عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
جدلية الفكر والواقع صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الأربعاء, 11 ديسمبر 2013 22:12

جدلية الفكر والواقع


1 ــ ليس من الصعب تحديد الفكر بأنه كل ما يجول بعقل الانسان ، أو يتراءى له ، أو ينبثق منه . ومفردات الفكر هى الأفكار ، التى لكل منها خصوصيتها ، ومع ذلك فإنها قد تترابط مع بعضها بالتوافق ، أو التقارب ، أو حتى بالتضاد . كما أنها قد تتسلسل فى دوائر مغلقة ، أو مفتوحة .. وهذه الأفكار تنشأ فى العقل من ملاحظة الواقع ، والتغيرات المستمرة التى تحدث فيه ، وهى تنمو وتتطور مع نمو عقل الانسان منذ الطفولة ، وتظل تتكاثر وتتراكم من خلال تعامله مع البيئة المحيطة به ، والثقافة التى تسود المجتمع الذى يعيش فيه ، وكذلك الخبرات والتجارب التى يمكنه أن يحصل عليها من الآخرين .


2 ــ أما الواقع فهو ذلك العالم المحسوس ، الذى يمتلئ من حولنا بالأشياء المادية ، كما يتضمن الوقائع والأحداث المتغيرة والطارئة التى تقع فيه ، ويحدها إطارا الزمان والمكان . ومن الملاحظ أن هذا الواقع ، على الرغم من أنه محكوم بقوانين مطردة ، إلا أنه مازال يحتوى على مجالات يستعصى على عقل الانسان إدراكها وتفسرها . ومن بين هذه المجالات : التركيب الجسدى والعقلى والنفسى للانسان ذاته ، بالإضافة إلى مجاهل الأرض وأسرار الفضاء .


3 ــ إن الجدلية القائمة منذ آلاف السنين بين الفكر والواقع هى التى أتاحت للانسان أن يقف على كثير من القوانين التى تتحكم فى ظواهر العالم ، وبمجرد وقوفه عليه استطاع أن يستفيد من نتائجها ، ويتجنب أضرارها قدر الإمكان . لكن كل القوانين لم تنكشف للعقل الانسانى بعد ، ويبدو أنه لن تكون هناك نهاية لفهم أسرار العالم إلا بانتهاء العالم نفسه . وهذا ما أصبح يذهب إليه علماء العصر الحاضر ، بعد أن كان أسلافهم من علماء القرن التاسع عشر يعظمون من قدرة العقل الانسانى على امتلاك حقائق العالم .


4 ــ ومن نعمة الله على الانسان أنه تعالى – وهو خالق الكون – قد سخر له ما فى السماوات وما فى الأرض . لكنه دعاه إلى أن يسعى بجهده الخاص للحصول على مفاتيح هذا التسخير . وليس هناك سوى العقل الذى يمكنه أن يفعل ذلك . فهو الذى يلاحظ ويحلل ويقارن ويستنتج لكى يخلص إلى ما ينبغى فعله ، أو تركه ، أو تأجيله .


5 ــ وهنا قد يطرح سؤال : لماذا لم يتوصل العقل إلى أسرار العالم منذ اللحظة التى وجد فيها الانسان على الأرض ، وتأخر فى ذلك حتى وقتنا الحاضر ؟ والاجابة بسيطة : وهى أن البشرية قد مرت فى طريق تطورها بمراحل طويلة ومتدرجة ، وهى تشبه – مع الفارق النسبى – ما يمر به عقل الانسان الفرد منذ فترة الطفولة حتى الشيخوخة . وفى كل مرحلة يواجه العقل مشكلات وعقبات تتدرج هى الأخرى من البساطة إلى التعقيد . وكلما نجح فى حل مشكلة أو تجاوز عقبة ازداد لديه رصيد الخبرة فى حل مشكلات أخرى ، وتجاوز عقبات أصعب . وهذا ما يوضحه تمام الوضوح تاريخ اكتشاف المنهج العلمى التجريبى ، الذى لم يتوصل إليه الانسان إلا منذ ثلاثمائة عام على أكثر تقدير .


6 ــ والمنهج العلمى فى تعريفه البسيط هو مجموع الخطوات التى إذا اتبعها العالم أوصلته إلى حل مشكلة قائمة أو اكتشاف قانون جديد . وقد ظل الانسان فى كل أنحاء العالم يبحث عن هذا المنهج على مدى آلاف السنين . وفى القرن الرابع قبل الميلاد ، حاول أرسطو أن يضع قوانين حاكمة للفكر الصحيح ، وللفكر الفاسد ، فصاغ لأول مرة ما سمى بعلم المنطق أو فن المنطق ، وجعله مقدمة ضرورية لكل العلوم . وقد ظل هذا المنطق ما يقرب من ألفى عام مسيطرا على العقول حتى تبين بمرور الوقت أنه منهج لفظى يهتم فقط بصورة الفكر ولا يتعامل مع مادته ، التى هى الطبيعة ، كما أنه لا ينتج أفكارا جديدة ، ولا يوصل الانسان إلى اكتشافات هامة . والواقع أن بعض علماء المسلمين انتقدوا هذا المنطق ، لكن الحملة الأقوى جاءت من الفيلسوف الفرنسى ديكارت ( ت 1650 ) والعالم الانجليزى فرانسيس بيكون (ت1626) اللذين أجهزا على هذا المنطق الشكلى أو الصورى ، واستبدلا به المنهج التجريبى الحديث الذى جعل الفكر يتعامل مباشرة مع الواقع من خلال ثلاث مراحل ( الملاحظة – الفرض – التجربة التى إذا صحت أصبحت نتيجتها قانونا علميا ، يمكن تطبيقه ، والاستفادة منه فى كل زمان ومكان ) .


7 ــ وقد أصبحنا نعرف أنه كما توجد فى الطبيعة أمور مازالت خارجة عن سيطرة الانسان ، مثل الزلازل ، والبراكين ، والفياضانات ، والاعاصير ، فإن الفكر أيضا توجد به معوقات تحول دون تقدمه المطرد للأمام . ومن ذلك : الميل إلى تصديق الخرافات ، واتباع الأهواء الخاصة ، وتغليب المصالح الشخصية ، وخداع الآخرين تماما مثل الانخداع بهم ، والتلاعب باللغة بدلا من استخدامها فى معناها الصحيح ، فإذا أضفنا إلى ذلك شيوع الجهل ، والتكاسل العقلى ، واللامبالاة فى حل المشكلات المحيطة بالانسان ، وتقديس معتقدات الأجيال السابقة دون فحص أو تمحيص ، أدركنا أن الفكر الانسانى لا يوجد أمامه طريق ممهد ، بل عليه أن يجتاز فى كل لحظة عقبة ، وأن يتوقف أمام كل مفترق طرق ليحدد اتجاهه الصحيح .


8 ــ ومع التقدم العلمى الهائل الذى كان له تأثيره الواضح على حياة الناس فى مختلف أنحاء العالم ، لم تتوقف تلك الحجب والجدران التى أحاطت بالعقل الانسانى فى الماضى ، والتى حاول فرنسيس بيكون أن يلخصها فى أربع دوائر للأوهام هى : أوهام القبيلة ، وأوهام الكهف ، وأوهام السوق ، وأوهام المسرح . ونضيف من جانبنا إلى أن هذه الدوائر لم تنحسر فى العصر الحديث بل إنها اتسعت وتعقدت إلى حد لم يكن ليتخيله فرنسيس بيكون ، ومن ذلك : أوهام الاعلام ، الذى أصبح مثل الهواء الذى يتنفسه الناس فى كل لحظة وهو الذى يتحكم فى العقول ويشكل الرأى العام ويوجهه إلى حيث يشاء ! كذلك يمكننا أن نعد من الأوهام الجديدة : أوهام التكنولوجيا والالكترونيات ، ومن خلفهما أوهام التقدم العلمى الذى انحرف مساره عن إنتاج ما ينفع الناس إلى صنع الأسلحة التى تكاد تقضى على مظاهر الحياة بكل أنواعها من فوق الأرض !


9 ــ وإذن هل يمكن القول بأن الفكر فى علاقته الجدلية مع الواقع قد وصل إلى نهاية الشوط ، أو إلى طريق مسدود ؟ كلا ، لأن مبدأ التوازن الأبدى بين قوى الخير والشر فى الانسان مازال قائما ، وهو كما يدفع الأشرار إلى الهدم والتدمير ، فإنه يزود الأخيار بالمقاومة التى تحول دون ذلك . وعلينا أن نستحضر هنا ما فعلته الجماعة الدولية عقب الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1919 ) حين أنشأت " عصبة الأمم " ، ثم بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945 ) والتى حصدت أرواح الملايين ، وخربت حضارة العديد من المدن ، أنشأت " هيئة الأمم المتحدة " للحفاظ على السلم العالمى ، وإيقاف عدوانية الحروب المدمرة .


10 ــ ومن الممكن أن يقال : إن إنشاء هاتين المنظمتين الدوليتين لم يستطع أن يمنع عدوانا هنا ، أوحربا هناك ، لكن لابد أن تتسع نظرتنا إلى ما يحدث أيضا فى الطبيعة من فوران بركان هنا ، أو وقوع زلزال هناك . وذلك كله بالمقارنة مع ما يقيمه البشر من مدن جديدة ، ووسائل مواصلات حديثة . وهكذا فإن الأمر يتعلق بوجود نسبة من الشر القليل فى مقابل نسبة أكبر من الخير الكثير . وهذا ما يدخل مباشرة فى إطار دورة القضاء والقدر ، التى ينبغى على الانسان العاقل أن يؤمن بها ، باعتبارها جزءا من الخطة الالهية التى يدار بها الكون كله .


الفكر فى مواجهة واقع المجتمع


11 ــ كان من أهم ما أدركه الانسان ، منذ آلاف السنين ، أن انفراده وحده بمواجهة عقبات الطبيعة أمر غير ممكن ، لذلك فقد لجأ إلى التعاون مع أشباهه من البشر لكى يتقاسموا العمل فيما بينهم ، وانتهى بهم الأمر إلى إقامة المجتمعات المتعاونة فى القرى أولا ، ثم فى المدن بعد ذلك ، وأن يوزعوا فيها المهام على بعضهم : فهناك من يحكم ، وهناك من يحرس ، وهناك من يزرع أو يصنع أو يتاجر ، وهناك من يخدم كل هؤلاء ، وإن كان كل واحد منهم فى حقيقة الأمر خادما لغيره ، والمجموع يهدف إلى إقامة مجتمع مستقر وآمن ، كما يتطلع إلى مستوى مزدهر من الحياة الرغدة .


12 ــ وإذا كان صحيحا أن الحاجة أم الاختراع ، فقد تكاثرت وتنوعت الوظائف فى المجتمع نتيجة تكاثر وتنوع حاجات الأفراد فيه . فعندما زاد المرض ظهر الأطباء ، وحين كثر تنازع الأفراد فيما بينهم انتشر المحامون ، ورسخت قاعدة القضاء ، وعندما برزت الجريمة أنشئت السجون ، وكلما اتسع انفصال المشترى عن البائع ظهرت طائفة السماسرة لكى تقوم بدور الوسيط بينهما . وهكذا كلما تطلب المجتمع إشباع إحدى حاجاته ظهرت على الفور الوظائف التى تقوم بذلك ، حتى أن الأسرة التى لا تريد أن تطهو طعامها فى المنزل أصبح من السهل عليها طلبه من المطاعم المخصصة لذلك ، والمرأة التى لا ترغب فى تزيين نفسها بيدها صار أمامها أن تحقق ذلك من خلال محل تجميل .


13 ــ والواقع أن هذا كله ليس شرا ، مادام يحقق للمجتمع متطلباته ، ويهدف إلى إراحة الناس فيه . لكن المشكلة تبرز حين يسرف المجتمع فى تلبية احتياجات من الدرجة الثالثة أو الرابعة ، وهى التى قد تدخل فى باب الكماليات . إن المجتمع العاقل هو الذى يبدأ أولا بتلبية احتياجاته الضرورية من مسكن وغذاء ومياه صالحة للشرب وصرف صحى إلى جانب توفير الكهرباء ، والغاز ، والمواصلات ، والاتصالات ، والتعليم ، والصحة ، ثم يلتفت بعد ذلك إلى توفير وسائل الترفيه لأبنائه ، أما عكس الأمر فهو نوع من السفه ، وقريب منه الإصرار الأحمق على توفير الكماليات والضروريات فى وقت واحد .


14 ــ إن المجتمعات التى نجحت فى تحقيق الاستقرار والرفاه الاجتماعى بها لم تصل إلى ذلك بدون الفكر الصحيح ، الذى يرتب الأولويات ، وينتقل من المرحلة الأدنى إلى ما يليها بحكمة ورشد . ولعلنا جميعا نذكر أن ساعات الراحة من العمل كانت فى البداية قليلة جدا ، ثم أصبحت يوما واحدا فى الأسبوع ، وانتهت أخيرا إلى يومين ، بل أن هناك من يطالب الآن بجعلها ثلاثة أيام حتى يتاح للفرد العامل فى المجتمع أن يتمتع بأطول فترة من الراحة ، والشعور بالسعادة مع أسرته . هذا فى المجتمعات المتقدمة . أما المجتمعات المتخلفة فقد سارعت إلى محاكاتها فى جعل الراحة الأسبوعية يومين كاملين ، مع أنها فى أمس الحاجة إلى مزيد من العمل طوال أيام الأسبوع حتى تستطيع أن تصل إلى ما وصلت إليه المجتمعات المتقدمة .


15 ــ وإذا كنا قد تعودنا أن ننظر إلى المجتمع الواحد من زوايا متعددة فنفصل فيه بين الجوانب : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فإن هذا من أجل الدراسة فقط أما فى الواقع فإن هذه الجوانب تتداخل مع بعضها ، بل وتمتزج أحيانا بحيث يصعب الفصل بينها . وهذا ما يوقع بعض الباحثين فى التوصل لنتائج جزئية أو خاطئة . فإذا استعرضنا الجانب السياسى ، الذى يطلق عليه : علم الحكم أو فن الحكم ، وجدناه مازال حتى يومنا هذا منقسما إلى مذهبين كبيرين : أحدهما يذهب إلى السلطان المطلق للدولة ، والآخر يؤكد على حرية الفرد . وبينهما بالطبع مستويات مختلفة من محاولات التقريب أو التوفيق التى تسعى إلى عدم غلبة أحدهما على الآخر ، أو استئثاره وحده بالحكم .


16 ــ ونفس الأمر يكاد ينطبق على الجانب الاقتصادى الذى يتنازعه أيضا مذهبان كبيران : المذهب الاستراكى الذى يقرر ضرورة ملكية الدولة لوسائل الإنتاج ، والالتزام بتشغيل جميع أفراد المجتمع لديها كموظفين وعمال . والمذهب الرأسمالى الذى يقرر مبدأ حرية الملكية الفردية ، وعدم تدخل الدولة فى تحديد الأسعار أو حركة السوق ، مع قصر دورها فقط على تحصيل الضرائب وإنفاقها على الخدمات الضرورية للمواطنين ( الجيش والشرطة والمواصلات والتعليم والصحة ).


17 ــ ومن الواضح أن هذه المذاهب السياسية والاقتصادية الأربعة الكبرى لم تنشأ عبثا ، ولا بالصدفة ، وإنما جرى بحثها وفحصها بصورة عقلية خالصة قبل تطبيقها فى واقع المجتمعات التى أخذت بها . إن وراء كل منها فلسفة متكاملة العناصر والأبعاد ، كما أن لها مؤيدين ومعارضين ، والذين أخذوا بواحد منها لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن شعروا بأهميتها فى تحقيق التقدم المنشود لهم . وهنا علينا أن نلاحظ أن صحة أو خطأ هذه المذاهب لم يظهرا فقط من المناقشات التى تمت حولها ، وإنما من واقع تطبيقها فى الحياة العملية للمجتمعات . ولعل هذا يؤكد صواب بعض عناصر الفكر البرجماتى التى تقرر أن صواب أى فكرة مرهون بتطبيقها فى الواقع ، فإذا نجح التطبيق كانت صائبة ، وإذا فشل لم تكن كذلك .


18 ــ إن الفكر الصحيح حين يطبق على الواقع بصورة دقيقة ومنضبطة تخرج منه أروع النتائج . وقد سقطت للأبد تلك النظريات الأوربية العنصرية التى حاولت تقسيم المجتمعات والشعوب إلى فصائل مختلفة ، ومتباينة المستويات الفكرية والعقلية ، وذهبت فى غمرة الإعجاب بالتقدم الأوربى الناشئ حينئذ إلى أفضلية بعض الأجناس على بعضها . وفى هذا الجو قال شاعرهم :

- الشرق شرق والغرب غرب

- ولن يلتقى الإثنان أبدا !

لكن واقع الشعوب الشرقية الناهضة أثبت عكس هذه المقولات ، وأصبحنا نجد من دول الشرق ما يكاد يفوق الدول الغربية فى الذكاء ، وحسن الإدارة ، وكثرة الاختراعات ، بل إن بعض دول الشرق الذى كان يتهم أبناؤه بأنهم ذو عقلية سامية مفككة ، قد أصبحت الآن على أهبة التقدم لاحتلال مركز الصدارة بين دول العالم كله .


19 ــ وهكذا صار من المسلمات أن العقل الانسانى متشابه القدرة بين كل الشعوب ، وأن الفروق التى تفصل مجتمعا عن آخر لا ترجع إلى طبيعة العقل فى حد ذاته ، وإنما إلى ظروف البيئة التى ينشأ فيها وينمو ، والأجواء التى تتيح له فرصة الملاحظة والإبداع . إن كلا من التعليم والثقافة ، ومن حولهما الاعلام المعاصر هو الذى يتدخل فى تكوين العقل الحديث ، ثم هناك بعد ذلك الحوافز المجتمعية التى تدفع العقل لكى يتجه إلى التفكير المنتج ، ويبتعد عن التفسير الخرافى أو الوهمى للظواهر المحيطة به ، كما أنها تدربه باستمرار على مواجهة المشكلات المزمنة والطارئة ، ومحاولة إيجاد الحلول الملائمة لها .


20 ــ إن المجتمع المتخلف والخامل هو الذى يخفت فيه صوت العقل ، فلا يكاد يسمع وهو الذى يبتعد عن ملاحظة الواقع الذى يعيشه ولا يلقى بالا للسلبيات التى تحيط به ، ويظل مشغولا بأمـور لا تحقق أى مصلحة عملية لأبنائه . إنــه ببساطة المجتمع الذى يكثر فيــه (الكلام) ويقل فيه (العمل) . وقد أثبتت التجارب المتعددة أن الكلام وحده لا يحقق أى فائدة لمن يمارسه ، كما أن العمل بدون فكر سديد يسبقه ويصاحبه ويتابع نتائجه ، يظل ضربا فى الفراغ ، وإضاعة للوقت الغالى والثمين على المجتمع .


21 ــ لكن كيف يعمل الفكر لكى يحقق للمجتمع تقدمه وازدهاره ؟ هناك من يدعو إلى البدء بالتعليم ، وهناك من يرى الحل الأمثل فى التربية ، وهناك من يؤكد على دور الثقافة العامة ، وضرورة تطويرها فى المجتمع ، وهناك من يذهب إلى أهمية التدريب والتأهيل المستمرين ، وهناك من يرجع السبب الأساسى إلى ضرورة تولى الأكفأ مقاليد الأمور . وبالنسبة إلى الجانب السياسى ، هناك من يصر على شمولية الدولة وسيادتها المطلقة فى وضع القوانين وتنفيذها ، وفى المقابل ، هناك من يدعو إلى حرية الفرد ، وإفساح المجال أمامه لتحقيق منفعته دون قيود . أما بالنسبة إلى الاقتصاد ، فكما سبقت الاشارة ، هناك فريقان : أحدهما يؤيد النظام الاشتراكى الذى يضع وسائل الانتاج فى يد الدولة ، والثانى يؤيد النظام الرأسمالى الذى يقرر مبدأ السوق الحرة ، ويقصر دور الدولة على تحصيل الضرائب لتمويل الخدمات الضرورية للمجتمع .


22 ــ وهكذا فإن الفكر ليس أمامه طريق واحد ممهد ، بل العديد من الطرق التى يؤدى كل منها إلى نهاية غير متفق عليها تماما . والمطلوب أن يحاول الفكر أمام هذا الموقف المعقد ألا يحدد فقط الهدف المطلوب والصحيح ، وإنما أيضا الطريق المؤدى إليه . والمشكلة التى يواجهها الفكر هنا لا تتمثل فقط فى الفكر المخالف أو المناقض له ، وإنما أيضا فى غلبة الاتجاهات والتيارات التى تحرك الجماهير معتمدة على دغدغة مشاعرها الجياشة ، وعواطفها المتأججة ، ومستخدمة فى ذلك الشعارات البراقة التى قد تخدع المجتمع كله لفترة معينة ، ولكنها عند التحليل العقلى الموضوعى – تصبح فارغة من المضمون .


23 ــ وليس معنى ما سبق أننا نذهب إلى أن الفكر العقلى وحده هو القادر على مواجهة الواقع وحل مشكلاته ، بل لابد أن نضع فى اعتبارنا أن مكونات هذا الواقع تشمل رغبات البشر ومشاعرهم ومعتقداتهم وثقافتهم المحلية ، وقبل ذلك كله : آمالهم وآلامهم . وهكذا فإننا ندعو هنا فلسفة عقلية ذات طابع إنسانى ، يكون الغرض منها – كما قال بنتام – " تحقيق أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس " .


24 ــ لقد جرب العالم كلا من النظامين : الاشتراكى والرأسمالى ، والاشتراكية كما نعلم متعددة المستويات تبدأ من الشيوعية المطلقة إلى الاشتراكية الديمقراطية ، كما أن الرأسمالية تنقسم إلى رأسمالية معتدلة ، وأخرى متوحشة . وهناك نظام ثالث يجرى تطبيقه حاليا فى الصين ، وهو يجمع بين عناصر من الرأسمالية والاشتراكية . وعموما فإن هذه المذاهب كلها كانت فى بدايتها نظريات عقلية ، أى أفكار استحدثها العقل الانسانى ، لكن التطبيق الفعلى لها هو الذى كشف عن مواطن الضعف فيها أكثر مما اكتشفه فلاسفة ونقاد سياسيون واقتصاديون كبار . وهذا ما يجعلنا نؤكد ، ونعيد التأكيد على ضرورة استمرار الجدلية بين الفكر والواقع . ويترتب على ذلك أن نتيح للفكر كل امكانيات البحث واقتراح ما يراه من حلول ، لكننا لابد أن نقوم على الفور بالتجريب العملى للنتائج التى توصل إليها ، وبذلك نجمع بين أمرين فى غاية الأهمية :

- أن تظل أعيننا مفتوحة دائما على الواقع الذى نعيشه .

- أن نتجنب كثرة الجدل العقلى الذى يوقعنا فى التنازع بدون جدوى .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الأربعاء, 11 ديسمبر 2013 22:16