلة لكى يكون الاجتماع أفضل . وقد ترك لنا الفارابى بالاضافة إلى كتاب (أراء أهل المدينة الفاضلة) كتابين آخرين يكملان نظريته السياسية ، وهما (كتاب الملّة) و(رسالة السياسة) (11) . وفى مناهج البحث ، سوف يضع الفارابى نظرية متكاملة فى تصنيف العلوم ، كان من الممكن أن تصبح استراتيجية علمية وتعليمية لو تم الأخذ بها فى صورتها التى عرضها فى كتابه (إحصاء العلوم) . يقسم الفارابى العلوم التى ينبغى أن يشتغل بها المتعلمون إلى ثمانية أقسام كبرى ، تندرج تحتها بالطبع تفصيلات أخرى كثيرة ، وهى : 1-علم اللسان (ويشمل علوم اللغة ، والكتابة ، وتصحيح القراءة والأداء) . 2-علم المنطق (التصور والتصديق والقياس ، ويبين الأدلة البرهانية ، والجدلية والخطابية .. الخ) . 3-علم التعاليم (ويشمل الحساب والهندسة وعلم المناظر والنجوم والموسيقى والأثقال والميكانيكا) . 4-علم الطبيعة (مبادئ الأجسام ، والكون والفساد ، وخصائص المعادن والنبات والحيوان) . 5-العلم الإلهى (الميتافيزيقا فى الفلسفة القديمة ، والإلهيات فى علم التوحيد الإسلامى) . 6-العلم المدنى (ويشمل علم الأخلاق والسلوك ، وعلم السياسة) . 7-علم الفقه (ويشمل على الأحكام الفرعية ، وعلم أصول الفقه) . 8-علم الكلام (وهو أنواع ، وأفضلها الدفاع عن العقيدة الإسلامية ، وأسوأها الخلاف والجدل) .
وقد سبق لنا فى دراسة تحليلية الكشف عن أهمية الترتيب فى تقديم هذه العلوم للمتعلم فى شكل هرمى يبدأ من علوم اللغة ويصعد إلى قمته فى العلم الإلهى ، ثم ينتهى هبوطاً حتى علم الكلام(12) . وبعد الفارابى ، سوف يظهر ابن سينا (ت 428) أكبر وأشهر فلاسفة المشرق ، والذائع الصيت فى أوربا بسبب كتابه الرائع فى الطب (القانون) الذى ظل يدرس فى جامعاتها حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادى . يعترف ابن سينا بأستاذية الفارابى ، ويأخذ عنه مجمل أرائه ، لكنه يجيد عرضها بأسلوب عربى مشرق . وتحتوى مؤلفاته على خلاصة مركزة واضحة للموسوعة الفلسفية اليونانية انظر : (كتابه الضخم الشفاء) بعد أن تمت على يديه تنقيتها ، وتوضيح الكثير من مشكلاتها . ويكفى أن نستعرض مؤلفات ابن سينا المنطقية (وهى شروح وتلخيصات لمنطق أرسطو) لنجد كيف سهل مصطلحاته ، وحدد أقسامه ، وقدم له الأمثلة التوضيحية التى جعلته يستقر فى منظومة التعليم الإسلامى ، ويمتزج بمختلف العلوم (13) . أما أبرز نظريات ابن سينا الفلسفية فهى التى دارت حول النفس وخلودها . وقد ظلت براهينه الثلاثة (الانفصال – البساطة - المشابهة) مصدر إلهام لكل الفلاسفة المسلمين ، وكذلك المسيحيين ، الذين استعانوا بها لإقناع المخالفين على أن النفس خالدة بعد فناء البدن(14) ، وبذلك تتفق الفلسفة الإسلامية مع الدين فى اثبات البعث ، وما يتلوه من جزاء يحتوى على الثواب أو العقاب . وهذا هو مستند قيام النظام الأخلاقى فى الحياة الدنيا(15) . لكن فلسفة الأخلاق بمعناها المحدد ، سوف يتميز فيها أحد معاصرى ابن سينا ، وهو مسكويه (ت 421) الذى وضع كتابه الشهير (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) محاولاً فيه أن يؤصّل نظرية متكاملة للأخلاق الإسلامية ، وإن كان قد استمد الكثير من أصولها وعناصرها الفرعية مما كتبه أرسطو فى كتابه (الأخلاق)(16) . لكن اهتمام المسلمين بالأخلاق لم يبدأ فقط مع مسكويه ، بل سبقه واستمر بعده من خلال الاستمرار المباشر من القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وسيرة السلف الصالح . وسوف نجد بعد ذلك لدى الغزالى (ت55هـ) فى كتابه الشهير احياء علوم الدين) مادة أخلاقية ثرية ومتنوعة ، وتتميز بطابعها الإسلامى الغالب ، الأمر الذى جعلها تصبح زادًا يستمد منه الدعاة ، لصياغة خطابهم الأخلاقى الذى يوجهونه للمسلمين حتى عصرنا الحاضر . ولا يمكن أن نغادر المشرق العربى دون الإشارة إلى كل من إخوان الصفا ، والماوردى . أما إخوان الصفا (القرن الرابع الهجرى) فهم فلاسفة الإسماعيلية الذين انتشرت رسائلهم فى مختلف الطبقات ، حتى أحدثوا ما يشبه الثورة الثقافية فى المجتمعات الإسلامية ، محاولة تبسيط الفلسفة إلى أكبر حد ممكن لكى يفهمها العامة أو رجل الشارع بتعبيرنا الحاضر . وقد أتيح لنا أن ندرس فكرة التطور لديهم ، وهى التى ترتب كائنات العالم الطبيعى وما فوق الطبيعى من النشأة حتى زمانهم : فمن الأركان أو العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) تكونت المولدات الثلاثة (المعادن والنبات والحيوان) . وهم يقررون أن آخر المعادن متصل بأول النبات، وآخر النبات متصل بأول الحيوان ، وآخر الحيوان متصل بأول عالم الإنسان ، وآخر الإنسان متصل بأول رتبة الملائكة ، فهل يعنى ذلك أن هناك تواصلا فى الحلقات بين الموجودات ، كما سوف يذهب إلى ذلك فيما بعد كل من لامارك ، وداروين ؟!(17) وأما الماوردى (ت 45هـ) فيمكن أن نعده بكل اطمئنان صاحب نظرية سياسية ذات طابع إسلامى غالب . وهو يتناول فى مؤلفاته العديدة نظرية الإمامة أو الخلافة ، ويحدد واجبات الإمام الدينية والدنيوية ، وماذا يحدث إذا قصّر فى أدائها؟ كما يعرض لنظام الحكم من وزارة وإمارة وولاية ، ويفصل سلطات الدولة كالقضاء ، وولاية المظالم ، وولاية الصدقات . ونلتقى لديه بألوان من الفقه الدستورى ، والقانون الإدارى ، والقانون الدولى إلى جانب أصول وضع الموازنة المالية للدولة(18) . فإذا انتقلنا إلى الأندلس والمغرب ، وجدنا أن الفلسفة الإسلامية قد شهدت تطورًا نوعيا لدى ثلاثة من أكبر فلاسفتها وهم ابن باجه ، وابن طفيل ، وابن رشد. لدى ابن باجه (ت 533) تقوم فلسفته على محاولة تمييز الإنسان الحقيقى أو المتوحد عن سائر المخلوقات من ناحية ، وعن سائر معظم بنى جنسه من ناحية أخرى . الإنسان على الحقيقة عند ابن باجه هو العاقل الذى يظل يتدرج فى مستويات المعرفة حتى يصير العاقل والمعقول عنده شيئا واحدا. وهو يفرق بين الإنسان البهيمى الذى يقوده هواه ، وتسيطر عليه انفعالاته ، والإنسان الذى يفكر تفكيرًا نظريا ، وأخيرًا الإنسان الفائق الفطرة الذى يتحقق لديه العقل فى أكمل صوره (العقل الذى يصنع نفسه بنفسه) فيشبه العقول المفارقة التى تحدث عنها كل من الفارابى وابن سينا(19) . عند ابن باجه ، توحد نظريته لتدرج الكائنات فى الطبيعة ، وبناء على ذلك فإن الاجتماع البشرى إذا تم بين أفراد مستوى أدنى فإنه لن يحقق السعادة المرجوة للبشر ، لأنه سيكون حينئذ أشبه باجتماع قطيع من الحيوانات (مجتمع العبيد) التى تأكل وتتناسل ثم تهرم وتموت . أما المجتمع المثالى فهو الذى يضم الأفراد الكاملين بالعقل (مجتمع الأحرار) الذين يحسنون استخدام عقولهم لتحريك أبدانهم ، وليس العكس ! وهنا تبرز لدى ابن باجه فكرة الإنسان الكامل أو المتوحد ، الذى جعله عنوانًا لواحد من أهم كتبه (تدبير المتوحد) . ومما يؤسف له أن المسلمين لم يتنبهوا حتى الآن إلى قيمة أفكار ابن باجه ، ولعل مقارنتها بأفكار فيلسوف عالمى مثل اسبينوزا تلقى عليها الأهمية التى تستحقها فى تاريخ الفكر الإنسانى(2) . أما ابن طفيل (ت 581) فهو صاحب القصة الفلسفية الشهيرة (حى بن يقظان) التى ترجمت إلى أكثر من عشر لغات عالمية ، واختلف الدارسون المحدثون حول مغزاها الحقيقى ، تبعا لفهم كل منهم(21) . وهى تصور إنسانًا نشأ فى جزيرة منعزلة تمامًا عن البشر ، ولبيان كيفية وجوده ، يقدم ابن طفيل أحد هذين الفرضين : إما أنه نشأ نشأة طبيعية تبعًا لمبدأ التطور ، أو لأنه كان ولدًا غير شرعى لابنة أحد الملوك ، فتخلصت أمه منه خوفًا من غضب أبيها ، ووضعته فى صندوق ، وألقته فى البحر ، الذى قذفه إلى تلك الجزيرة المهجورة ، حتى صادف ظبية قامت على إرضاعه ورعايته إلى أن كبر .. ثم تتوالى أحداث القصة المشوقة ، فتساير حى بن يقظان فى معرفة أساليب الحفاظ على حياته وسط الغابة ، وكيفية الحصول على طعامه ، واكتشاف مظاهر الطبيعة من حوله ، ثم انتقاله بعد سن العشرين إلى البحث فيما وراء الطبيعة : من الذى أوجد هذه الطبيعة ؟ ومن بعث فيها الحياة والحركة ؟ حتى أداه ذلك إلى الإيمان بوجود خالق لهذا الكون ، ولذلك راح يستغرق فى تأمله ، ويستشعر اللذة العليا التى لا يمكن وصفها بألفاظ اللغة البشرية . وأخيرًا يصل شخص (أبسال) إلى الجزيرة ، وهو ممن اطلع على الشرائع المنزلة ، فيقوم بتعليم حى بن يقظام اللغة ، ويعرض عليه ما ورد فى تلك الشرائع ، فيجد أن كل ما حدثه عنه قد اكتشفه بنفسه ، بل انه يندهش من أنه الناس لا يدركون (مرامى) الشريعة التى وصل هو بنفسه إليها ، ويرغب إلى أبسال فى اصطحابه لهداية الناس ، لكنهم لا يدركون جميعا دعوته ، فيوقن أن أسلوب التأمل والزهد لا ينفع جميع الناس ، ويقرر العودة إلى جزيرته ، وهنا يختار أبسال أن يصحبه ، متخذًا منه شيخا له : يعنى أن تابع الشريعة قد أصبح تلميذا لشيخ الحقيقة ! وأما الفيلسوف العقلى بامتياز ، ابن رشد (ت 595هـ) ، الذى أنكره العرب ، وتلقف آراءه مفكرو أوربا ، ممهدين بها لعصر النهضة ، فهو الذى يعد بحق آخر كبار الفلاسفة المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية . وبالطبع نلتقى عنده بفكرة العلاقة بين الفلسفة والدين ، أو بين الحكمة والشريعة فى كتابه الرائع (فصل المقال ، فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)(22) وهى الفكرة التى تناولها من قبله فلاسفة المسلمين ، ولكنهم لم يحسموها بنفس الأسلوب والمنهج اللذين حسمها بهما . لكن ابن رشد يقوم بعمل هام فى كتابه (مناهج الأدلة فى عقائد الملة)(23) عندما استعرض مدارس علم الكلام وحلل مقولاتها ، ثم قام بنقدها على أساس فكرة محورية لديه ، وهى التفرقة بين عالم الغيب (الذى هو محجوب عن العقل الإنسانى ولا ينبغى تصوره إلا من خلال الشرع) وبين عالم الشهادة (الذى تدركه عقولنا ، ويقع فى متناول حواسنا) ، وأنه بسبب خلط المتكلمين بين هذين العالمين المتميزين وقعوا فى مشكلات كثيرة ، ظلوا يتجادلون حولها دون أن يتمكنوا من الوصول إلى حلول نهائية . وأخيرا فإن ابن رشد يبرز لنا ثلاثة مناهج للخطاب الدينى ، مستمدة فى أساسها من القرآن الكريم ، ومتمشية فى نفس الوقت مع قواعد المنطق الأرسطى . وهى خطاب العامة بمنهج بالدليل الخطابى (الموعظة الحسنة) ، ثم خطاب أنصاف المثقفين بالدليل الجدلى (وجادلهم بالتى هى أحسن) وأخيرًا خطاب المفكرين والفلاسفة بالدليل للبرهانى وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالدعوة بالحكمة(24) . ومعاصرًا لابن رشد ، وبعده بقليل ، سوف يخرج ابن عربى (ت 638هـ) من الأندلس ، مارًا بالمغرب فمصر ، فالحجاز ، ثم الشام والعراق حتى قونية ، ويتميز بفلسفته الصوفية التى تدور كلها حول مذهب وحدة الوجود وهذا المذهب يقرر أن الوجود بأسره عبارة عن حقيقة واحدة ، وليس فيها ثنائية أو تعدد ، على الرغم مما يبدو لحواسنا من كثرة الموجودات فى العالم الخارجى ، وما تقرره عقولنا من ثنائية بين الله والعالم ، أو الحق والخلق، اللذين هما اسمان أو وجهان لحقيقة واحدة ، إذا نظرت إليها من ناحية وحدتها الذاتية سميتها : الحق ، وإن نظرت إليها من ناحية تعددها سميتها : الخلق(25) . وفى إطار هذا المذهب ؛ الذى يبدو أنه صعب الفهم ، ومازال مثار جدل حتى الآن ، تندرج أفكار أخرى لابن عربى مثل فكرة الذرات الروحية ، وفكرة التفاؤل ، وفكرة الرحمة الشاملة ، وفكرة الإنسان الكامل ، إلى جانب فكرته المتميزة عن علم الضربة أو الحدس ، وفكرته المبتكرة عن الخيال(26) . وهى الأفكار التى تصمد بكل جدارة لمقارنتها مع الأفكار والنظريات الفلسفية لكبار الفلاسفة المحدثين من أمثال اسبينوزا ، وليبنتز ، وبرجسون . وإذا كان قد شاع أن تاريخ الفلسفة الإسلامية ينتهى بابن رشد فى القرن السادس الهجرى ، فإن المفاجأة تعود فتخرج لنا فى القرن الثامن الهجرى مؤرخا كبيرا يمتلك عقلية فلسفية نادرة ، هو ابن خلدون (ت 88هـ) الذى سوف يضع فى مقدمة تاريخه (التى اشتهرت فى أوربا قبل أن يعرف العرب قيمتها الحقيقية إلا مؤخرًا) الكثير من معالم فلسفة السياسة ، وأصول علم الاجتماع ، فى تلك (المقدمة) الشهيرة ، يتحدث ابن خلدون عن فكرة العصبية التى تقوم على أساسها الدول ، كما يبين القوانين التى تؤدى إلى اتساع رقعة العمران ، وحاجة الناس فى كل مجتمع إلى التعاون من خلال تبادل المنافع والصناعات . ومن بين العوامل التى تؤدى إلى تدهور الدول ، يركز ابن خلدون بصفة خاصة على فكرة (أن الظلم مؤذن بزوال العمران) . ومن أروع فصول المقدمة ذلك الفصل الذى تحدث فيه ابن خلدون عن العلوم الإسلامية : كيف نشأت ؟ وكيف تطورت ؟ منبها بالطبع إلى أهميتها فى تقدم المجتمعات . وهكذا استطاع هذا المؤرخ – الفيلسوف أن يمزج أحداث التاريخ بمنطق العقل، وأن يغلف الاثنين بالخبرة والتجربة وبعد النظر .
تلك هى أهم (وليس كل) الأفكار التى برزت فى تاريخ الفلسفة الإسلامية ، وشغلت أذهان كبار أعلامها ، وجرى تداولها أو النقاش حولها فى المؤلفات التى تولت شرحها أو تلخيصها أو التعليق عليها . ومع ذلك فقد وجدت إلى جانب هذه الأفكار الرئيسية أفكار أخرى كثيرة ، تضافرت فيما بينها لتشكل النسيج الخاص بالفلسفة الإسلامية ، والتى جعلتها تمثل حلقة وسطى بين الفلسفات القديمة (اليونانية والهندية والفارسية) وبين الفلسفة الحديثة . وإذا كان المستشرقون قد ركزوا جهودهم ، خلال القرنين الماضيين (19 ، 2) على تلمس بعض جوانب من تأثير الفلسفات القديمة فى الفلسفة الإسلامية ، فإنهم قد قصّروا بدون شك فى عدم بيان أوجه تأثير الفلسفة الإسلامية فى الفلسفة الحديثة المعاصرة . والواقع أنه لولا ما قام به بعض الدارسين المنصفين فى هذا المجال لكان قد اختفى تماما دور الفلسفة الإسلامية فى تاريخ الفكر الإنسانى . ومن ذلك المقارنة التى عقدت بين ابن عربى ودانتى، ثم بينه وبين كل من سبينوزا ولبينتز ، والمقارنة بين ابن رشد وتوماس الأكوينى ، أو البير الكبير ، والمقارنة بين الغزالى وديكارت(27) ، والمقارنة بين ابن طفيل وروبنسون كروزو . وفى رأينا أن الاستمرار فى عقد مثل هذه المقارنات بين أعلام الفلسفة الإسلامية فى مختلف عصورها ، القديمة والحديثة ، من بين كبار فلاسفة الغرب ينبغى أن تظل فى قلب اهتمام الدارسين الجدد فى الفلسفة الإسلامية . وبالطبع لابد أن يتوافر لهذه المقارنات منهجها العلمى ، وللقائمين بها إمكانياتهم الخاصة ، وأن تتوافر لديهم الرغبة والإرادة لكى تتأكد مكانة الفلسفة الإسلامية فى تاريخ الفكر الإنسانى ، وتسهم فى إمداده ببعض التوازن أو التعادلية التى تتميز بها فى نظرتها إلى الإنسان والعالم.
|
آخر تحديث الجمعة, 13 ديسمبر 2019 13:33 |