عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
قصص عالمية مترجمة صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الاثنين, 17 نوفمبر 2014 02:43

 

 

المحتوى

كلمة شرف

جسر بيتشوجين

الطاقية السادسة

بنت القيصر

آستا . . مُعلمتي الجميلة

فاطمة

الدب والدرويش

كيف سقط السروال من حسان

الشمعدان

الوظيفة السهلة

صفحة الوفيات

مدينة . . وامرأة

 

 

تقديم


لو كنت أستطيع لقمت بترجمة مئات القصص القصيرة من الأدب العالمى إلى اللغة العربية. فأنا من أشد المتحمسين إلى ضرورة تطعيم الآداب بعضها ببعض , هذا التطعيم هو الذي يدفع الأدب القومي إلى مزيد من الازدهار , ولأن الأدب - كالعلم - ينبغي أن يتوزع عطاؤه على كل شعوب العالم . وتثبت التجارب أنه ما من أدب استقبل ثمار أدب آخر إلا ازداد بها قوة , واندفع من خلال الاطلاع عليها وهضمها إلى آفاق أخرى جديدة . .


ويحضرني هنا أن نجيب محفوظ بدأ حياته الثقافية بترجمة كتاب عن مصر القديمة , وعلى الرغم من أنه كتاب علمي في مادته ومنهجه , إلا أنه كان فاتحة خير للمترجم , كي يكتب بعد ذلك ثلاث روايات عن الحياة المصرية القديمة هي: رادوبيس وعبث الأقدار وكفاح طيبة . النتائج إذن تخرج من مقدماتها . ولن يبرز بيننا أديب مصري أو عربي متميز دون أن يكون قد تزود بالكثير من الثقافة المحلية والعالمية . وكما قيل بحق إن " الأسد ليس إلا عدة خراف مهضومة ".

 


لن يكون من العيب ان أذكر هنا قصتي مع اللغات الأجنبية التي تعلمتها , وكانت أولاها الإنجليزية التى درستها على نحو هزيل دون أن أحقق فيها شيئًا يذكر . ولم يكن ذلك ذنبي , وإنما ذنب المنهج المدرسي والجامعي العقيم الذي يجعل من اللغات الأجنبية مقررًا نظريًا , يخلو من التدريب والممارسة , ولذلك يخرج التلاميذ والطلاب دون أن يستطيعوا . .

 

 

حتى محاورة زائر أجنبي , أو دلالته على ما يمكن أن يراه من معالم سياحية في بلاده. ومع ذلك فقد ظللت أحاول - عبثًا - أن أجيد الإنجليزية , وأحسن وسائلي فيها , لكن النتيجة توقفت عند قراءة بعض النصوص , ومحاولات فاشلة لترجمة جزء من كتاب عن الفكر الإسلامي , اكتشفت بعد فترة أنه مترجم بالفعل !

 


وحدث في عام .197- أنني جندت بالجيش . وكان من حظي أن أقضي فترة التجنيد متعلمًا ومترجمًا للغة الروسية . وفي فترة التعليم - التي كانت جادة جدًا - درست لنا اللغة أستاذة روسية , كانت مثقفة للغاية اسمها " إليانا باريسي " .

 


وهي سيدة عجوز , لكنها كانت على درجة عالية من النشاط والاهتمام . وعندما وجدتني مقبلًا على تعلم اللغة الروسية منحتني اهتمامًا خاصًا , وحين علمت أنني شاعر , أعارتني من مكتبتها الخاصة بعض المؤلفات الروسية لبوشيكن وتشيكوف وغيرهما , كنت أقرأها بصعوبة , ولكنني كنت أعجب كثيرًا بمحتواها . .

 


في تلك الأثناء أقبلت - في فترة فراغي النسبي - على ترجمة بعض القصص القصيرة من الروسية مباشرة , وهي ( بنت القصير , جسر بتشوجين , الطاقية السوداء , كلمة شرف , آستا . . مدرِّستي الجميلة ) . . وقد كانت النية أن أستمر في ترجمة العديد من القصص , والقصائد الروسية الجميلة ( التي لم أنشرها بعد) , لكن حدث ما غير خططي تمامًا .

 


في أواخر سنة 1974 , سافرت في بعثة حكومية للحصول على دكتوراة الدولة من جامعة السوربون بفرنسا . وكانت مفاجأة كاملة . فأنا لا أعرف حرفًا من اللغة الفرنسية . لكنني كنت دائمًا توَاقًا إلى الرحلة إلى الغرب , والتعرف المباشر على حضارته التي قرأت عنها كثيرًا . . وفي باريس , بدأت رحلة شاقة مع اللغة الفرنسية ودارستها في أكثر من مدرسة في وقت واحد , حتى كانت فرحتي الكبرى عندما قرأت - لأول مرة ودفعة واحدة - رواية الغريب لألبير كامي . . ولأن من عادتي أن أقرأ بسرعة , لذلك فإن الألم الذي عانيته من القراءة البطيئة بالفرنسية في المراحل الأولى كان أكثر مما يحتمل . .

 


في باريس قضيت ما يقرب من سبع سنوات , متجولًا في مكتباتها قارئًا نهمًا لكل ما كان يتيسير لي الاطلاع عليه , سواء في المكتبة الوطنية , أو مكتبة جامعة السوربون , أو حتى مكتبات الحي اللاتيني المشهورة في شارع سان ميشيل أو المنزوية في الحارات الجانبية . . وميزة المكتبات التجارية في باريس أنها تتيح لكل إنسان أن يسحب من فوق الرف الكتاب الذي يعجبه ويظل يقرأ فيه . . دون أن يزعجه البائع بالمتابعة أو الملاحقة أو التذمر! ميزة أخرى , أن القراء بعد أنيشتروا الكتب وينتهوا من قراءتها يمكنهم أن يبيعوها مرة أخرى للمكتبة , التي تضع فوقها خاتمًا يدل على أن الكتاب مستعمل , وهكذا يعاد بيعه - للقارئ البسيط من أمثالي - بسعر منخفض جدًا , ومن هذا الطريق , اشتريت الكثير جدًا من الكتب الهامة .

 


شعور غريب كان يخالجني وأنا أعيش في قلب حركة الطباعة والتأليف الفرنسية: وهو أنه لابد أن أنقل - أو ينقل غيري من العرب -كل تلك المؤلفات أو معظمها إلى اللغة العربية , نظرًا لأهميتها البالغة , سواء على مستوى الإبداع الأدبي والفكري أوعلى مستوى الدراسات والبحوث الأكاديمية والثقافية . .

 


وفي بداية الثمانينات , عدت إلى القاهرة , وأنا شديد الاقتناع بدور الترجمة العلمية والثقافية . فضلًا عن الجانب الأدبي . . لكنني وجدت الجو العلمي والثقافي منشغلًا بقضايا هامشية , كما فوجئت بأن الترجمة لم يعد لها اعتبار يذكر في التوقيعات العلمية بالجامعة , الأمر الذي أدى إلى انصراف اساتذة الجامعة عنها , وذلك بالإضافة طبعًا إلى مكافأتها المادية المتدنية للغاية , ونظرة الناشرين لها على أنها عمل لا يستحق عناء النشر , لأن كتب التراث كانت هي التي تتصدر قائمة الاهتمامات..

 


وأذكر أنني كتبت مقالًا بعنوان " دور الترجمة في الفكر العربي المعاصر ، نشر في سلسلة " دراسات عربية وإسلامية " - الجزء الثامن وحرصت على أن يكون هو موضوع أكثر من محاضرة ألقيتها في أسبوع ثقافي بسلطنة عمان سنة 1995 . ثم أودعته فيما بعد كتاب " الدوائر المتداخلة " القاهرة 1995 الذي يتحدث عن " تحقيق التراث , والترجمة

والتأليف " , باعتبار الثلاثة ركائز لا غنى عنها في أي حركة علمية أو ثقافية ناجحة .

 


وخلال تلك الفترة كنت أترجم من وقت لآخر قصيدة أو قصة أو مسرحية أو كتابًا من الفرنسية إلى العربية , لكن الكثير من ذلك لم ينشر بعد , وظل بين أوراقي , لا تقع عيني عليه إلا تحسرت على حال الترجمة ومصير الأعمال التي تقدم صورة أخرى من العالم , أو الحقيقة !

 


وفي لحظة تصميم أو فلنقل: لحظة تهور ! جمعت ما ترجمة من قصص قصيرة مترجمة عن الروسية , إلى جانب مجموعة أخرى ترجمتها من الفرنسية , بعضها منقول إليها من التراث الألباني , الذي سوف يلاحظ القارئ العربي فيه مسحة من التراث الشعبي والصوفي ( فاطمة , الدب والدرويش , كيف سقط السروال من حسان ) ، والبعض الآخر بقلم كتَاب فرنسيين مثل (الوظيفة السهلة , وصفحات الوفيات , مدينة وامرأة ) .

 


وفي الختام , أعتذر إذا لاحظ البعض أن إحدى هذه القصص قد ترجمت في مكان آخر , لأنها نتاج فترة طويلة , ربما امتدت إلى ثلاثين عامًا , ولم يتح لي خلالها أن أتابع (كل) ما يصدر في الوطن العربي من أعمال أدبية مترجمة .

 


وإلى القارئ التحية ,,

دكتور حامد طاهر

نوفمبر 2000

 

 


 

 

 

 

 

كلمة شرف

 

 

بقلم ل. بانتيليف

ترجمها من الروسية

أ‌. د. حامد طاهر

 


يؤسفني جدًا أنني لا أستطيع أن أذكر لكم اسم هذا الصبي الصغير , وأين يعيش , ومن هي أمه , ومن هو أبوه , لأنني في الظلام لم أتمكن من رؤية وجهه . فقط أذكر ان أنفه كان به بعض النمش , وأن بنطلونه كان قصيرًا , لم يثبت بحزام , وإنما بحمالة تنقلب من فوق الكتف , وتزرر في مكان ما على البطن .


على نحو ما , توجهت في الصيف إلى حديقة - لا أعرف كيف يسمونها - على جزيرة " فاسيليفسكي " بالقرب من كنسية بيضاء . وكان معي كتاب ممتع , رحت أقرأ فيه , ولم ألاحظ كيف حل المساء .وعندما ضعفت عيناي من الزغللة , أصبحت القراءة من الصعوبة بمكان فأغلقت الكتاب , ونهضت متجهًا للخروج . .


كانت الحديقة قد بدات تخلو من الناس , وفي ممراتها , راحت المصابيح تشع من آن لآخر . ومن خلف الاشجار رن جرس الحارس . ولأنني خشيت أن تغلق الحديقة , مشيت مسرعًا جدًا . وفجأة توقفت . فقد وصل إلى سمعي من خلف بعض الشجيرات أن أحدًا يبكي . .


انعطفت إلى جانب الطريق , حيث لاح على البعد بيت صغير بلونه الأبيض وسط الظلام : بيت حراسة أو كُشك كذلك الذي يوجد في كل حدائق المدن . وكان بقربه حائط , وقف بجانبه فتى صغير ,لا يزيد عمره عن سبع أو ثماني سنوات, وهو مطاطأ الرأس , وينتحب بشدة , دون سلوى من أحد!

اتجهت إليه وناديته:

- أيها الصغير . . ماذا بك ؟

- لا شيء .

- كيف لا شيء . . من ضربك ؟

- لا أحد .

- ما الذي إذن يبكيك ؟

كان من الصعب أن يتكلم , وكذلك أن يمسك بكل دموعه . وكان ينشج ويفوق ( من الفواق: الزغطة ), وينشق بأنفه !قلت له:

- هيا نمضي . . أنظر ، فقد صار الوقت متأخرًا ، والحديقة تغلق . .

وأردت أن أجذبه من يده , لكن الصبي سحب يده بدون حرج قائلًا:

- لا أستطيع

- ما الذي لا تستطيعه ؟

- لا أستطيع السير

- كيف ؟ لماذا ؟ ماذا بك ؟

- لا شيء

- هل أنت مريض ؟

ــ لا . . صحيح بصحة جيدة .

- إذن لماذا لا تستطيع السير ؟

- أنا حارس

- أي حارس ! أي حارس !

- ماذا أنت ؟ ألا تفهم ! نحن نلعب . .

- آه . . مع من تلعب . .

سكت الصبي , وبلع ريقه , وقال:

- لا أعرف .

وهنا بدا لي أن الصبي ربما يكون مريضًا , وأن في رأسه خبالًا . قلت له:

- اصغ إلي . . ماذا تلعب ؟ وكيف كان ذلك ؟ تلعب . . ولا تعرف من أنت ؟

- نعم , لا أعرف . فقد كنت أجلس على دكة في الحديقة وأقبل مجموعة كبيرة من الأولاد , وقالوا لى : " هل تريد أن تلعب معنا لعبة الحرب ؟ " فقلت: " أريد " . ورحنا نلعب . قالوا لي : " أنت عرَيف "وكان هناك ولد كبير أرسلني إلى هنا , وقال: إن لدينا مستودع بارود في هذا الكشك وستكون أنت حارسه . فابق هنا , ولا تنصرف حتى لا أبدلك بشخص آخر قلت له: "حسنًا " . قال:

" أعطني كلمة شرف على أنك لن تذهب " .

- هيه . .

- قلت له: " كلمة شرف: لن أذهب "

- وماذا بعد ؟

- ها أنا ما زلت واقفًا . . واقفًا , وهم لا يأتون !

حينئذ ابتسمت وسالته :

- حسنًا . . وهم وضعوك هنا منذ وقت طويل ؟

- كان النهار لا يزال . .

- ولكن أين هم ؟

- أعتقد أنهم مضوا . .

- كيف مضوا ؟

- نسوا . .

- ولماذا تجلس إذن ؟

- لقد أعطيت كلمة شرف . .

أردت أن أبتسم مرة اخرى , لكنني تنبهت فجأة إلى ان الضحك في هذا الموقف لا يليق , وأن الصبي على حق تمامًا . فما دام قد أعطى كلمة شرف , عليه أن يبقى مهما حدث ولو على حياته ! ويستوي بعد ذلك أن يكون الأمر لعبة , أو غير لعبة .

قلت له:

- إذا كان هذا قد حدث ، فماذا تصنع الآن ؟

قال الصبي , وقد بدأ يبكي:

- لا أدري

أردت أن أقدم له أية مساعدة ممكنة , لكن . . ماذا أستطيع أن أفعل ؟ هل أذهب للبحث عن أولئك الأطفال السخفاء , الذين وضعوه في الحراسة آخذين منه كلمة شرف , وأسرعوا هم إلى منازلهم ؟ لكن أين أجد هؤلاء العفاريت ؟ ! لا شك في أنهم قد تناولوا عشاءهم , وذهبوا إلى الفراش ،

ورأوا عشرات الأحلام . أما الصبي , فيجلس هنا الساعات الطويلة , في الظلام , وهو جائع حقًا ! وسألته :

- هل تريد أن تأكل ؟

- نعم . . أريد .

قلت بعد تفكير:

- حسنًا , أسرع أنت للمنزل لكي تتعشى , وسأبقى أنا بدلًا منك هنا .

وقال الصبي:

- نعم . . لكن هل هذا ممكن ؟

- ولماذا لا يمكن ؟

- إنك لست شخصًا عسكريًا

هرشت قفاي , وقلت:

- صح . . لن تذهب . . حتى أنا لا أستطيع أن أكون مناوبا مكانك . الذي يمكنه أن يقوم بهذا العمل شخص عسكري . . قائد !

وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة طيبة , واعتقدت أنني إذا حررت الصبي من كلمة الشرف , فإنني أحرره من الحراسة أيضًا , هكذا ينبغي أن يكون العمل . لكن من الضروري الذهاب للبحث عن شخص عسكري.لم أقل شيئًا للصبي . أبلغته فقط "انتظر لحظة " وأسرعت بنفسي إلى مكان الخروج .


لم تكن بوابة الحديقة قد أغلقت بعد , أما الحارس فقد ذهب إلى أقصى الحديقة , لكي يتصل من هناك بمركز حراسته. وقفت بالقرب من البوابة , ولم يمر بالقرب مني أي شخص عسكري: أي ملازم , أو حتى جندي من الجيش . وكما يبدو لم يكن في الشارع أي شخص يرتدي الملابس العسكرية . وفجأة ظهرت في الجانب الآخر من الشارع مجموعة من المعاطف السوداء .فرحت , وظننت أصحابها بحارة عسكريين , لكنني عندما عبرت الشارع مسرعًا لم أجدهم بحارة , وإنما طلاب صغار في مدرسة صناعية . ومر رجل سكة حديد طويل القامة يرتدي معطفًا جميلًا جدًا , مزينًا بعلامة خضراء . لكن هل كان من الممكن لمثل هذا الرجل أن يقف ويستمع لي أردت أن أعود للحديقة , وجهي مثل قفاي . لكني فجاة , لمحت عند الناصية على محطة الترام " كاب " أحد القادة بإطار أحمر . ويبدو أنني لم أفرح قط في حياتي مثل فرحي في تلك اللحظة . واندفعت نحوه بكل قوتي . لكنني مع الأسف لم الحق به , لأنه كان أسرع مني في الصعود إلى " الترام ". وقفت على المحطة, إلى أن أقبل ضابط شاب , برتبة رائد , وكان يشق طريقه وسط الجمهور المتجمع حول باب العربة . وأسرعت إليه , ممسكًا بذراعه , وصحت:

- رفيقي الرائد . . دقيقة واحدة . . انتظر . . رفيقي الرائد !

التفت إلي ناظرًا باستغراب , وقال:

- ماذا حدث ؟

- هل تريد ان تعرف ماذا حدث ؟ هنا , في حديقة , بالقرب من " كشك " حجري , يجلس طفل صغير منذ ساعات . . إنه لا يستطيع الخروج . فقد أعطى كلمة شرف . . إنه صغير جدًا . . إنه يبكي . .

قطب القائد عينيه , ورنا إليَ بدهشة أكبر . ربما ظن هو أيضًا أنني مريض , وأن في رأسي خبالًا . . لكنه قال:

- إنني هنا في عمل ؟

لكن " الترام " كان قد فاته , فنظر إليً بغيظ , وانتهزت الفرصة فشرحت له القصة بوضوح أكثر , وعندما فهمها لم يعد يفكر , وعلى الفور قال :

- فلنذهب . . لنذهب بالطبع . . لماذا لم تقل هذا لي مباشرة ؟ !

وعندما توجهنا إلى الحديقة , كان الحارس قد أغلق البوابة تمامًا . وطلبت منه الانتظار عدة دقائق , وقلت له : إن في الحديقة صبيًا باقيًا , واندفعنا - الرائد وأنا - إلى داخل الحديقة .

وفي الظلام , اكتشفنا بصعوبة البيت الصغير الأبيض , كان الصبي واقفًا في مكانه بالضبط , حيث تركته . ومرة أخرى كان يبكي بهدوء شديد . ناديته , ففرح جدًا , إلى حد أنه صرخ من الفرح . أما أنا فقلت:

- ها هو ذا . . قد أحضرت قائدًا .

اعتدل الصبي في وقفته , ولكي يرى القائد بصورة أفضل , مد جسمه الصغير لأعلى عدة سنتيمترات . . وقال القائد:

- أيها الرفيق الحارس . . أي رتبة تحملها ؟

- أنا عريف .

- رفيقي العريف . . آمرك بترك مركز حراستك , الذي عهد به إليك .

سكت الصبي , وحك أنفه , ثم قال:

- وما هي رتبتك انت . فأنا لا أرى تمامًا عدد النجوم التي على كتفك ؟

- أنا رائد .

عندئذ رفع الصبي يده مؤديًا التحية العسكرية , قائلًا:

- حاضر - رفيقي الرائد - بالأمر أترك نقطة الحراسة .

قال هذا بصوت مسموع , وبمهارة بالغة إلى حد أننا لم نتمالك أنفسنا وانفجرنا في الضحك . وابتسم الصبي بسرور وارتياح .

عدنا إلى باب الحديقة المغلق , وانتظرنا عدة لحظات , قبل أن يفتح الحارس لنا القفل المغلق .

ومد الرائد يده محييًا:

- ممتاز يا رفيقي العريف . منك يخرج المحارب الحقيقي . . إلى اللقاء !

وتمتم الصبي ببعض كلمات , قائلًا:

" إلى اللقاء "

وتركنا الرائد , مسرعًا إلى المحطة , نحو " ترامه " الذي كان قادمًا . أما أنا , فقد شددت على يد الصغير , وسألته:

- هل يمكنني أن أوصلك ؟

- لا . . فإنا أسكن قريبًا من هنا . . إنني لا أخاف .

ونظرت إلى أنفه الصغير ذي النمش , واعتقدت حقًا أنه لا يخاف من شيء . ان الصبي الذي لديه مثل تلك الإرادة القوية , وهذه الكلمة المتينة لا يخشى الظلام , ولا يخاف من المجرمين , ولا يرتجف من أكثر الاشياء رعبًا !

وعندما يكبر , لا ادرى ماذا سيكون عندما يكبر ؟ على أي وضع كان , فإن المضمون بالفعل أنه سيكون شخصًا حقيقيًا .

هكذا فكرت وأنا أسير وحدي مسرورًا من تعرفى على هذا الصبي الذي أشد على يديه بقوة . . مرة أخرى !

 

 


جسر بيتشوجين

 


بقلم: إ . بيرمياك

ترجمها من الروسية

أ . د . حامد طاهر

 


في الطريق إلى المدرسة , تعود جماعة من التلاميذ الحديث عن المآثر .

قال الصبى الأول : ما اروع إنقاذ طفل من الحريق !

وتخيل الثاني: أروع منه اصطياد أكبر كركي . . على الفور يعرفه الناس جميعًا .

وقال الثالث: أروع من هذا كله أول من يطير إلى القمر , فإن العالم كله سيعرف صاحبه !

لكن ( بيتشوجين ) لم يفكر في شيء من هذا . فقد كان فتى هادئًا , صامتًا . ومثل باقي زملائه , كان بيتشوجين يفضل الذهاب إلى المدرسة من طريق قصير عبر نهر صغير عند شاطئ شديد الانحدار . وكان عبوره وثبًا من أصعب الأمور .


في العام الماضى , لم يتمكن تلميذ صغير من القفز فسقط في الماء , وما زال يرقد في المستشفى . وفي هذا الشتاء , عبرته فتاتان في الجليد فعثرت أقدامهما عليه . وهكذا تعالت الصرخات منه . وحرمت جماعات التلاميذ الصغار من استخدام هذا الطريق القصير . وكم يكون المسير مرهقًا وطويلًا , عندما يوجد طريق آخر قصير !


وها هو بيتشوجين يفكر . . ويهتدى أخيرًا إلى ضرورة قطع صفصافه قديمة من هذا الشاطئ ليسقطها على الشاطئ الآخر . وكانت لديه " بلطة " جيدة , مشحوذة من عهد جده , فراح يقطع في الصفصافة وقد اتضح بعد قليل أن هذا عمل غير سهل . فقد كانت الصفصافة غليظة جدًا , لا يمكن لإنسان واحد أن يضمها بذراعيه الاثنتين . لكنها بعد يومين من العمل المتواصل سقطت . . راقدة عبر النهر الصغير


ثم كان على بيتشوجين أن يشذب فروع الصفصافة التي تعوق المسير ,وتشتبك تحت قدميه . لكنه - بعد أن قطع الفروع - وجد أن السير أصعب , لأنه لم يكن هناك شيء يمكن الاستناد إليه وخاصة عندما يسقط الجليد . . وقرر بيتشوجين أن يركب سورًا من أعواد الخشب .


وهكذا ظهر جسر جديد . ولم يعد التلاميذ فقط هم الذين يستخدمونه وإنما كل سكان المنطقة عندما يعبرون من قرية إلى قرية أخرى , بواسطة طريق قصير . حتى أن أولئك الذين كانوا يستخدمون الطريق غير المباشر , كان يقال لهم:


- هل تريدون أن تقطعوا مسافة سبعة آلف متر ! اذهبوا مباشرة عن طريق جسر بيتشوجين .

وعندما تآكلت الصفصافة , وأصبح المسير عليها محفوظًا بالمخاطر استبدل بها أهالي القرى المجاورة جذع شجرة أخرى جيدة . . لكن بقي الاسم الأسبق للجسر , وهو: بيتشوجين .


ثم لم يلبث هذا الجسر أن تغير , وأصبح طريقًا معبدًا , وعبر النهر السريع , امتد الطريق , في نفس مكان ذلك الممر الصغير , حيث شيدت الحكومة جسرًا كبيرًا , ارتفعت على جانبيه قوائم من حديد الزهر . وكان من الممكن أن يطلق على هذا الجسر الضخم اسم كبير . لكن أحدًا لم يفكر على الإطلاق في أن يطلق عليه أي اسم آخر سوى: جسر بيتشوجين !


وبهذه الطريقة وحدها , يمكن أن يصبح للإنسان اسم في الحياة !

 

 

 

الطاقية السادسة

 

 

بقلم: ي . كورانوف

ترجمها من الروسية

أ. د. حمد طاهر

 


كان عمري في ذلك الوقت سبعة شعر عامًا . عملت في دائرة مكاتب خاصة بالتخزين كموظف متجول . والواقع أن هذه كانت وظيفة شخص محترم في الذهاب والإياب . ما يأمر به ينفذ .


وعلى نحو ما , أرسلوني في الربيع المبكر إلى ( كوبيلوخا ), حيث ضاعت من أحد مخازننا بعض القطعان , وقد فرحت بهذه الرحلة فرحًا شديدًا , فهناك كان لي صديق عزيز اسمه ( كوسائين ), وقد اقمت معه في أحد الأكواخ البرية .


أمام الأكواخ الكازخستانية , ليس من النادر أن تلتقي بثعلب صغير مربوط في وتد , وهذا يتم على النحو التالي: يثبت الوتد في الأرض , وعلى الوتد تثبت حلقة منزلقة بعروة , وفي العروة تثبت سلسلة . وفي السلسلة يقيد الثعلب الصغير بطوق في رقبته , ويجري الثعلب حول الوتد . وميزة الحلقة المنزلقة أنها لا تجعله يتعثر , وغالبًا ما يلعب الأطفال الصغار مع الثعلب الصغير: يطعمونه ويعتنون به . ومع حلول الشتاء ، يكون الثعلب الصغير قد كبر , وصار ثعلبًا . . ثم بعد ذلك يتحول إلى طاقية , وهي التي تكون غطاء الرأس الكازختساني , الذي يشبه المثلث.


عندما وصلت إلى ( كوسائين ) , رأيت ثعلبًا كبيرًا جميلًا , مربوطًا في الوتد . كان مستلقيًا , وهو يرضع خمسة ثعالب صغيرة . وقد أخبرني ( كوسائين ) أنه اصطاد العائلة بأكملها من الجحر .

وحين سألت كوسائين عن الثعالب الخمسة التي لم تكن مربوطة:

- كيف لم تجر ؟

- أجاب على الفور:

- وإلى أين يجرون ؟ ولاي شيء يهربون من أمهم ؟ كيف سيعيشون ؟ ومن يقدم لهم الغذاء ؟ وعمومًا فإن الثعالب الصغيرة لا تجري بصورة جيدة , وهذا حسن بالنسبة إليهم , وبالنسبة لي أيضًا حسن . .لأنهم عندما يكبرون , سيصبحون ست طواق . .


عشت فترة عند كوسائين , أعطى وقت فراغي كله للثعلب وأبنائه . وقد حفر كوسائين حفرة بالقرب من الوتد , وفرشها بالصوف . الثعلب يتغذى باللحم النيء , وأحشاء الحيوانات . وهو في العادة قبل أن يأكل , يشرب لبن الفرس , وبمرور الوقت ينسى الثعلب العبودية , ويبدأ يشعر بالفرح مع أبنائه الذين يتحركون برشاقة من حوله , ويلحسهم بريقه , ويلعب معهم , ثم يتمدد بسعادة عند الحفرة , عندما يحين وقت إرضاع الثعالب الصغيرة .والثعلب يصبح بصعوبة وحشًا مستانسًا . الضجة وأصوات الناس تخيفه .وكل من الدخان والنار يرعبه . أما جيرة الكلاب فهى بالنسبة له جيرة خطرة . لكن للثعلب أبناء . هي أم . وشعور الأمومة يجعلها تهادن الجميع , وهكذا فإن الخوف الشديد هو الذي يجعلها تتناسى السلسلة , والطوق , والأسر !


أحيانًا تجرى للثعلب نزهة . ويقوم بهذا العمل ابن كوسائين . إنه يزيد من طول السلسلة قليلًا , ويجري به في السهول البرية . ويتبعه في الجري الثعالب الصغيرة .


كان الثعلب يجذب السلسلة بشدة , وهو يندفع في أعماق البراري الشاسعة , بعيدًا عن المساكن , والمراتع القريبة منه , ومن المؤكد أن كل نزهة من امثال هذه النزهات كانت تمثل له بداية محاولة تحرر . . ولكن بلا جدوى , فإن السلسلة ترجعه , وقد استدرنا للخلف , والثعلب الآن لا يندفع بنفس سرعته الاولى , إنه يمشي متثاقلًا في خطوه خلفنا , منكسًا راسه في حزن, وهو يشاهد الوتد البغيض , والحفرة التي صنعها له الإنسان , أما الثعالب الصغيرة فإنها لا تفهم شيئًا على الإطلاق , فهي تسرع , واحدًا وراء الآخر , أو مشتبكين مع بعضهم البعض في عراك بريء . .


عندما أنهيت أعمالي سافرت . ومضت عدة أشهر لم أرفيها كوسائين . وفي نهاية الربيع , أرسلوني من جديد إلى كوبيلوخا , التي أصبحت فيما يبدو معرضة لهطول الامطار , واضطرابات الجو . .


وما أن وصلت حتى اسرعت إلى كوسائين , وفي نفس اللحظة سألت عن الثعلب: قال لي: "انظر . . انظر . ." وقبل أن أفك بردعة الحصان , أسرعت إلى وتد الثعلب خلف الكوخ . وهناك رأيته جالسًا بلا حراك : وجهه الهزيل الحاد صار ممتلئًا ورقيقًا . وكان ينظر إلى البرية بتوتر. وقد رجفت عظام وجنتيه رجفة عصبية . ولم يعرني أي اهتمام قلما. كانت عيناه تطرفان . كان ينظر إلى بعيد . . كما لو كانت أمنيته أن يرى شخصًا من خلال الضباب السديمي . . وكانطعام الثعلب بالقرب منه . . لم يُمسَ .


قال كوسائين بحزن:

- إنهم هجروها في الليل . وما فائدة الأم لهم الآن ؟ لقد أطعمت أبناءها , أعطتهمكل شيء . . الأسنان البيضاء الحادة, والفرو الدافئ الأحمر , والأرجل السريعة العدو , والعظام المتينة , والدم الساخن . . ماذا تعني لهم الأم الآن ؟!


في طفولتي , أسرفت كثيرًا في سماع القصص المبكية , وقد علمتني أن أتأسف حتى على الشجرة المكسورة ! وقد حزنت للغاية على الثعلب الذي جلس هكذا بانشغال ورقة , بعدما هذبة الخوف والأسر , قريبًا من ضجيج الإنسان , ودخان مسكنه . . خمسة ثعالب تركت الآن أمهم المشغولة عليهم للوحدة مع ذلك الوتد البغيض في ليل الخريف المظلم . . هجرتها وقد نام الجميع , ولم تستطيع الكلاب التي أطلقت وراءها أن تلحق بها . كان هذا خداعًا . . آه . . الخداع , الذي هو شعار حياة الثعالب , وقد تلقته الثعالب الصغيرة أيضًا من أمهم !


بالنسبة إلى الوحش , هذا هو القانون , لكن الإنسان يريد أن يرى الوحوش أفضل مما هي عليه في الواقع . وهكذا كانت عينا الثعلب الإنسانيتان , النبيلتان مصوبتين في الفراغ . .


وأخبرني كوسائين:

ــ لقد نادت عليهم . نادت عليهم بحزن بالغ جدا . . وبالامس انتشر ناحيبها في البرية كلها ، وبكتهم كما لو كانت تبكي الموتي بصورة . ذليلة جدًا .


ثم أضاف:

ــ خسارة كبيرة . . فلتت منا خمس طواقٍ !

لكنه عندما تطلّع إليّ , بدا كأنه قرأ في وجهي الأسى الذي أثاره منظر صديقي البري المتوحش . .

إنني لم أتبادل معه الهدايا فقط , وإنما المشاعر الطيبة أيضًا . .

وفي صمت , توجه كوسائين إلى الثعلب , وفكه من حلقته , وقال:

- إذا كنا قد فقدنا خمس طواق , دعنا نفقد السادسة . ولن أجعلك تحسبني أضع على رأسي طاقية ثعلب حزين . ليس لدي رأس لمثل هذه الطاقية !


وبعد ان قال ذلك أطلق صرخة على الثعلب . لكن الثعلب لم يجر , واكتفى بأن أصدر صوتًا خفيضًا يشبه الصفير , ثم اندفع إلى الحفرة التي بجوار الوتد .


قال كوسائين متاملًا:

ــ إنه لم يثق بعد في الحرية , طبعًا . إن السلسلة تستأنس حتى الوحش !

وفي الصباح بدت الحفرة فارغة . وقال لي كوسائين بسرور:

ــ أبشر يا صديقي . فقد رحلت الطاقية السادسة تبحث عن طواقيها الخمس . . إنها ستجدهم . من الضروري أن تجدهم وتتكلم . . سوف تتحدث بصورة جيدة جدًا . . لكن من الممكن أن تسكت . . وتأسف . . أليست أمًّا !

 


بنت القيصر

 


بقلم: يوكورانوف

ترجمها من الروسية

ا .د. حامد طاهر

 


في فناء أحد القصور المهجورة , كانت هناك بئر محفوزة , استوطنت فيها ضفدعة , كانت تجلس هناك لأيام طويلة , في ظل حافة البئر , وعندما يقترب شخص ما , تسرع إلى الجانب الآخر منه , مختبئة تحت دلو قديم .


وفي أحد الأيام , اتجه الصبى ( كوليا ) ناحية البئر , للحصول على الماء . ولاحظ أن شيئًا ما قد اسرع ناحية الدلو . ارتعد في البداية , لكنه أمسك بعد ذلك حجرًا , وراح يقترب بهدوء من الدلو , ثم قلبه بيده , ورأي على الأرض ضفدعة , لم يكن لها مكان تجري إليه , فانكفأت على الأرض عاجزة , وهي تحملق إلى كوليا بعينين كبيرتين حزينتين . .


مد كوليا يده إلى الضفدعة . وفجأة تذكر إحدى الأقاصيص القديمة , التي يقولون فيها إن (إيفان) ابن القيصر أنقذ ابنة القيصر الشابة , التي كان قد حوّلها (كاشي) الشرير إلى ضفدعة . ومسّ كوليا المكان بهدوء ثم قال:

- لا تخافي . .

وتوقف مدة قصيرة , ثم سأل:

- أأنت ابنة القيصر ؟

نظرت الضفدعة إليه بعينين سوداوين مستديرتين , وهو يقول ذلك , وبسرعة حركت حوصلتها الضعيفة أسفل الذقن , كما لو أنها تحاول جاهدة أن تقول شيئًا . وسأل كوليا:

- ومتى تحولت ؟

فحركت الضفدعة مرة أخرى حوصلتها الضعيفة . لكن كوليا أضاف:

- لا يهم . اسكتي وسوف أعرف هذا عندما تحدثينني عن كل شيء فيما بعد . أما الآن , فعيشي كما أنت في البئر .

ألقى كوليا بالحجر من يده . وملأ الماء من البئر . ثم استدار ليذهب إلى البيت . لكنه وقف متسمرًا .

في ذلك المكان نفسه , حيث كانت تجلس الضفدعة , ظهرت أمامه فتاة , كانت أقصر منه قليلًا: بيضاء , جميلة , في ثوب قصير أحمر, وبيدها دلو . وبسرعة راح كوليا ينظر حول الفتاة على الأرض. لم تكن الضفدعة هناك . وسأل كوليا :

- من أنت ؟ وكيف ظهرت فجأة ؟

- متى ؟

- متى ؟ الآن ؟

- لا . . انا فقط غيرت ملابسي في الطريق .

- لا يهم هذا . . غيّرت بنفسك .

واستطرد , كأنما يحدث نفسه:

- أي شيء يحدث لنا الآن ؟

وأجابت الفتاة:

- لا شيء . . ساعدني على رفع الماء من البئر .

تحوّل كوليا إلى الجانب الآخر من البئر , وسأل:

- أخبريني . . أي شيء تكون ابنة القيصر ؟

- لا أدري .

وحملت الفتاة الماء , واتجهت إلى المنحنى . .

وصاح كوليا:

- إلى أين تتجهين الآن ؟

أجابت الفتاة :

- للبيت . . إننا نسكن هنا . . قريبًا . . لقد انتقلنا اليوم , ومن الضروري أن نغسل أرضية المنزل .

وببطئ , ابتعدت خلف شجرة خوخ . وبدون عناية , كان الماء يتناثر من دلوها على الأرض !

 

 

 

آستا . . مُعلمتي الجميلة

 


بقلم: ج . سكولسكي

ترجمها من الروسية

أ‌. د. حامد طاهر

 


منذ زمن بعيد ، وأنا أعيش في تاللين . وقد حاولت أن أدرس الأستونية ، لغة البلد ، التي لم أحفظ منها إلا بعض العبارات القليلة جدًّا . مثل:


"من العيب عدم معرفة لغة الشعب الذي تعيش وسطه" أو "أنا لم أحضر الدرس" ومن وقت لآخر ، تنطق مدرستي آستا كازبيك الجملة الأولى ، أما الثانية فكثيرًا ما كنت أرددها .


أنا أكبر من مُدرِّستي بحوالي عشرين سنة . وهي تبلغ من العمر حوالي خمس وعشرين سنة.


تأتي آستا في الصباح مبتسمة . بدون ابتسامة ، لم تكن تظهر أبدًا. ثم نبدأ في إعراب اسم ما من حالات الإعراب الأستونية الأربع عشرة ، ونقوم بعد ذلك بإجراء المحادثة ، التي تسمى: حرة.


مثلاً تسألني آستا:

- ماذا حلمت في الليلة الماضية ؟

وأجيب ببطء ، مخرجًا كلمة وراء كلمة بصعوبة شديدة:

- لم أحلم بشيء . لقد نمت نومًا هادئًا . . وأنت بماذا حلمتِ ؟

وتجيب مفكرة:

- حلمت بأنني اجلس فوق تاللين ، على شاطئ بحيرة يوليمست . وفجأة يخرج من البحيرة ملاك ، ذو لحية، عجوز . . عجوز . . ثم يتكلم بإرهاق:

"انظري يا امرأة ، وقولي: هل المدينة ستكون مستعدة قريبًا ؟"

أخمن في شكل حلمها الذي رأته ، وأرى أنها تحدثني عن أسطورة شعبية تقول إن تاللين ستختفي من الوجود إذا ما سقط الحجر الأخير من المنزل الأخير فيها . عندئذ سيقذف الملاك الماء من البحيرة , ويغرق المدينة كلها.

إنني أعرف الأسطورة جيدًا , لكنني أخفي ذلك . وفقط . أسأل :

- بماذا أجبت ملاك البحيرة يا آستا ؟

- أنا . . لم أجب بأي شيء . .

اتسعت عينا آستا , وأصبحتا أكثر استدارة , وذعرًا . وكان للمعلمة ’ستا مخيّلة حية .

- إنما أسرعت إلى المدينة , ورحت أصيح في الشوارع: شيدوا . . شيدوا . . لا تتوقفوا دقيقة واحدة !

ثم تأخذ آستا نفسًا , وتبتسم . وأنا احب الابتسامات على الشفاة , غير الملموسة بحمرة الماكياج , ولا اخفي هذا عن معلمتي .

وتقول آستا الجميلة:

- طبعًا كل هذا اختراع . لكنني في مقابل ذلك كنت بالأمس مشتركة مع مجموعة عمال بناء , وقد ملّطت معهم بعض الجدران .

وأسعد لان كلمات مثل " اختراع " و "ملطت" ينبغي أن تترجمها لي . وأسأل:

- وهل هؤلاء العمال أصدقاؤك ؟

لو استطعت لم أسال . فإن آستا تقوم أيضًا بالتدريس في مدرسة ليلية لعمال شبان , وفيها الكثير من البنّائين الذين تصادقهم .

- طبعًا .

- وهل يعملون بصورة جيدة ؟

من الواضح ان السؤال يقصد إلى تحويل آستا للحديث عن البناء , وترك موضوع الدرس . ولكي تنقل لنا المفهوم على نحو اكثر كمالًا , تجري الحديث باللغة الروسية . وكم يسعدني هذا . فإنني أستغرق في تأمل ابتسامتها الحلوة , ونطقها الظريف لتلك اللغة , بالاضافة إلى قلب بعض الحروف المقاربة . .وعمومًا , فإن لدي علاوة على سني الكبير , دراسة أعمق في علم النفس !


وتضطرب آستا عندما تقترب الحصة من نهايتها:

- مرة أخرى , أنا اليوم التي تكلمت وتكلمت . . لكن لا بأس , في المرة القادمة ستتحدثون أنتم فقط وباللغة الاستونية .

- حسنًا . . أنا موافق .

لكن الحصة التالية ستكون في يوم الثلاثاء . وفي مساء السبت , وطوال الأحد , تسافر آستا للعمل في مزرعة جماعية , حيث تعد بعض المواد لصناعة الألبان ، كما تجري " بروفة " أخرى في النادي مع مجموعة من الممثلين الهواة . الخلاصة: سيكون عند آستا من الأشياء ما تتحدث عنه . وأنا أجتهد في أن أجعلها لا تخفي شيئًا أبدًا . لكن نادرًا ما تتحقق الآراء التربوية لدى آستا أكثر من الرغبة الطبيعية .


في الحصة التالية , بدأت آستا:

- سنذهب اليوم في رحلة متخيلة إلى المدينة . حديقة كادربورج . أنت رحّالة . تحدث .

- الحديقة كبيرة . في الربيع , الاشجار خضراء . وغير بعيد منها يوجد بحر بالتيسكو . إنه كالسلسلة .

وتقاطعني آستا:

- هذا ردئ . فإن تلك العبارات قد عرفتها منذ عام ونصف . فكر في شيء جديد . إذا شئت عن العشاق , الذين يجلسون هناك على المقاعد الرخامية .

وأؤكد بصورة قطعية:

- إنهم يتحدثون عن الحب . .

ثم أضيف , مفكرًا:

- لكن المقاعد قديمة !

ويبدو جيدًا أن الاحتياطي الضئيل جدًا من الكلمات الأستونية يمنع خيالى من التحليق !

وتتنهد آستا:

- لا يهم . سنخرج من الحديقة . . لكن إذا شئت : في محل أثاث . أنت مشترٍ , وأنا بائعة .

وبسرعة أصيح:

- أحتاج إلى رف كتب .

- لا توجد رفوف كتب . لكن توجد مقاعد وثيرة , ومناضد ,وأباجورات - أنت مثلًا: من المحتمل أن تكون لديك شقة جديدة . وينبغي أن تكون مريحة . مثّل بنفسك: تجلس في مكان هادئ , ومن السقف يسقط ضوء خافت . .

وأسأل متعمدًا اللهو:

- وأنت . . متى تحصلين على شقة يا آستا ؟

وتعبس آستا . من الواضح أن السؤال عديم اللياقة . فهي تستأجر حجرة في داخل شقة بمكان ما خارج المدينة . ومع أنها تأمل في أن تتبدل الحال , إلا أنها ما زالت سيئة .

وأحاول الاعتذار فاقول:

- لا تغضبي يا آستا . فأنا ببساطة لا أهتم بالأثاث الغالي . ما يهمني فقط هي أرفف الكتب .

- حسنًا . . حسنًا . لنذهب الآن إلى محل ثياب رجالي . أنت البائع وأنا المشترية . . أرني هذه البدلة الجميلة .

- إنها غالية جدًا . تساوي أكثر من 200 روبل .

- لا بأس . عندما تريد أن تدخل علي السرور , فلا تفكر في النقود .

- لكن أي سرور تحصلين عليه من شراء بدلة رجالي ؟

- البدلة تناسب زوجي

وفجأة أسألها بالروسية:

- هل أنت متزوجة يا آستا ؟

فتجيب بلهجة واعظ:

- أية جرأة . . إنما نحن نتمرن باللغة الأستونية !

وما تلبث آستا أن تخرج . وأظل أنا خلف نافذة الفصل ,

أشاهد شعرها الناعم وهو يتطاير في الريح . وأقول لنفسي:

- ربما لو كنت أصغر عشرين سنة . . كانت دروسنا تسير على نحو أكثر نجاحًا !

 


فاطمة

( حكاية من الفلوكلور الألباني )

 


ترجمها إلى الفرنسية روجر أرنالديز

ومن الفرنسية: أ. د. حامد طاهر

 


يحكى أنه كانت هناك ثلاث أخوات . صغراهن اسمها فاطمة . وكانت أجملهن . وفي ذات يوم , خرجت الأختان الكبريان , وسألتا الشمس ؟


" أيتها الشمس . . من هي أجملنا ؟ "

فقالت الشمس: فاطمة .

عندئذ راحتا تغرقان أنفسهما بالحلي والأساور , ثم في اليوم التالي , عادتا تسألان الشمس . ومرة أخرى , أعلنت الشمس رأيها لصالح فاطمة .


فكرت الأختان فيما ينبغي عمله , وقالتا فيما بينهما:

- غدًا , نتظاهر بأننا سوف نذهب إلى الغابة المجاورة ونغادر المنزل قبل فاطمة , ثم نقول لها: "حيث تكون جرتانا معلقتين , سوف تجديننا "

وهكذا بدا لهما حسن صنعهما . وفي اليوم التالي , قالتا لفاطمة:

- اكنسي المنزل . أما نحن فسنذهب لنجمع الحطب من الغابة . ويمكنك أن تجدينا حيث جرتانا معلقتان .


خرجت الأختان . وعندما انتهت فاطمة من الكنس كانت على الطريق . وفي الغابة , راحت تبحث هناك وهناك حيث يمكن أن تضع أختاها الجرتين . لكنها لم تجد شيئًا . لأن أختيها مرقتا من طريق آخر , عائدتين إلى المنزل .


لفت فاطملة الغابةألف مرة لكي تعثر على أختيها , فلم تجد لهما أثرًا . وعندما سقط المساء , تسلقت أغصان شجرة عالية , ولمحت على البعد ضوءًا يتلألأ . اتجهت ناحيته وأخيرًا حمدت الله أن وصلت إلى منزل , فدخلته .


كان هذا المنزل مأوى لأربعين لصًا . وكان هؤلاء اللصوص يسرقون أثناء الليل , وفي النهار يعودون . وكالعادة , رجعوا إلى المنزل في ذلك اليوم . وعلى طلقات بنادقهم انفتح الباب , فدخلوا , وجلسوا .

وعندما حان وقت الطعام . صفت الأطباق على مائدة رائعة . وقدمت ألوان الطعام الشهي . لكنهم لاحظوا وهم يأكلون أن هذا الطعام ليس من عمل طباخهم ( وهذا حق . . لأن الطباخ عندما رأي فاطمة , أحبها , وكلفها بإعداد الطعام ) وهنا سال اللصوص الطباخ:

- هل عندك أحد بالداخل ؟

وفي البداية لم يشأ الاعتراف , لكنه ما لبث أن قال لهم الحقيقة كلها . وهنا أراد كل منهم أن يتزوج فاطمة . . لكن خوفًا من أن يتصارع بعضهم مع بعض , تركوها لطباخهم , ثم خرجوا كلهم .

أما فاطمة , فقد أحبها اللصوص الأربعون كأنها أختهم تمامًا . وأحضروا لها ألف شيء طيب .

وعندما علمت الأختان بأن فاطمة على قيد الحياة , وأنها تزوجت في مكان ما , حزنتا حزنًا شديدًا , وقررتا أن تقتلاها بأية وسيلة .

وذات يوم , أرسلتا إليها عقدا من ذهب ( وكان مسمومًا , ومن طبيعته أن يقتلها عندما تضعه حول عنقها ) !

دخلت خادمة الأختين , وحيت فاطمة , متمنية لها صحة جيدة , كما أمرتها سيدتاها أن تفعل . ثم اعطتها العقد . وما أن تناولته فاطمة حتى وضعته في عنقها . وعلى الفور سقطت ميتة .

عاد اللصوص . وأطلقوا رصاص بنادقهم لكي ينفتح الباب . وعندما لم يسمعوا إجابة , قرروا اقتحام المنزل بالقوة , ودخلوا . . وعلى الفور , وجدوا فاطمة ملقاة في وسط الحجرة , فراحوا يحركون جسدها من هنا , ومن هنا , وأخيرًا نزعوا من عنقها العقد . وفي نفس واحد , بعثت من جديد . . ثم اخذت تقص عليهم من أي شيء ماتت , فنصحوها بألا تقبل فيما بعد شيئًا من أختيها .

لكن في اليوم التالي , عندما علمت الأختان بأن فاطمة ما زالت على قيد الحياة , أرسلتا إليها خادمتهما بمنخل ملئ بقطع من الذهب , مع بعض الاشواق والأماني التي نجحت مرة أخرى في خداع فاطمة , التي تناولت المنخل , وما كادت تفرغه في حجرها حتى سقطت ميتة .

عاد اللصوص من مغامرتهم الليلية , يصحبهم زوج فاطمة . ومن جديد وجدوها ميتة , فقاموا بتفتيشها , وأبعدوا القطع الذهبية المختبئة في حدرها . ثم اكدوا عليها . هذه المرة أكثر مما سبق , ألا تمس شيئًا مما يأتي من أختيها فيما بعد . .

واأسفا !! من جديد خدعت فاطمة . لأن أختيها علمتا بعد يومين أنها لم تمت , فأرسلتا إليها خاتمًا , أخذته فاطمة . وما كادت تضعه في إصبعها حتى فارقت الحياة .

عاد اللصوص من مغامرتهم الليلية . ومرة أخرى وجدوها ميتة . وفتشوها من هنا , ومن هنا . .لكن لم ترد على أذهانهم فكرة البحث في يدها . .

عندئذ بكوها . . ثم وضعوها في نعش , وغطوها , وأودعوا النعش في سنديانة , ينساب من تحتها جدول ماء . .

وذات يوم , جاء سائس الملك ليسقي حصانه من الجدول .

وما كاد الحصان يقترب حتى ارتد دون أن يلمس الماء , لأنه راي فيه ظل النعش . .

عاد السائس إلى الملك , وحكي له ما شاهد . فانتقل الملك بنفسه . وفي الموضع الذي ارتعد فيه الحصان , ألقى الملك ببصره في ماء الجدول فبدا له خيال النعش . . فامر بإنزاله , ورأي أنه يضم جسد فتاة , غاية في الحسن , فنقلها إلى قصره , حيث وضعها في أحد أجنحته .

مر الوقت . . وبدا جسد فاطمة ينحل . وأعضاؤها تضمر . وبعد عدة أيام , سقط الخاتم من إصبعها , وفي نفس اللحظة بعثت حية من جديد . .

وكانت سعادة الملك غامرة , فقرر أن يتزوجها . وعاشت طويلًا , وكانت دائمًا سعيدة .


 

 

الدب والدرويش

( حكاية من الفولكلور الألباني )

 

 

 

ترجمها إلى الفرنسية: روجر أرنالديز

ومن الفرنسية: أ. د. حامد طاهر

 

 


يحكى أن راعيًا كان يحرس قطيعه . وكان يعاني من التشدد في حراسته , لأن دبًّا كان يأتي كل يوم , ويلتهم من القطيع خمسة أو ستة خراف .


وذات صباح جميل , مر بالراعي درويش متجول . وبعد أن تبادلا التحية , قال الراعي:

- يوجد هنا دب شرس . لا يتركني هادئًا قط . في كل يوم , يخطف مني خمسة أو ستة خراف . ألا توجد وسيلة ضده ؟

فأجاب الدرويش:

- سأقتله في نفس المكان . ولن أطلب منك شيئًا سوى ثلاث قطع من الجبن الأبيض .

أسرع الراعي فأعطاه الجبن الذي طلبه . وجاء الدب كعادته ليخطف الخراف . وعندما وصل تقدم إليه الدرويش وبدأت بينهما مناقشة , لمعرفة من منهما أقوى من الآخر ، وبالطبع ظن الدب أنه هو الأقوى . لكن الدرويش قال له:

- إنني سأسحقك مثل هذا الحجر .

وفي نفس اللحظة , أخرج من جرابه قطعة الجبن الأبيض , ثم القطعة الثانية , وبدت القطع كما لو أنها دقيق مطحون . وزادت دهشة الدب فتخير هو أيضًا حجرًا أبيض من فوق الأرض , لكنه لم يقدر أن يفعل به مثلما فعل الدرويش .

عندئذ نشأت بينهما صداقة مشتركة ، وانصرفا معًا .

وبعد وقت قصير , جاع الدب , فطلب من الدرويش أن يذهب ليصطاد لهما ثورًا يأكلانه , قائلًا له إنه , في أثناء ذلك , سوف يجمع الحطب من الغابة

لكن الدرويش قال له:

- اذهب أنت لاصطياد الثور . لأنني لم أهتم باصطياد مثل تلك الفريسة الصغيرة ! إن ما يليق بي إنما هو اصطياد أسد !

وهكذا أتاحت له تلك الحيلة أن يتجنب اصطياد الثور . أما الدب فقد مر بجانب قطيع من الثيران , وبسرعة قفز على ثور وعاد به يحمله على كتفيه .


وفي تلك الأثناء , مضى الدرويش إلى الغابة . وهنالك . . ماذا فعل ؟

تناول حبلًا طويلًا , وربط به كل أشجار الغابة , كما لو أنه سيقتلعها بجذبة واحدة .

وعندما عاد الدب نادى على صديقه الدرويش . فلم يرد , فمضى الدب إلى الغابة , وشاهد ما أعده لاقتلاع كل أشجار الغابة بجذبة واحدة . زادت دهشة الدب من صديقه . وقال لنفسه: " إن هذا الرجل أقوى مني ألف مرة " ثم قال بعد ذلك بصوت عال:

- ما ستفعل بكل هذه الاشجار التي ستقتلعها ؟ خذ منها فقط فرعًا أو فرعين , وعد . .

فأجاب الدرويش:

- أنا لست الرجل الذي يأخذ قطعتين صغيرتين من الغابة لكنك أنت الذي يفعل ذلك .

وعندئذ جذب الدب فرعين كبيرين من شجرة . ثم عادا إلى مكان الثور , وراح الدب يقطعه .

لكن كان ينبغي أن يُطبخ الثور . فقال الدرويش:

- سوف أذهب لإحضار الماء , فابق هنا لتقليب الخشب بدلًا من أن تتعب نفسك ( قال هذا لأنه لم يكن بقادر على أن يقلب ثورًا ضخم الجثة ) .

- ثم أخذ وعاءً , ومضى به إلى نبع يفيض من صخرة . وبعد أن ملأه , وضعه على كتفه , لكنه لم يستطع أن يحتفظ به طويلًا , فتركه يسقط على الأرض , قبل أن يتهاوى من الإعياء .

انتظر الدب ساعة , ساعتين . . وأخيرًا اتجه إلى النبع , الذي ذهب إليه الدرويش . وعندما وصل قال له:

- لماذا تأخرت كثيرًا هكذا ؟

فأجابه الدرويش:

- كنت أفكر في طريقة لإحضار النبع من الصخرة التي يخرج منها ! ومع الأسف لم أستطع إحضاره كما ينبغي . وقد وجدت أن رجوعي وحدي بوعاء يُخجلني . أما أنت , فيمكنك حمله .

حمل الدب الوعاء على كتفه , ثم عاد الاثنان .

وبينما هما سائران , قال الدب للدرويش:

- هيا بنا نتصارع معًا لبعض الوقت ؟

فصاح الدرويش:

- انج بنفسك مني . . لأنني لا أرغب في أن أسبب لك أذى

- ومع ذلك , انتهى بهما الأمر إلى أن يتصارعًا . .

ضغط الدب على الدرويش بقوة جعلت عيني الدرويش تكادان تخرجان من رأسه . . وعندما شاهد الدب وجهه المنتفخ , وعينيه البارزتين , اللتين جحظتا بشدة , سأله:

- لماذا أصبحت هكذا ؟

فأجاب الدرويش:

- لأنني لا أعرف بالضبط أين أقذف بك . . من هنا فأمزقك قطعًا , أم من هنا , وهذا أسوأ . .

فقال الدب:

- اسمح لي أن أطلب عفوك . . وتركه .

وبعد وقت قصير , وصلا إلى موضع الثور المطبوخ وأخذا يأكلان . وبعد قطعتين صغيرتين من لحم الثور , توقف الدرويش عن الأكل فسأله الدب:

- لماذا توقفت ؟

- لم تعد لي حاجة للطعام , بعد أكل عدد من الخراف التي أكلتها وأنا ذاهب لحمل الماء ( وكان الدرويش أضعف من أن يلمس خروفًا واحدًا ) وبعد الطعام , اقترح الدب على الدرويش أن يصحبه إلى منزله كصديق عزيز . وأخذه إلى المنزل .

وما أن وصلا , حتى طلب الدب من أمه وأخته أن يشحذا له الفأس , لأنه صمم على قتل الصديق الذي أحضره , وهكذا يتخلص من الإنسان الذي اكتشف أنه أقوى منه . وما أن سمعت أخت الدب ( وكانت دبَّة طيبة ) هذا الكلام , حتى أسرعت إلى الدرويش , وحكت له كل شيء .

جاء الليل . وجلس الدب على المائدة . وأكلوا جيدًا , ثم تمددوا على الأرض . وناموا .

وبالطبع تظاهر الدرويش بالنوم , في المكان الذي اختاره أمام الدب , لكنه ما لبث أن اختبأ خلف "بردعة " حمار كانت ملقاة في المكان . وحوالي منتصف الليل , نهض الدب , وتناول فأسه , ثم أهوى به على جسد الدرويش ثلاث أو أربع مرات . وبعد أن أعتقد أنه انهرس تمامًا , عاد إلى مكانه , ونام .

قبل طلوع الصباح , نهض الدب , وذهب إلى الغابة .

وعند عودته ماذا رأي ؟ الدرويش ! وما أن رآه حتى راح يفرك عينيه , غير مصدق نفسه . ومع ذلك سأله:

- كيف أمضى ليلته ؟

فأجابه الدرويش:

- حسنًا جدًّا . . ما عدا لسعات برغوثين أو ثلاثة قرب منتصف الليل !

صدم الدب من الدهشة , حيث أن ضربات فأسه القوية لم تبدُ للدرويش إلا كلسعات البرغوث !

وفي حالة من عدم التماسك , اعترف الدب له بكل شيء , وتوسل إليه لكي يخبره كيف يصبح قويًّا مثله ؟

أجاب الدرويش:

- لا شيء أسهل من ذلك . وما عليك إلا أن تبحث لي عن قربة لبن .

ذهب الدب , وعاد بقربة لبن . فأشعل الدرويش النار , ووضع القدر عليها بعد أن ملأها باللبن .وعندما بدأت تغلي , قال الدرويش للدب:

- ضع رأسك هنا . . حتى تُصبح قويًا !

وضع الدب رأسه لأول مرة , فاحترق . ثم وضعها لثاني مرة . وفي ثالث مرة , دفعها الدرويش بقوة . .

وهكذا تركه يطبخ على نار مكمورة !

 

 

 

كيف سقط السروال من حسان

 

 


بقلم: فلاس دوروتشيفتش

ترجمها من الفرنسية: أ. د. حامد طاهر

 


نعم . . هذا هو عنوان القصة .

وفيما يلي ما حدث:

في بغداد , تلك المدينة الكبيرة و الجميلة , كان يعيش تاجرً غني ومحترم .

ماذا كان اسمه ؟

عندما كان يلهو تحت قدمي أمه ( أليست الجنة تحت أقدام الأمهات ) نادته: " حسان السعيد " . . وكان شابًا جميلًا , وذكيًا , وغنيًا . . غنيًا جدًا . ولم يكن شيء ينقصه . ومع ذلك فقد قرر ذات يوم أن يتزوج .

وما أن قال حتى فعل . خطب أجمل فتاة في المدينة .

كانت . . كانت . . كلًا . إن الكلام يعجز عن وصفها .

الموسيقى وحدها هي التي يمكن أن تعبر عن جمالها .

وباختصار , كانت جميلة مثل حبيبتك يا سيدي . .ومثل حبيبتك أيضًا , ومثل حبيبتك يا سيدي العزيز ( وبهذه الطريقة , أتمنى أن أرضى كل الأذواق ) ودعا حسان بغداد كلها إلى وليمة . وكانت فرصة برهن فيها طباخو المدينة الأسطورية على أنهم يعتبرون بحق في طليعة طبّاخي العالم .

وبين قطعان الأغنام , انتشرت شائعة نحس تقول:

" لقد حانت نهاية العالم , فقد عقد حسان العزم على القضاء على كل الخراف , وأن يحشوها بالفستق , ويقطعها شرائح لضيوفه . . "

وفي ذلك الزفاف البهيج , الغني , الفخم , ذرفت النساء دموعًا رقيقة من الغيرة , في الوقت الذي اتخمن بالشراب , والفطائر , والمربى المزينة بزهور الخوخ , والجوز , والمشمش . .

أما الصبايا , فلم يأكلن إلا مربّى الليلك , والياسمين المعقودة بالسكر , وقد أقسمن ألا يذقن شيئًا آخر غيرها , حتى يوم زفافهن .

دارت الرأس بالكثير من ألوان الموسيقى . . أما الشبان , فقد كانوا يقفون على أرجلهم بصعوبة من كثرة ما رقصوا . والخمر , التي يحرمها القرآن الكريم , صرعت الشيوخ وكبار السن , مثل عبد رقيق ارتمى على أقدامك ليقبلك . .

وأخيرًا جاء منتصف الليل . . الساعة المنتظرة . النساء اصطحبن العروس إلى غرفة نومها البديعة . وبين التضاحك والهزر , خفّفنها من ملابسها , ووضعنها فوق سرير العروس , المزين بستائر الدنتيللا . .

وذهبت المواشط يبحثن عن العريس . وفي صحبة أصدقائه , جاء حسان , وجلس كرجل شاب , حكيم . . جاء بخطى فرحة و نشطة , لكن دون استعجال . لأن الحكيم لا يستعجل أبدًا: لا للمقصلة ولا للزفاف ! ولأي شيء جميل يستعجل , ما دامت الحياة نفسها تنساب كسهم ! وبدون استعجال , جلس حسان على الكنبة , في مواجهة السرير ذي الستائر المحلاة بالدنتيللا . وبدون استعجال , أصغى لتهاني أصدقائه , وأمانيهم الطيبة . وبدون استعجال ,نهض , وقال:

- إنني أحييكم , يا أصدقاء صباي , وأقول: وداعًا لحياة العزوبية .

وبدون استعجال , اتجه نحو السرير .

لكن في تلك اللحظة , وفجأة . . سقط السروال من حسان . وأحدث المنظر عاصفة من الضحك:

العجائز نبحن كما لو أن أحدًا خنقهن . وضحكات النساء الشابات رنت كما لو كانت أجراسًا . أما الرجال , فقد انكفاوا على الأرض . . والعروس , التي رأت كل شيء من خلف ستائر الدنتيللا , استولى عليها سرور جنوني , ولكي تخفيه , راحت تحرك بيأس أساورها وحليها .

لقد أغمى على الجميع من الضحك . .

أما حسان فقد ظل في مكانه مشلولًا , وساقاه العاريتان حمراوان من الخجل . وباضطراب شديد , تناول حسان سرواله , واندفع خارج البيت . وفي الفناء الواسع , قفز على أول حصان وجده , وكان يخص بالتأكيد أحد المدعويين . وهمزه بشدة , ثم ركض بأقصى سرعة , وهو يسمع ضحكًا هائلًا يتبعه . .

بأية سفاسف ترتبط أحيانًا سعادة إنسان ! ومثل مجنون , اندفع حسان , يحث حصانه بغضب , إلى الأمام , في مغامرة مجهولة العواقب . .

وفي صباح اليوم التالي , أبصر أمامه في الأفق مدينة دمشق . يقال إن خبز المنفي مر . ليس هذا حقًا . خبز المنفي ليس مرًا ولا حلوًا . لأن أرض المنفي لا تنتج خبزًا قط للمنفيين . خبر المنفي ليس له طعم .

مسكين . . وبدون درهم في كيسه , وجد حسان نفسه في شوارع مدينة غريبة . في المدينة الغريبة: كل كلب متوفز لن يلقي بنفسه عليك , كما لو كنت لصًا . . في المدينة الغريبة: كل باب ينتظر أن تقترعه لكي ينغلق في وجهك في المدينة الغريبة: كل حجر مستعد لكي يطير فوق رأسك . .

ليس في المدينة الغريبة سوى الأشجار . وهي وحدها التي تستقبلك بمودة , مادة لك فروعها المحملة بالزهور , وكأنها تقول لك: " اشنق نفسك " . وبرهبة , تأمل حسان المدينة الغريبة , ثم مضى إلى السوق . . وهناك باع حصانه المجهد , واشترى بثمنه لوزًا محمصًا . وحمل الكيس على كنفيه , متوقفًا عند مشربيات المنازل لكي ينادي:

- ها أنا . . جئت من بعيد . أبحث عن أسنان امرأة يمكنها أن تنافس في بياضها ما معي من اللوز . . ها ها اين هنا الأسنان الأكثر بياضًا ؟

وجاءه الصوت من خلف المشربيات:

- ومن يضمن لنا ألا تنكسر أسناننا تحت لوزك ؟ !

وأجاب حسان بتواضع:

- لا تخشى شيئًا يا سيدتي . . بمجرد أن يشاهد اللوز بياض أسنانك سوف ينهرس من الغيرة . وعندئذ لن يكون بك حاجة إلى تكسيره !

وما أن انتصف النهار , حتى كان كل اللوز قد تم بيعه .

قام حسان بمراجعة أرباحه , ثم اشترى " برتقالًا بدمه "

- أين إذن الشفاة الوردية التي يمكنها أن تنافس برتقالي الأحمر ؟

وأجابه الصوت من خلف المشربيات:

- هل برتقالك حقيقي كما تقول ؟

- آه يا سيدتي . . إن الغيرة ستحول برتقالي إلى دموع في اللحظة التي يصبح فيها بين شفاهك .

ولم تكن الشمس قد انحرفت من وسط السماء بعد , حين تم بيع البرتقال كله .

تاجر حسان في كميات ضخمة من الفواكه والمكسرات , واشتهر في السوق , وفتح له اعتمادًا , ثم ما لبث أن ترك تجارة الفاكهة لكي يمارس تجارة المجوهرات .

وفي يوم الاثنين , عندما تقتصر زيارة السوق على النساء فقط , تبعًا للتقليد المتبع في بلاد الشرق , قام حسان , ذو اللحية المجعدة , بعرض بضاعته , مبتسمًا بوداعة:

- سيدتي الجميلة . . سيدتي الجميلة . . هل ترغبين في ألا تذرفي دموعًا بعد الآن ؟ اشتري إذن هذا الحلق . . انظري أية لآلئ ؟ إنها دموع حقيقية . الدموع تجمل المرأة . هذا هو القدر . . القسمة . . اشتري هذا الحلق , وثقي بأن الدموع لن تلمع قط في عينيك . اشتري نعمة القدر . أليس من الأفضل أن تتلالأ الدموع في أذنيك , بدلًا من عينيك ؟ !

- سيدتي الجميلة . . سيدتي الجميلة . . يا ذات الجمال الساحر . . لا تشتري شيئًا . . اكتفي فقط بالمشاهدة . إن نظراتك ستحول زرقة هذه اللآلئ التركوازية إلى زرقة السماء . قولي لحبيبك أو زوجك أن يشتري لك " بروشًا " تركوازيًا . حتى يضع فوق صدرك قطعة من السماء . .

- هذا ياقوت , أزرق وعميق مثل البحر . وهذا ياقوت أحمر مثل نقطة الدم . إنه يضيء في الظلمة . سيدتي الجميلة . اطلبي من حبيبك أو زوجك أن يقدم لك هدية من هذا البحر , أو من نقطة الدم تلك . . لكنني أنصحك أن تأخذي نقطة الدم . فإن نقطة الدم تثير من العواطف ما لا يثيره بحر بأكمله !

- سيداتي الجميلات . . سيداتي الجميلات . . وهذه لآلئ ..

- أنا أخشاها . . فإن اللآلئ تعنى الدموع !

- الصغيرة وحدها يا سيدتي . . الصغيرة وحدها . .اللآلئ الصغيرة هي التي تسبب البكاء . أما اللىلئ الكبيرة فإنها لم تبك امرأة قط .

وهكذا بالضحك والملاطفة كان يتاجر حسان . وأصبح غنيًا , وفي نفس الوقت , معروفًا في دمشق كلها .

وبلغت أخباره إلى السلطان نفسه . الله وحده هو السلطان . لا سلطان إلا سلطان السلاطين , وهو الله . الله أكبر .

ورغب السلطان في أن يرى محبوب الجميع , وينعم بآرائه وعقله .وفي أثناء المقابلة , قال له السلطان:

- أصعب شيء بالنسبة للسلطان هو اختيار وزرائه .

فانحنى حسان بعمق قائلًا:

- لا أحد يعرف هذا أفضل منك أيها السيد العظيم . . أما بالنسبة لي فلا أعتقد في صعوبته . فإن هذا يحدث عندنا بصورة عادية جدًا . إننا نعين شخصًا , أي شخص , ونعمل منه وزيرًا , ونعلن: " أيها الناس . . هذا رجل ذكي . عليكم أن تطيعوه . وإلا . . فحذار لرقابكم ! " وبدلًا من أن نجلب على أنفسنا كلام الناس , فإننا نختار الشخص الأكثر ذكاء , ونعمل منه وزيرًا . .

وهز السلطان رأسه:

- عجيب أن هذه الفكرة لم ترد على ذهني أبدًا . أخذ شخص ذكي , وتعيينه وزيرًا . حسان . . إنك رجل ذكي . وقد عينتك وزيرًا .

- أوه يا سيدي . . لا تتوقع مني إلا الطاعة .

أصبح حسان وزيرًا كبيرًا . كان طيبًا , وعادلًا , وحكيمًا . وأحبه الأخيار , أما الأشرار فخافوه . وأعجب الجميع بقوانينه التي أملاها , ولاحظ سكان دمشق كلهم بامتنان:

- أي وزير لنا ! إنه ليس نبيلًا ولا مشهورًا . . يكفينا أنه ذكي.

ومرت عشر سنوات .

واستدعى سلطان دمشق وزيره المفضل , وقال له:

- حسان . . بارك الله في اليوم الذي تركت فيه موطنك الأصلي , وأتيت تقيم بيننا . وبارك الله في القرآن الذي يوصينا بإكرام الغرباء . ها هي عشر سنوات قد انقضت , وأنا أتبع فيها نصائحك , وأنفذ مشيئتك لصالح دمشق . .

أما الآن , فإنني أرغب إليك في أن تصغى جيدًا لكلامي , وتنفذ مشيئتي . اسمع يا حسان . . لم يعد أمامي وقت طويل لكي أستفيد فيه من نصائحك الطيبة . فما أقصر الطريق الذي يفصلني عن القبر, حتى أنني لا أكاد أجد الوقت الذي أنظر فيه خلفي . . وأنا أرى أن دمشقي العزيزة سعيدة بحكمك , وأريد أن أضمن لها هذه السعادة . . حتى آخر أيام عمري .

اسمع يا حسان . . ليس لي وريث . وسأعطيك ابنتي العزيزة زوجة لك وأجعل منك سلطان دمشق . . اسمع وأطع .

عندئذ قبل حسان الأرض بين يدي السلطان , وقال:

- لا تنتظر مني غير الطاعة , أيها السلطان . الله وحده هو السلطان , ولا سلطان إلا سلطان السلاطين . وهذا هو ما قاله لي:

" حسان إن مدينة دمشق رائعة . لكن وطنك هو بغداد . هناك فتيات جميلات في العالم . لكن لا يوجد أجمل من تجاعيد الأم ! والذي يفضل أن يكون سلطان بلد أجنبي على أن يظل مواطنًا بسيطًا في وطنه . . ليس أهلًا لأن يكون مواطنًا بسيطًا في بلده , ولا سلطانًا لبلد أجنبي "

هذا هو ما قاله لي سلطان السلاطين , الذي ينبغي أن يسكت أمامه كل سلاطين الأرض .

وهنا تملك سلطان دمشق غضب شديد:

- هكذا أيها الخادم ترفض ان تنفذ إرادة سيدك ؟ ! إنني أريد أن أجعلك سعيدًا وسأجعلك سعيدًا .

وهذا هو ضعف السلاطين: يعتقدون أنهم يستطيعون أن يجعلوا الناس مشهورين , وأغنياء , وأقوياء . . وكذلك سعداء !

ولكي يجعل السلطان حسانًا سعيدًا , وضعه في السجن . لكنه هرب . جهز حصانه , وملأ كيسه بالذهب, ورحل في منتصف الليل . . إلى بغداد .

انطلق هامزًا حصانه . وحيث أنه غاب عشر سنين عن وطنه , لم يدع الحصان يلتقط أنفاسه طوال الطريق . .

وحين برزت من خلف التلال الأشعة الأولى من الشمس رأى حسان أبواب بغداد .

وبدا له أن الأشجار لا تزهر ولا تثمر في أي مكان في العالم , كما تزهر وتثمر حول بغداد .

وكذلك المآذن . . لا ترتفع في السماء بمثل تلك العظمة التي ترتفع بها في بغداد .

ونزل من فوق حصانه , وسجد مقبلًا الأرض . وفي تلك اللحظة كانت هناك امرأة عجوز متسولة , تجلس في ظل بوابة المدينة , وهي تفلي شعر حفيدتها الصغيرة من القمل . وصاحت الفتاة:

- انظري يا جدتي ما يفعله هذا الرجل . . إنه يأكل الأرض !

فأجابتها العجوز:

- اسكتي يا حمقاء . . إنه لا يأكلها , بل يقبلها . ثم إن هذا ليس من شأنك . ربما كان هذا الرجل يحب وطنه , وربما يكون أيضًا مخمورًا . . ومن الأفضل ألا يكون هذا أو ذاك . لكنك يجب أن تعرفي الآن . . فقد أصبحت كبيرة .

وتساءلت الصغيرة في بلاهة :
- وكم عمري الآن يا جدتي ؟
- عمرك . . إنك في الحادية عشرة . فقد ولدت في السنة التي سقط فيها السروال من حسان في ليلة عرسه !

هنا شعر حسان أن وطنه يبصق في وجهه . وخاطب نفسه:

- الله أكبر . آه . .الله أكبر , وكريم , ورحيم . إنهم يؤرخون باليوم الذي سقط فيه سروالي . وها هي طفلة صغيرة , تجهل عمرها , تعرف أنه منذ عشر سنوات . . سقط من حسان سرواله !

لقد عشت وجودين . وأصلحت حياتي . . من بائس مسكين إلى إنسان غني . ووصلت إلى قمة السلطة , وحكمت بلدًا , وأمليت قوانين حكيمًة وجعلت دولة بأكملها سعيدة . وكان من الممكن أن أكون سلطانًا . . وأول امرأة فقيرة أقابلها , تبحث عن قمل في شعر حفيدتها الصغيرة , لا تستطيع أن تنسى أنه منذ عشر سنوات قد سقط سروالي !

قفز حسان إلى سرج الجواد , وحول وجهه , واندفع في المغامرة . .

هذا هو ما يعلمه من الناس .

لكن الله وحده يعلم ما في أعماقهم .



 

الشمعدان


 

 

بقلم الكاتب الروسي الكبير تشيكوف

ترجمها من الفرنسية: أ. د. حامد طاهر

 


وضع الشاب ساشا سيمرنوف ، الابن الوحيد لأمه ، تحت إبطه شيئًا ملفوفًا في العدد 23 من جريدة أخبار البورصة ، ثم مد رقبته ، ودخل إلى عيادة الدكتور كونشيلكوف ، الذي صاح عندما رآه:

- حسنًا يا صغيري . . بم تشعر الآن ؟ أية أخبار طيبة تحملها ؟

أغمض ساشا عينيه ، ووضع يده على صدره ، وقال بصوت خفيض:

- أمي تبعث إليك بتحياتها . وقد كلفتني أن أشكرك - أنا الابن الوحيد لها - لقد أنقذت حياتي يا دكتور . . شفيتني من مرض خطير . ونحن الاثنان لا نعرف كيف نعبر لك عن امتناننا ؟!

قاطعه الطبيب:

- لا تتحدث عن هذا يا صغيري . .

استمر ساشا :

ــ إنني الابن الوحيد لأمي . ونحن فقراء . وبالتأكيد ، في حالة لا تسمح لنا بأن ندفع ثمن العلاج . وهذا يمزقنا يا دكتور . . ومع ذلك ، فإن أمي وأنا - الابن الوحيد لها - نتوسل إليك أن تقبل - كرمز لعرفاننا بالجميل - هذه الهدية القيمة ، من البرونز القديم . . هذا العمل الفني الرائع!

احتج الدكتور:

- إنك مخطئ تمامًا . . على أي شيء كل هذا ؟!

- كلا . . لو سمحت . . لا ترفض (وفتح ساشا اللفة) فإن رفضك يؤلمنا ، أمي وأنا . . فهذا شيء جميل من البرونز القديم . . لقد أحضره إلينا أبي منذ زمن ، ونحن نحتفظ به كذكرى عزيزة . كان أبي يشتري البرونز القديم ، ثم يبيعه للهواة . . والآن نحن نواصل هذه التجارة البسيطة: أمي وأنا . .

ثم رفع ساشا الهدية ووضعها على مكتب الطبيب . كانت عبارة عن شمعدان ، متوسط الحجم ، من البرونز القديم ، مصنوع بمهارة . ومن القاعدة ينهض تمثالان لامرأتين عاريتين تمامًا ، وفي وضع لايمكن وصفه . أما الوجهان ، فكانا يبتسمان في غنج واضح ، وعلى نحو يظهرأنهما غير قادرين على حمل الشمعدان ، وأنهما على وشك أن يقفزا من القاعدة لكي ينطلقا إلى الحجرة في رقصة عربيدة لا يمكن تخيلها !

وما كاد الدكتور يرى الهدية ، حتى حك أذنه من الخلف بهدوء ثم سعل ، ومخط بدون حماسة ، وغمغم قائلاً:

- أجل . . هذا في الواقع شيء جميل . لكن . . ماذا أقول . . إنه إباحي أكثر من اللازم . . إنه ليس عاريًا فقط . . بل أسوأ !!

- لأي سبب ؟

- الشيطان نفسه لا يمكن أن يتخيل ما هو أكثر شناعة من ذلك . . إن وضع مثل هذا الفحش فوق المكتب يدنس شقتي كلها !

قال ساشا مدافعًا:

- أي تصور غريب هذا الذي لديك عن الفن يا دكتور ! إنه قطعة فنية . تأمله جيدًا . هذا الجمال ، وتلك الأناقة تملأ النفس بالتقدير . إنه يأخذ اللب . . ونحن بتأملنا هذا الكمال الفني ، ننسى الأشياء الأرضية . . انظر أي حركة يصورها ، وأي تعبير دقيق يكشف عنه!

قاطعه الدكتور

- إنني أفهم كل هذا جيدًا يا صديقي . لكن لي أسرة . وأطفال يلهون هنا ، وتأتي لزيارتي سيدات محترمات . .

- بدون شك . إذا أخذنا وجهة نظر الرجل العادي ، فإن هذه التحفة الفنية ستظهر من زاوية أخرى تمامًا . . لكن يا دكتور ، ضع نفسك أعلى مستوى من الشخص العادي . ثم بالإضافة إلى ذلك ، فإن رفضك الهدية سوف يؤلمنا كثيرًا . أمي وأنا . . الابن الوحيد . لقد أنقذت حياتي ! ونحن نقدم إليك أغلى ما عندنا . وما يؤسفني أكثر إنما هو عدم وجود الشمعدان الآخر الذي يكون مع هذا الشمعدان: زوجًا رائعًا !

- شكرًا يا عزيزي . . إنني شاكر لك من أعماقي . تحياتي إلى والدتك . ومع ذلك أرجو أن تقدر بنفسك أن أطفالي يلعبون هنا . وتأتي لزيارتي سيدات محترمات . وأخيرًا . . فسوف أحتفظ به . من المستحيل أن أشرح لك السبب . . الأسباب التي . .

- لا شيء يستحق الشرح . ضع الشمعدان هنا , قريبًا من فازة الزهور. آه . . خسارة كبيرة ألا يكون هنا الشمعدان الآخر . كم أنا آسف لذلك ! إلى اللقاء يا دكتور . .

بعد رحيل ساشا , تأمل الدكتور الشمعدان طويلًا , وحك من جديد أذنه من الخلف , وفكر:

" من المؤكد أنه تحفة فنية رائعة . . لكن من المؤسف أن أقذف به . ومستحيل أن أحتفظ به لدي . آه . . إنها مشكلة . . لمن أقدمه ؟ "

وبعد أن فكر طويلًا , تذكر صديقه العزيز , المحامي (كريبونوف ) , الذي قدم له خدمات قانونية عديدة . وقرر الدكتور:

" هذا رائع . لأنه باعتباره صديقًا , سيكون من الإحراج أن يقبل مني نقودًا على أتعابه , وعندئذ يصبح من اللائق أن أقدم له هذه الهدية . سوف أحمل له تلك التحفة الشيطانية ، خاصة وأنه أعزب ومتحرر .. "

وبدون وعي , ارتدى الدكتور ملابسه , وأخذ الشمعدان , وذهب إلى كريبونوف . وعندما وجده صاح:

- مرحبًا يا صديقي الأثير . ها أنا ذا . . جئت أشكرك على خدماتك الجليلة لي . أنت لا تقبل النقود مني . حسنًا . . اقبل إذن هذه التحفة . هاك أيها العزيز . .

وما أن رأى المحامي الشمعدان , حتى صاح بحماسة:

- أوه . . إنه مشهور !

ثم استغرق في الضحك قائلًا:

- هذا ما يحول قديسًا إلى ملعون ! رائع ! بديع ! أين عثرت على تلك الجوهرة؟
ثم بعد أن عبر عن حماسته , ألقى المحامي نظرة خوف ناحية الباب ثم اقترب من الدكتور قائلًا:

- فقط يا رفيقي , أرجوك أن تحمل هديتك , فإنني لا أريدها .

وهنا صاح الدكتور:

- لماذا ؟

- لأنني أستقبل أمي هنا . وكذلك الزبائن . . ثم . . ثم إن هذا مزعج بسبب الخادمة .

- كلا . . كلا . . سوف يكون هذا العمل غير ودي تمامًا من جانبك . انه غنه تحفة . انظر هذه الحركة . . وهذا التعبير .

ــ كفانا جدالًا . . فإنك تهينني . . لو كان له فقط بعض الملابس . . أو حتى ورقة عنب تستره !

لكن الطبيب هز رأسه , وأسرع بالاختفاء من شقة كريبونوف، سعيدًا بأنه قد تخلص من هديته , وعاد إلى منزله .

لكن المحامي عندما خلا لنفسه , وراح يفحص الشمعدان , ويتحسسه من جميع النواحي , على غرار ما فعل الطبيب , وفكر مليًا:

" ماذا يفعل بتلك الهدية ؟ إنها في الواقع تحفة رائعة . ومن المؤسف التخلص منها . لكن الاحتفاظ بها مع ذلك غير لائق . الأفضل إذن أن أقدمها لأحد . الليلة أقدمها هدية إلى الممثل ( شايكن ) . فهو الشخص الذي يحب التحف التي من هذا النوع . وسوف يكون هذا عملًا في موضعه , حيث أنه سيقدم الليلة عرضًا مسرحيًا خاصًا به . ."

استقر المحامي على تلك الفكرة . ثم قام بتغليف الشمعدان بعناية , وقدمه إلى الممثل شايكن .وطوال السهرة , ازدحمت غرفة الممثل بالأصدقاء الذين راحوا يبدون إعجابهم بالهدية . ومن بين الزحام , سمعت تعليقات حادة , وضحكات مكتومة تشبه صهيل الخيل . .

وعندما اقتربت ممثلة من باب الغرفة , وسألت: هل يمكن الدخول ؟ اندفع صوت الممثل المبحوح :

- كلا . . كلا يا عزيزتي . . أنا غير مرتد ملا بسي .

وبعد العرض , هز الممثل كتفيه , وفرد ذراعيه , وقال:

- حسنًا ! اننى أستقبل فنانين . وليست هذه صورة فوتوغرافية حتى يمكن إخفاؤها في دولاب !

ونصحه عامل الماكياج قائلًا:

- إذن بعه يا سيدي . . هناك في القلعة امرأة عجوز تشتري البرونز القديم اذهب إلى هناك واسأل عن السيدة سيمرنوف . . الناس كلهم يعرفونها .

استمع الممثل إلى النصيحة .

وبعد يومين . . وبينما كان الدكتور كونشيلكوف يجلس واضعًا يده على جبهته. ومستغرقًا في التفكير حول حامض المرارة . . انفتح الباب فجأة , ودخل ساشا سيمرنوف .

كان يبتسم مزدهرًا . ووجهه كله يوحي بالسعادة . وفي يده , كان يحمل شيئًا ملفوفًا في ورقة جريدة . وبدأت أنفاسه تهدأ:

- دكتور . . تصور مدى فرحتي . . وأية سعادة بالنسبة لك . لقد نجحنا في الحصول على الشمعدان الآخر لشمعدانك ! إن أمي سعيدة للغاية وكذلك أنا - الابن الوحيد لها - لقد أنقذت حياتي . فخذ إذن يا دكتور , خذ . .

وبارتجاف من يعترف حقيقة بالجميل , وضع ساشا الشمعدان أمام الطبيب , الذي فتح فمه , وأراد أن يتكلم . .

لكنه لم يستطع أن يخرج صوتًا . كان قد فقد القدرة على النطق !

 

 

الوظيفة السهلة

 

 

بقلم : جو فارنا

ترجمها من الفرنسية:

أ. د. حامد طاهر

 


أسكن في قلب مدينة القاهرة . شارع المدابغ . منذ وقت ما , أعتقد أن الشارع قد تغير اسممه ( أصبح الآن شارع شريف ) . لماذا ؟ لا أدري . لكن الناس استمروا يسمونه المدابغ . هذا أكثر راحة .

كل يوم أغادر المنزل في الساعة الثامنة . أحيانًا في الثامنة والربع . عندما أصل إلى الوزارة , لا يكون على سوى نصف ساعة فقط تأخير ! آخرون يكون عليهم ساعة . الرؤساء أنفسهم لا يصلون قبل الساعة الحادية عشرة .

في الشارع , وفي مواجهة المنزل , يوجد " بار أمريكاني " . في العادة عندما أخرج في الصباح . تكون واجهته الحديدية مغلقة . الواجهة كلها سوداء .

وفي بعض الأحيان , يخرج الجرسونات صناديق الزجاجات الفارغة . أما اليوم فالواجهة الحديدية نصف مرفوعة . وهناك ورقة من الكرتون معلقة في الواجهة . لم أرها بالأمس . اقتربت . أقرأ:

"مطلوب شخص حسن المظهر لوظيفة سهلة بأجر مجز " .

إعلان مضحك . أعود مسرعًا إلى الرصيف . إنني كثيرًا ما أتجول في الصباح . أقوم برياضة المشي , وخاصة عندما يكون الجو ملائمًا . لا ينبغي أن أصل إلى عملي متأخرًا عن العادة . وظيفة سهلة . لابد أنها مثيرة . أجر مجز !

كم يمكن أن يدفعوا لهذه الوظيفة ؟ أعود ناحية البار . الأمر يستأهل المحاولة .

الصالة طويلة . ضيقة . خالية تمامًا . إنها مقبضة . بار فارغ . كل هذه الزجاجات التي تلمع في الأضواء , تبدو الآن رمادية , ومتسخة . وهذه المنضدة الطويلة الفارغة . لا أحد ينحني فوقها . وهذه الثريات العالية جدًا مضحكة . هناك شخص على الخزينة . سيدة .

- أريد أن أرى صاحب المحل .

تجيب السيدة:

- أنا صاحبة المحل . لأي موضوع ؟

- بخصوص الإعلان .

السيدة تتفحصني . ترمقني من الرأس إلى القدم .

- يبدو عليك فعلًا أنك حسن المظهر . هل تتحدث الإنجليزية والفرنسية والعربية ؟ أنا أعتقد أنه يمكن أن تشغل الوظيفة .

- والعمل يا مدام . . مم يتكون بالضبط ؟

- إدارة الاسطوانات . .

لقد قالوا لي دائمًا إنني حسن المظهر , وقد انتهيت بتصديق ذلك . لكن إدارة الاسطوانات ؟ !

- أنا لا أفهم تمامًا .

تشرح لي السيدة:

- عندنا هنا مانياتيفون ( جهاز اسطوانات ) كهربائي . ومهمتك أن تختار الاسطوانات . وتضعها على الجهاز عندما يعمل . .
الواقع أنه بالنسبة لوظيفة سهلة ، ليس هذا صعبًا على الإطلاق . لكنني نسيت سؤالاً هامًّا . وبقدر كبير من التعثر ، سألت:

- وبالنسبة للأجر يا مدام ؟

- خمسة عشر جنيهًا . . خمسون قرشًا في اليوم . هذا أجر طيب . ستعمل من الخامسة عصرًا حتى العاشرة مساءً . كل أيام الأسبوع . ومن النادر جدًّا أن ترحل بعد العاشرة مساءً . إنه عمل سهل . ثم إنه سيكون لديك علاوةً على المرتب الشهري: بقشيش الزبائن !

يؤسفني هذا . أحس بالعار .

- أشكرك: سأفكر في الأمر . إلى اللقاء يا مدام.

ها أنا في الشارع . في اتجاه الوزارة . منذ خمس عشرة سنة وأنا موظف . مرتبي لا يتجاوز عشرة جنيهات وعدة قروش بالضبط . لأنه ينبغي أن نحسب الاستقطاعات والضرائب والإيجار وكل المصاريف الأخرى . إنني أعمل من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الثانية ظهرًا . حقيقة لا أقوم بعمل كبير . لكنني لست أحمق . إنني محترم . يلزمني مع ذلك أكثر من عشرة جنيهات في الشهر . أنا محترم في الظاهر فقط . أعتني كثيرًا بملابسي . هذا حق . قمصاني قلبت ياقاتها وأكمامها . حتى ذلك القميص الذي أرتديته يبدو أنه نظيف لكن ياقته قد استهلكت من الداخل . يجب إلقاؤها بعد غسلة أو اثنتين .

عشرة جنيهات في الشهر . وقريبًا جدًا أبلغ الأربعين . يلزمني شراء رباط عنق جديد . ذلك الرباط الأزرق الذي رأيته في الشهر الماضي في شارع قصر النيل من الحرير الطبيعي ثمنه 250 قرشًا . يلزمني عمل ذو أجر مجز . خمسة عشر جنيهًا لإدارة الاسطوانات . . هذا غير ممكن !

ها هي الوزارة . لا شك أن تلك الجولة أراحتني . الساعة الآن التاسعة تقريبًا . ماذا سيقولون لي ؟ بماذا أجيبهم ؟

هل سيجرؤون أن يقولوا شيئًا ؟ إنني اعمل كثيرًا بالنسبة لعشرة جنيهات في الشهر . إلى متى أظل أجدف هكذا , وأسبح في هذا الصمغ ؟ !

ما أقذر هذا الحي ؟ شوارعه الضيقة . الجو اليوم ملئ بالرطوبة . وبصعوبة أكاد أستنشق . ها هو مكتبي .

- صباح الخير يا سادة.

تحية انتصار متحررة . لا ينبغي أن يكون الإنسان مخلصًا . لا أحد يستأهل . لكن يجب أن يأخذ المرء حذره . وألا ينخدع . ضحك قوي بدون سبب ومن وقت لآخر , أفكر بعمق متخذًا مظهلرًا جادًا . وفجأة . . مظهر الأبلة المشغول جدًا . .

من وراء الملفات , أنظر حولي . دائمًا نفس الوجوه . من المؤكد أن الحال لا يكون كذلك في بار . دائمًا نفس الجدران .

رؤوس غربان وقردة وبجع وبوم . . رؤوس صلعاء , ووجوه نحيلة , بائسة , منهكة . . طيور مرتجفة من الخوف .

- لماذا وصلت اليوم متأخرًا ؟

- كنت مريضًا . .

اشكروني مع ذلك أنني أتيت . أما الزميل الذي يجلس إلي جواري , فإنني أقص عليه حكاية الإعلان . لا يريد أن يصدقها . لا أعطي له العنوان . ربما يكون طامعًا فيها , ويأخذ مكاني .

إذا عملت في هذا البار , فإن ذلك لن يضايقني في شيء على الإطلاق . إنه في مواجهة المنزل . يكفي أن أهبط السلام . أية حياة ضيقة أعيش فيها ؟ ! لقد ولدت مثل دودة , وكبرت مثل خنزير , ومن قبل أن أبلغ العشرين وأنا أجرجر هيكلي على الأرض . وذات يوم سأموت . سأموت دون ضجة ودون طبول . وحيدًا . في الصمت .كطائر . لا أحد يعلم بموتي .

خمسة عشر جنيهًا للعمل بعد الظهر . إن هذا يجمع لي خمسة وعشرين جنيهًا في الشهر . إنني في كل صباح أسأل نفسي عما أفعله خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة . أي سعادة تخبئها لي الأربع والعشرون ساعة ؟ لا شيء . لا شيء على الإطلاق !

وفي المساء أنام . أنام وحيدًا , مثل حيوان , من التعب . أتلاشى في الظلام لحسن الحظ أن النهار يكون دائمًا أفضل .

لكن بعد ذلك بعد عشر ساعات , أبدأ في الإحساس بالملل .

العيون خادعة . والناس الذين يبتسمون مزيفون . ابتساماتهم مبتذلة .

لقد أوقعوا على في العمل عقوبات كثيرة . كم ؟ عدم انتظام في العمل . تأخر عن المواعيد الرسمية . افتقاد احترام الآخرين !

أما الزيادة في المرتب فلم أرها أبدًا .

إدارة الاسطوانات . هذا أمر معقد . الموظف الذي يجلس بجواري سخر مني . قال لي:

- هذا طبيعي . ستصبح رئيس الأوركسترا في البار !

حقيقة أن الموسيقيين يتقاضون الآن جنيهين وثلاثة وخمسة في الليلة . لكن خمسة عشر دنيهًا في الشهر: هذا ليس ممكنًا . لابد أن في الأمر شيئًا . ولم تشأ المدام أن تصرح لي به !

ربما يمارسون الدعارة في ذلك البار ؟ كلا . . فقد كان في مقدوري أن أعرف . لقد مرّ الآن ما يقرب من ثماني سنوات وأنا أسكن هنا , تمامًا في مواجهة البار . ثماني سنوات لم أتلق فيها علاوة من العمل . كان ينبغي أن أحصل على جنيهين علاوة في السنة . وقد توفيت أمي منذ وقت طويل وأبي كذلك توفي منذ عامين . وأنا دائمًا هنا , في هذا المنزل . نعيش كلنا معًا , إخوتي وأخواتي , متكومين بعضهم فوق بعض .

ماذا آكل عندما أعود ؟ أيضًا كوسة بالبصل , وصلصة الطماطم . إنني أقشعر من الدهون , ومن صلصة الطماطم , ومن البصل . ولا أحب الكوسة . عندما كنت صغيرًا , لم أكن أستطيع ابتلاعها . . ولم أكن أستطيع أن أفعل شيئًا .

بعد مغادرتي العمل , اشتريت بخمسة قروش " جبنة رومي " . لن آكل الكوسة . لكن مثلما في العمل تمامًا . نفس الوجوه في المنزل . على المنضدة لا يتكلم أحد . ولكي لا نفسد على أنفسنا الجلسة , ينبغي علينا أن نجعل الطفل الصغير يتمخط . . وهو دائمًا يتمخط . إنه ابن أختي . لم تعد لديّ الشجاعة في العراك مع أحد . الجو حار . متى يأتي الشتاء إذن ؟

في الساعة الخامسة , أنزل مسرعًا . أدخل " البار الأمريكاني " . ها هي صاحبته . وإذا لم تكن قد غيرت رأيها . فماذا ستقول لي ؟ ربما تنتظر مني خدمات أخرى غير تلك التي حدثتني عنها في الصباح . كلا . . إنها ليست من هذا النوع .

- مساء الخير يا مدام . . لقد فكرت .

تتفحصني مرة أخرى من الرأس إلى القدم .

- أعتقد أن العمل سيناسبك . ثم . . إنك تتكلم الفرنسية جيدًا .

مارست عملي في نفس اليوم . توجد 600 اسطوانة في المجموعة تانجو يوناني , أرجنتيني , عربي , فوكسي ترو , فالس , تينو روسي , أغاني فرنسية وإيطالية , عبد الوهاب , وأوبرتيات . . بالتدريج , أصلحتها وصنفتها . إنني بالطبيعة أحب النظام . وأحب الموسيقى كذلك . وبالنسبة لخمسة عشر جنيهًا في الشهر . ليس هذا عملًا صعبًا .

عندما يطلب مني شخص أغنية ما , أضع له على الجهاز أغنية أخرى قريبة جدًا منها , حين لا تكون الأغنية المطلوبة متوافرة لدي . مثلًا: العشاق يطلبون التانجو .

والتانجو هنا منذ ستة أشهر . أما سكارى العاشرة مساء فيحبون أن يسمعوا المارشات العسكرية . وهؤلاء يدفعون أعلى بقشيش . والعشاق أيضًا . . إنهم يحبون الكمنجة في المساء .

ها هو العجوز الذي يشرب البيرة ما زال هنا . إنه لا يشرب غيرها . ثلاث زجاجات في الليلة . مع كل زجاجة , يعيد طلب اسطوانته المفضلة . دائمًا هي هي . إنها من أجل حب قديم . هكذا قالت لي عنه صاحبة العمل.

صاحبة العمل جادة جدًا . وباستثناء الأشخاص , الذين يجب أن نطردهم من البار , من وقت لآخر , تسير الأمور على ما يرام . البار يكسب . صاحبة العمل مسرورة . امرأة طيبة . إنها فرنسية . من الريف الفرنسي . قدمت إلى مصر منذ عشرين سنة . ونحن نتفاهم أنا وهي جيدًا . وهي مسرورة مني . إنها أليفة , وتثق بي . لكنها ليست صغيرة جدًّا . هذا حق . وأنا كذلك . مظهرها رقيق وطيب . لقد فقدت أمي منذ زمن طويل . العمل يسير على ما يرام . بارنا يقع في قلب القاهر . والحرب انتهت . ولم يعد يفد علينا الكثير من العسكريين . أنا لم أعد أحب أولئك العسكريين قط . إنهم فظاظ . ومن المؤكد أن صاحبة العمل كانت لها مغامرات ، وإلا لما كانت هنا . . عندها حق . كل النساء لهن ماضٍ . ما أهمية ذلك ؟ إنني بحاجة لامرأة وأنا متأكد أنها ترغب في ذلك . سأصبح صاحب العمل . لست أكثر شرًّا من غيري . ومظهري محترم.

إنني . الآن . أغير رباط العنق كل يوم . ولي علاقات كثيرة . ما زلت دائمًا في الوزارة . وأحب الوظيفة السهلة!

 

 

 

صفحة الوفيات

 

 

 

بقلم: ميشيل أرِّيفيهْ

ترجمها من الفرنسية:

أ. د. حامد طاهر

 

 


لقد نجحت حتى الآن في حياتي . من يعترض على ذلك؟ ففي سن الثانية والخمسين أصبحت واحدًا من الأساتذة المعدودين في الجامعات الطبية . ومن فترة قصيرة جدًا أصبح الطريق أمامي ممهدًا للحصول على أعلى رتبة في الدرجة التي أشغلها . ثم لم تبق إلا سنة أو سنتان . وأغدوا ذا مكانة استثنائية فريدة: أكادمية الطب ! أجل فقد بدأت أفكر فيها , مع أن تخصصي - الذي هو الأمراض العقلية والنفسية لدى الأطفال , وليس التحلىل النفسي الذي أكرهه وأحتقره - يعتبر بالأحرى عقبة . لكن على أي حال , مازال الوقت أمامي مبكرًا . ولتقديم ترشيحي مع ضمان فرص النجاح , ينبغي توافر عدة علاقات صداقة مع الزملاء ذوي النفوذ . وحتى الآن , لم أفعل شيئًا بالنسبة إلى ما تسرب إلى عروض . لكنني أرهف السمع جيدًا . وفي العادة , سوف يحدث هذا بعد عدة شهور فقط .

 

عندئذ ينبغي القيام بحملة دعائية مكثفة . وأنا لا أرفض هذا النوع من الإجراءات من الطبيعي أنه لم تعد توجد لدي أي هموم مالية . ومن ناحية أخرى , فلم يكن لدي قط مشاكل خطيرة من هذا الجانب .

 

لكن الذي كان يتعين علي , منذ البداية في ممارسة مهنتي , أن أعيش في مستوى حياة زملائي .ومع ذلك , فقد سبقتهم أحيانًا في شراء سيارة " سبور " آخر موضة , وقارب , وحتى موتوسيكل كبير لم أتمكن أبدًا من السيطرة عليه , ثم تنظيم حفلات استقبال خاصة ,وفخمة , وأحيانًا مبتذلة , والقيام برحلات بعيدة جدًا . . وهذا كله كان يضطرني , وخاصة منذ عدة سنوات , أن أزيد قليلًا من عدد الاستشارات الطبية الخاصة التي أقوم بها !


لكنني أواجه الآن , ودون أدنى صعوبة , كافة مصروفاتي: شقة 170 مترًا مربعًا في الحي السادس عشر بباريس , فيللا كبيرة في نانسي , شاليه في ميربيل لا أذهب إليه إلا مرة واحدة في العام لكي أتحقق فقط من أن مستواي في التزحلق على الجليد لم يتدهور بعد بصورة واضحة . وفي الوقت الذي بدأت فيه بالتدريج أفضل مغادرة شارع موزار بباريس إلى منتجعات سولوني أو الألب , فإن ما راح يضايقني هو عدم توافر جرائد باريس بالانتظام المعهود . وهذا يسبب ثغرات مزعجة جدًا في وثائقي . ويكفي أنه في اثناء غيابي عن باريس تتراكم في منزلي أعداد الجرائد التسعة التي تصلني من الأقاليم . وهنا يلزمني , عند عودتي , وقت طويل لفتحها , وقراءتها , ودراستها , وتصنيف المقالات التي تهمني منها . .


أما زوجتي فقد ساعدتني كثيرًا في مهنتي . فهي التي تنظم , مرة على الأقل في الشهر , حفل استقبال فاخر , لا تقتصر فيه على دعوة الزملاء فقط , وإنما ندعو إليه أيضًا رجال أعمال , وشخصيات من الوسط الفني والأدبي , وأحيانًا رجل سياسة , من حزب الأغلبية بالطبع . والواقع أنني أحتفظ بعلاقات ممتازة مع الحزب الجمهوري . وقد حدث من عامين أنهم دعوني لكي أرشح نفسي في صفوفهم . وكان من الواجب أن أقبل , لأنه في تلك الأثناء, اقترح اسمي للحصول على وسام الشرف . وجرت الأمور بسرعة . فقبل توقيع القرار , عدلت عن فكرة الترشيح نهائيًا . لقد كان من المؤكد أن أحصل على الوسام لو أن عدولي عن الترشيح قد تأخر قليلًا . ومنذ عدة أسابيع , تستحثني زوجتي على معاودة الإجراءات اللازمة للحصول على وسام الشرف . إن حلمها الآن قد أصبح ينحصر في حصولي على هذا الوسام , مع انتخابي في الأكاديمية . لكنها , فيما يبدو , متعجلة جدًا بالنسبة لهذا وذاك .


أنا في صحة جيدة . وعلى الأقل , هذا ما يؤكده زملائي الأطباء كلما ذهبت لاستشارتهم حول علامة أخرى من علامات الخطر " أوه . . إنني أتمنى بروستاتا مثل التي لديك "


أو " قلبك . . إنه ممتاز . توقف فقط عن التدخين , وستكون مطمئنًا لمدة ثلاثين سنة قادمة " . . كلمات أعلم جيدًا ما تهدف إليه , وهو أن تجعلني أحتفظ بتوازني . إنها لا تلتزم بشيء . فهي مصنوعة , بل إنها تقال في جو المنافسة المعروف . وعلى أية حال , فهي تطمئن للحظات . .


أما بالنسبة إلى علاقتي الزوجية , فليس لدي بعد هموم خطيرة . لكنني أضطر من وقت لآخر أن أساعد نفسي ببعض المثيرات الخيالية التي ربما لا يليق التصريح بها . ومع ذلك , فإن اليوم - الذي تصبح فيه مثل هذه الأمور عديمة الفعالية - يقترب . وعمومًا فإن الانخفاض التدريجي للرغبات الجنسية له جانب طيب . فهو يجعل الحياة أقل اضطرابًا , وأكثر راحة , وبالجملة: يجعلها حياة سعيدة .


أنشر , مرة أخرى في السنة على الأقل , مقالة علمية مختصرة في إحدى المجلات التي لي حقوق فيها . فأنا عضو في هيئة تحكيم مجلتين منها , وهذا يتيح لي , على أي حال , إمكانية نشر أتفه الكتابات . لكنني لا أذهب إلى هذا الحد . فالذي يرضيني فقط هو أن أتحقق بصفة دورية من أن إيقاع نشري يظل متوازنًا مع معدل نشر زملائي . وربما يحدث بالتدريج , وابتداء من سن معينة , وخاصة من درجة علمية معينة , أننا لا ننشر شيئًا . إن بعض الزملاء يسمحون لأنفسهم أن يضعوا أسماءهم على مؤلفات مساعديهم , بل إنهم يتفاخرون بأنهم قد سمحوا لهم بمشاركتهم في التوقيع على العمل المنشور . لكنني شخصيًا لم أسمح لنفسي بعد بهذا العمل . إن كتابي السابق " دراسة للتحليل النفسي - التربوي الطبي للمعتوه المتوسط " يكفي - بإعادة طباعته المتتالية - للحفاظ على سمعتي العلمية التي تبدو لي كافية . لأنني في الواقع لا أمتلك الوقت الكافي للقيام بعمل حقيقي آخر في مجال التأليف: إنني مشغول جدًا بتصنيف ما أقطعه من صفحات الجرائد , بل إنني لا أكاد أتمكن من ذلك على النحو المطلوب . إن موضوع هوايتي يدهش من يسمعه . أو هذا على الأقل ما تزعمه زوجتي .


النجاح . . لقد تحدثت عنه . ومع ذلك , فإن كل شيء في حياتي ليس ورديًا . هناك بصفة خاصة مقابلة الأطفال المرضى . وأنا لا أرثي لهم . فباستثناء بعض الحالات , لا يبدون تعساء جدًا . ومن النادر أن يعانوا من مرض فيزيقي . لكن ما يؤرقني حقيقة هو ذلك الشعور بالعجز الكامل الذي ينتابني في مواجهتهم . وهنا يرتفع صوت الأحاديث المتكلفة التي ينيغي إلقاؤها - لكي لا يوحي الموقف باليأس الشديد - أمام آبائهم . لقد أصبحت هذه الأحاديث تقريبًا متشابهة , لأنه لا يكاد يوجد منها أكثر من أربعة أو خمسة أحاديث . وأنا متأكد من أن زملائي الأطباء في نفس التخصص يستخدمون نفس العبارات مع فوارق بسيطة جدًا . ولا يقتصر ذلك على الألفاظ , وإنما يشمل أيضًا الحركات واللهجة . لكأني الآن أصغى لهذا الحديث الأحمق الذي ينساب على شفتي مثل الصنبور الذي يخر!


هناك أيضًا تلك اللحظات الخاطفة من العدم , التي ألاحظها من وقت لآخر , وبقدر من الدهشة يتزايد في كل مرة . فعندما أتابع فكرة ما , ألاحظ - على مدى أجزاء قليلة جدًا من الثانية - أنها تهرب مني . ومع ذلك فهي لا تترك ذهني . . أجل هذه هي الكلمة الوحيدة التي يمكنني استخدامها للإشارة إلى حركة ذلك الحشد الهائل المتناثر في تلافيف المخ البارد . وأكثر منها هروبًا , ذلك المكان الخالي من الذاكرة . إنني أعلم جيدًا أن هذا كله لا معنى له . وبالتالي فأنا أقاوم ذاكرتي , وأحاول إزالة هذه الأشياء منها بأسرع وقت ممكن . ومن الطبيعي ألا تظهر هذه اللحظات القصيرة من العدم في أحاديثي , وهذا على الأقل ما أفخر به , أود في محاضراتي التي ألقيها على الطلاب , الذين لم تعد تربطني بهم علاقة حميمة , وبالتالي فإنني قد أفشيها أحيانًا إلى زملائي من نفس العمر والذين تبدو عليهم نفس الأعراض: علامة بداية الضعف , ظل من الحيرة والتردد في النظر , ثم سواد خفيف تحت الجفنين . . وكل ذلك يتيح لي أن ألاحظها وأصنفها بسهولة في أفراد جيلي .


لقد أضعت وقتًا طويلاً في اكتشاف التسلية ، القريبة من القلب ، والتي أشغل بها نفسي . ومن الغريب أن ما يوجد حولي من ألعاب مثل البريدج ، والجولف ، وبعض الرياضات الأرستقراطية الأخرى - لا تثيرني أبدًا . وهكذا لا يعود الزمن لأكثر من ثلاث سنوات فقط حين اكتشفت هوايتي المفضلة ، وهي تشغلني بالتدريج على نحو مرض تمامًا . لكن زوجتي بدأ تقلق من انكبابي عليها بصورة واضحة جدًّا ، وكم بذلت جهدًا شاقًّا لكي تبعدني عنها ، أو لكي تصعِّب عليَّ ممارستها . وعبثًا لم تثمر جهودها في هذا الصدد . لكنها ما زالت مستمرة في الإلحاح على أن تظل هذه الهواية "سرًّا" لا يعرفه أحد . وأخشى أن أصرح بكلمة "انحلال" مع أنني لا أفهم أسباب ذلك . فأي فضيحة بالنسبة إلى "بروفيسور" أمراض عقلية خاصة بالأطفال أن يعكف ، بهوى ووجْد بالغَين ، على صفحة الوفيات في الجرائد ؟!


إن الجانب الطبي - والحق يقال - ليس هو الذي يستهويني . فأنا لا أتبين ، بصورة منهجية ، سن الوفاة . أما بالنسبة لسبب الوفاة، فلا يذكر إلا نادرًا ، وفي أغلب الأحيان ، بصورة غير محددة . فمن المؤكد وأنا في هذا مقتنع تمامًا - اعتمادًا على عدة استشهادات - أن عبارة "توفي على إثر مرض طويل ومؤلم" التي تذكر كثيرًا: لا تدل دائمًا على أنه السرطان!


إن ما يستوقفني , بل يبهرني , هو شكل إعلان الوفاة . كل إقليم له عاداته: فليس هناك تشابه بين إعلانات الوفاة في جريدة " أخبار الألزاس " وإعلانات جريدة " جمهورية البرينيه " . ومن الغريب حقًا أن تتدخل مساحة قليلة جدًا من الفروق الجغرافية وفي تغير شكل إعلان الوفاة بين جريدتين من إقليمين متجاورين . فهنا , تذكر علاقات القربى مع المتوفى بعد اسم كل شخص من أقاربه المنشورين بالنعي وهناك تتجمع الأسماء بدون ترتيب بعد اسم المتوفى . وفي غير هذا وذاك تتوالى الأسماء في صمت . وفي إقليم ما , تبدو المراجع الدينية ولا توجد أبدًا في إقليم آخر .


في شهر يناير الماضي , قمت بتغيير قائمة الجرائد التي كنت مشتركًا بها . وسأفعل نفس الشيء في يناير القادم . وهكذا بعد ثلاث أو أربع سنوات , سأقف على كل إعلانات الوفاة في كل الجرائد الفرنسية . وفي النية أن أضيف للمشروع جرائد البلاد الآخرى الناطقة بالفرنسية: كيف يعلنون عن موتاهم في لوران ؟ وبروكسل ؟ وفي ميناء الأمير بجزيرة مورياك ؟ أجل . . إن أمامي عملًا كثيرًا .


وينبغي الاعتراف بأن جرائد باريس تبدو باهتة جدًا في مجال إعلانات الوفيات بالنسبة إلى جرائد الأقاليم , ما عدا جريدتين تمثلان استثناءً واضحًا: الفيجارو , ولوموند بصفة خاصة . إن هذه الأخيرة بالذات تحتوي على نظام أكثر تطورًا , فهي تقوم بتنفيذ ترتيب صارم يحدد بدقة بالغة مكانة المتوفى . ولنبدأ من أدنى المستويات:


- الجزء الأول من النعي , وهو المبلغ كما هو من العائلة دون أدنى تدخل من تحرير الجريدة . وتلك حالة متواضعة جدًا . لكنها على أي حال , أفضل من الصمت المطلق , الذي يعني" " الموت في الموت " . فبهذه الصورة يبدو أن الشخص المتوفى قد استفاد من نشر اسمه في " لوموند " !


- أعلى من هذا مباشرة: تأتي شخصية أكثر احترامًا . فهناك الملاحظات البيوجرافية المختصرة , الموضوعة بين أقواس , وهي ترد بعد النعي , لكنها تظل في ذلك المكان المحدد الذي يفرضه الترتيب الألفبائي .

- مرتبة أعلى في الاحترام: اسمك يطبع ببنط أكبر , ويكون عنوانًا للنعي .


- وأفضل من ذلك: أن يحتل الترتيب الألفبائي المعهود , ويقفز اسمك إلى رأس صفحة الوفيات .

- وأخيرًا نأتي إلى الموت المحترم بحق: حين يشير إعلان الوفاة , بواسطة إحالات مختصرة بين أقواس صغيرة , إلى مقال منشور في مكان آخر من الجريدة .


- أما نهاية النهاية: فهي أن يتسرب اسم المتوفى إلى الصفحة الأولى من الجريدة .


إن شهور السنة تلعب دورًا ملحوظًا في هذا المجال .


فالناس يموتون , في جريدة " لوموند " في شهر أغسطس .


وأنا أحتفظ بنسخة من عمود خال تمامًا من أي إشارة إلى إعلان وفاة . وفي المقابل من ذلك , تكثر الوفيات غالبًا في شهر سبتمبر . ويبدو أن العودة الجنائزية تصاحب العودة الثقافية.


لا شك في أنني أتساءل أحيانًا: أي مكان سيحفظ لي , عند حلول الأجل , في هذا التصنيف الرائع . إنني لا أجرؤ على الطمع في المقال المحرر , وخاصة في الصفحة الأولى . لكنني على الأقل , سأصبح عضوًا في الأكاديمية . وعندئذ فإن قلب الترتيب الألفبائي يبدو قريب الاحتمال . وسوف يكون من المخجل حقًا ألا أحظى بالإشارات البيوجرافية . والذي يعيش سوف يرى:

ريجي ليكرو

بلغنا نبأ الوفاة التي حدثت في 7 سبتمبر 1985 في باريس للبروفيسور ريجي ليكرو , عضو أكاديمية الطب , والحاصل على وسام الشرف .

[ مولود في سان بريك 25 إبريل 1927 , عين ريجي ليكرو طبيبًا ممارسًا في المستشفيات العقلية للمسنين 1951 , وأصبح منذ سنة 1969 أستاذًا للأمراض العقلية للأطفال في جامعة باريس . كتابه " دراسة للتحليل النفسي - التربوي , الطبي للمعتوه المتوسط " المنشور سنة 1964 ما زال يستخدم حتى الآن كمرجع للطلاب والأساتذة على السواء ] .

" صدفة غريبة: قبل أسبوع واحد من وفاته , التي حدثت فجأة , حصل البروفيسور ليكرو على وسام الشرف , كما انتخب عضوًا في الأكاديمية الطبية " ( انظر: لوموند , سبتمبر ) .

 

 


مدينة . . وامرأة

 

 

بقلم: رولان جاكي

ترجمها من الفرنسية:

أ. د. حامد طاهر

 


مساء الأربعاء , وقبل رحيله إلى نيويورك , ذهب لمشاهدة فيلم ( وودي ألان ) . وعندما خرج من السينما ، تمشى طويلاً في شارع الإيطاليين بباريس مفكرًا في تلك المدينة الشاسعة ، الدافئة ، والمقلقة إلى حد ما ، والتي سيتنزه فيها غدًا لأول مرة في حياته . لقد أجل هذه الرحلة أكثر من مرة ، لأن هناك مسألة كانت تقلقه: كيف سيقابل (فان) ، التي أحبها منذ خمسة عشر عامًا ، في قرية هادئة على بحيرة ليمان ، والتي تعيش الآن في نيويورك . . كان هو أيضًا وحيدًا ، ويقترب من الأربعين . وفي المساء ، غالبًا ما فكر في موته ، لكنه كان يعد نفسه بأنه لن يموت قبل أن يرى فيلم (مانهاتان)، وصاحبته القديمة (فان).


كان يتسائل أيضًا: لماذا يحلم كثيرًا بها ؟ لماذا تشبهها كل النساء اللاتي عرفهن بعدها ؟ لماذا كان سخيفًا معها لحظة الفراق ؟ إنها لم تغفر له قط ، وهو يعلم أنه على إثر محاولة انتحار منها ، ودخولها إحدى مصحات الأمراض النفسية ، قد فقدها إلى الأبد . .


تذكر كل هذا كحلم ثقيل ، ربما تزيله تلك الرحلة السريعة إلى نيويورك . ولأنه كان في بعض اللحظات إنسانًا رومانسيًّا ، فقد أقنع نفسه بأنه سيذهب ليلتقي في وقت واحد : بمدينة وامرأة ، بماضيه وموته . وفي لحظات أخرى ، كان يسخر من مراهقة أحلام يقظته ، ومن المجاملة التي عامل بها حياته ، والتي أراد منها أن يستدر الشفقة على نفسه . إنه - القارئ الوفي لنيتشه - كان يعتقد بأن التقوى هي أدنى المشاعر!


في نيويورك ، نزل في فندق (بلازا) . كان قد كتب منذ أسبوعين إلى (فان) أنه سيقضي فيها ثلاث ليالي ، وأنه يتمنى أن يلتقي بها . أما هي فلم ترد . كما لم يكن في انتظاره بالفندق أية رسالة منها . وبعد أن استراح قليلاً ، تلفن إلى بعض الأصدقاء . لم يجرؤ أن يُتلفِنَ لها . كان يخشى ألا تكون موجودة ، أو أن ترفض مقابلته . كان يشعر بأنه يمكن أن يمنح عدة سنوات من عمره لقاء سهرة واحدة يقضيها .


عندما كلمها ، سمعها تتحدث عن أنها كانت مشغولة جدًّا . وأنه يوجد في نيويورك ، على أية حال ، أشياء أخرى أكثر إثارة من رؤيتها . ومجروحًا ، تردد في أن يرد بنفس اللهجة . بل إنه خشي أن تضع السماعة ، لكنه استمر . . هو الذي كان يرى أن كلاًّ من التواضع والإلحاح ضربً من الحماقة . وأخيرًا سمعها تلقي إليه بهذه الكلمات كصدقة: "تلفن لي يوم السبت بعد الظهر: ربما تمكنت من أن أتغدى معك".


قبل أن ينام ، كتب في مذكراته: "هل حقيقة أن (فان) هي التي تشغلني ؟ ألا يمكن أن يكون ذلك الجزء من ذاتي الذي لم ينجح في أن يتخلص منها ؟ تلك هي مأساة الحب الذي يحرمنا أحيانًا بصورة نهائية من آلاف الأشياء التي نمتلكها , ثم أضاف أنه سيكون مخطئًا لو لام (فان) على أي شيء . لأن كل ما حدث هو خطأي . عندما قطعت علاقتي بها , تصرفت نحوها مثل وغد . إنها لم تغفر لي قط . ولم تسامحني قط . يبدو أنها ستظل تكن لي الكراهية . وأنا أشعر على فقدانها بالندم . وهكذا نصبح متعادلين .


في اليوم التالي - الجمعة - ذاب في أحشاء تلك المدينة الضخمة والهائلة التي أحبها من قبل . وقد فكر أنه إذا اضطر يومًا لمغادرة باريس , فإنه سيجعل من نيويورك ملجأه . ولأنه شاهدها مئات المرات في السينما والتليفزيون , لم يشعر فيها بأية غرابة . لقد تسلى , مع ذلك , بملاحظة مدى فقر أحاسيسنا وخطأها . وهكذا لم يندهش لرؤية التاكسيات تحمل اللون الأصفر، كما لم يفاجأ بأن سيارات البوليس تجمع بين اللونين الأزرق والأبيض .


السبت , عند الظهر تمامًا , بعد أن تنزه في الحي الصيني ( تشينا تاون ) , تلفن إلى (فان) . أعطته موعدًا في مطعم ياباني يقع في الشارع رقم 57 . كما كان متوقعًا , وصل هو أولًا , وجاءت هي متأخرة . كان شعرها قصيرًا , بدون تلك " القصة " التي كانت تعجبه كثيرًا . كانت ترتدي ملابسها بنفس الأناقة والتحفظ اللذين عرفها بهما من قبل .


وأيضًا كما كانت من قبل , راحت تدخن سيجارة بالنعناع .


أما هو , فقد كان متوترًا , وغير مستريح . أحس بأنها عصبية , ومشدودة , غضبى , ومحاطة بأسلاك شائكة غير مرئية . لكن ما أدهشه أكثر كان هو سماع صوتها: أجش ، عميقًا ، حسيًّا على نحو لا يقاوم . . أنصت إليها بقداسة ، كما لو كانت هي الموسيقى الوحيدة القادرة على أن تهدئه . . على أن تصالحه مع ذاته ، إلى حد أنه كان يفتقد معظم خيوط المحادثة . وعمومًا ، فإنه كان دائمًا لا يهتم بجلسائه الذين يخونون - بطريقة حديثهم ، ولهجتهم ، وحركات جسدهم - شخصياتهم الحقيقية !


تغديا معًا في المطعم الياباني . وقد طلبت هي مشروبًا ساخنًا ، لاحظها وهي تشربه . كاد يجرؤ أن ينظر إليها . كان يشعر معها بشعور من الخجل الذي كان يحدث بين تلميذ وتلميذة في مدرسة واحدة . لكنه بدأ يشعر بإحساس من الفرح لأنها نسيت ماضيها . ومع ذلك ، فكلما مضى الوقت ، راحت علاقتهما تصبح أكثر طبيعية ، وتقريبًا متواطئة . وتبادلا بعض الاعترافات الذاتية . حدثته هي عن محاولاتها الثلاث في الانتحار ، وعن وحدتها ، وعن شعورها بأنها لا تجد في أي موضع المكان الذي يناسبها . أما هو فقد حاول أن يستعيد بعض المشاهد الت عاشاها معًا ، بعض الأفلام التي أحباها ، وخاصة (بييرو المجنون) لجان لوك جودار . لكنها أخبرته بأن ذاكرتها ضعيفة ، وأنها تتذكربصعوبة حبهما القديم . ثم بعد ذلك ، أخذت عليه أنه يعيش أكثر مما ينبغي في الماضي . وبسرعة أجاب: "لكنني أجد فيه سعادتي الوحيدة".


كان منتشيًا من وجوده هنا ، وببساطة معها . سعد كثيرًا من رؤيتها أكثر عفوية ، وأكثر بساطة . ولم يندهش قط عندما اقترحت عليه أن يتنزها في الحديقة العامة . وهناك تحدثا عن (بروست) ونظريته في الحب ، وعن (سيوران) وانحطاط الغرب . بروست الذي قرأه لها بصوت عال خلال أمسيات كاملة ، وسيوران الذي جعله يكتشف الحاضر والماضي . وفي تلك اللحظة ، اعترف كل منهما للآخر بحبه . وصرح بأنه قد حصل أخيرًا على رواية (فريتز زورن): مارس ، مضيفًا أنه - منذ كافكا - لم يقرأ شيئًا بمثل تلك القوة . .


قرب الغروب ، طلبت منه أن يصحبها عند بالدوكسي ، أحد محلات الموضة . وبينما راحت تخطو من جناح لآخر في المحل ، كان هو يراقبها ، وسأل نفسه: هل كان سينجذب إليها إذا كان يراها الآن للمرة الأولى ؟ ولم يستطع إلا أن يرد بالإيجاب . وتساءل أيضًا: هل لو كان تزوجها ، كما كانت هذه نيته من قبل , يعتبرها الآن هفوة شباب يلزم التكفير عنها طوال العمر , حسب تعبير فيلسوفه العزيز (شوبنهور) . إن أفعالنا - كما قرر لنفسه أكثر من مرة - عبارة عن ضربات زهر في ظلمة ليل المصادفة !


في أثناء صحبته لها إلى منزلها , حرص على أن يخبرها أنه ما زال يحس بأنه مذنب في موقفه . وصرحت له حول هذه النقطة على الأقل: " أنا تغيرت . لقد طرحت عادة تغيير الآخرين لحساب مشكلاتي الشخصية . إنني أعتقد أن كل إنسان ينال في الحياة ما يستحقه . . " ورد بابتسامة , عندما أصغى لها وهي تستشهد بعبارة مأثورة لابيكتيت الذي أرسله لها لحظة الفراق: " إن اتهام الآخرين بعذاباتي الشخصية لا يعني إلا الجهل . وفقدان الهوية الخاصة إنما يأتي من شخص بدأ يثقف نفسه . وإذن فلا ينبغي اتهام الذات أو الآخرين , لأن هذا إنما يحدث من شخص مثقف بالكامل " . وأضافت: " ألا ترى . . إنني لم أنس تمامًا كل شيء . ."


كان الليل قد سقط من وقت طويل , عندما وصلا أمام منزلها . وكان هو في الوقت نفسه مرتاحًا , وقلقًا . ماذا يفعل لكي يعود إلى ذلك الوقت الذي يجعلها فيه سعيدة . قالا: " إلى اللقاء " كأصدقاء قدامى . تردد في أن يأخذها بين ذراعيه وأن يقول لها: " ابقي معي . لن نفترق بعد الآن . سنعيش منذ الآن أحدنا للآخر . . أحدنا بالآخر " ومع ذلك صمت . لا خوفًا من أن يصد من جانبها كانت لديه تجارب كثيرة مشابهة , علمته أنه كان بالتأكيد صادقًا , في اللحظات التي يقول فيها أمثال هذه الكلمات ، لكنه كان في الوقت نفسه يكذب ، لأنه كان يحس بعطش إلى المغامرة , وإلى عدم الوفاء . . كان يعرف عن نفسه أنه غير ملتزم , لكنه وفي . . وفي للغاية . لأنه حتى لو أراد , فلن يستطيع أن ينسى أقل التفصيلات الصغيرة التي عاشها مع النساء اللاتي أحبهن . ولم يكن يريد أن يختار . لم يكن يريد أن ينزعج . إن لم يكن حتى الآن . . فعلى الأقل . . في اليوم التالي , قبل أن يغادر الفندق إلى المطار , تلفن إلى (فان) لآخر مرة . اقتصر على أن يشكرها بصورة رسمية على قبولها أن تراه . ومع ذلك أضاف بلهجة مرحة أنه وجدها دائمًا جميلة جدًا , مرغوبة جدًا . . لكنه لم يجرؤ على أن يغازلها , ولا أن يشعر بأنها ما زالت تهتم به . أما هي فقد طلبت منه أن يرسل لها كتاب (فريتز زورن) . وهكذا كما فكر: العلاقة بينهما لن تنقطع تمامًا ! في مذكراته الخاصة , كتب ملاحظة: "ماذا تعتقد في حقيقة ؟ أي لعبة نلعبها ؟ يبدو أنني لن أعرف أبدًا " .


في الطائرة , بعد أن تناول العشاء , وشاهد (دون سيجل) في فيلم (سجين الكاتراز), جاءته الرغبة في أن يكتب لفان . . وفي مسودة خطاب , راح يخط ما يلي:


" كما طلبت مني , أبعث إليك بكتاب زورن . لكن حذار .


فإنه ذري . إن القارئ لا يخرج من قراءته غير مبال . وعندما تقرأينه سوف تفهمين على نحو أفضل لماذا كنت أتصرف بعنف في شبابي . .بعنف ووحشية وحمق ضد السرطان الأخلاقي الذي يحكم قبضته على البلد الذي انسابت فيه طفولتنا , والذي - بصورة أو بأخرى - قد أصابنا جميعًا . إنني ملتهف لسماع رد فعلك . .


سوف أصل الآن إلى نقطة لم أشأ أن أثيرها خلال لقائنا الأخير . إذا كان قد تحقق لي السرور في رؤيتك - أكثر من السرور: الحاجة . . فإنما هذا لأنك أكثر حضورًا في من أن امرأة أخرى عرفتها حتى الآن . إنني بالتأكيد أعيش في الماضي . لكنني بصفة عامة أعتبر أنه قد مضى بصورة نهائية . معك بالعكس: لدي إحساس بأن شيئًا ما يمكن , بل يجب أن يقربنا مع السنين أكثر فأكثر . من يدري . . حتى بعد عشر سنوات . . ربما . . لكنني أحلم ببساطة بأجمل هدية قدمتها لي الحياة , وهو أنت . . وأود بكل طاقتي أن أكون أهلًا لها .


وبدون شك أنت على حق: ليس لكل إنسان إلا ما يستحقه . .


إن شعوري بذلك الإحساس الشنيع وهو أنني أصبحت لا مباليًا ( لكن ليس كلية , وهذا يمنح الأمل , بعض الأمل ) يجعلني أتأمل نفسي جيدًا عندما أسأت إليك كل هذا الوقت الطويل .


إنني حريص فقط أن أقول لك هذا . وذلك أسهل عن طريق الكتابة , فإنه يصعب على أمامك أن أقوم بدور . . وقد كنت دائمًا إنسانًا غير حصيف . . هل تذكرين مثلًا عندما خرجت من المدرسة , وسألتك عن أختك , إنه أنت وحدك التي تعتبر هذا اليوم !

 

حسنًا . . لن أتعبك أكثر من هذا بأغراض تعتبرينها خارج الموضوع .

مع خالص مودتي

" ملحوظة " فيما يتعلق بكتاب زورن , يمكنك اهمال مقدمة موشج , فهي لا تضيف أي شيء . بل على العكس " .

وفي اللحظة التي أنهى فيها مسودة هذا الخطاب , أحس بأنه لن يرسله إلى (فان) . .

بدأ يحس بالراحة عندما رأى انبلاج الصباح من الطائرة . وبالمصادفة , وربما من قبيل المعجزات , انسابت في السماعة التي وضعها على أذنيه - بعد أن تخير إحدى القنوات - موسيقى تريستان وايزولد لفاجنر . . قطعته الموسيقية المفضلة . وهنا أحس أمام كل المخلوقات بشعور العرفان . ما يخبئه له المستقبل مجهول . لكنه كان سعيدًا , لأنه عاش حتى تلك اللحظة . .

وقد مرت به ساعات أمل ويأس , ورأى ليالي ونهارات , واعتقد ولعن . . لكنه أدرك في تلك اللحظة أنه لن يصبح بعد الآن وحيدًا . كان يكفيه فقط أن ينتظر . وقبل كل شيء أن يتعلم أن يعيش الحياة في صداقة , ثم في انسجام مع ذاته .

دون شك , كل من الإرهاق والانفعال أراح روحه النقدي وأضاء بصيرته . إنه الآن واع بنفسه . لكنه كان يعلم أن هذا كان ضروريًا . كما أنه من الضروري وجود الرفض والإيجاب , الظلمات والنور . .

في صباح الاثنين , وفي طريقه إلى الجريدة التي يعمل فيها بباريس , مر من جديد على السينما التي تعرض فيلم ( مانهاتان) . انفلتت منه بسمة تواطؤ للبطلين (ديان كيتون) , (وودي آلان) . وقال لنفسه إنه بعد هذه الرحلة السريعة في نيويورك يمكنه أن يكوّن مادة قصة . وكتب في نفس المساء . لم يشعر بأنه كتب قط بمثل تلك الحيوية . إن معظم الكتابات خيانة ، وخيانة للنفس .


 

التعليقات (1)Add Comment
0
...
أرسلت بواسطة علي حسين /العراق , أكتوبر 28, 2016
شكرنا وتقديرنا لهذا الجهد العظيم

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الثلاثاء, 21 أبريل 2015 00:02