النيل في القاهرة
[كُتِبت بعد عودتي من قطر ، ورُؤية النِّيل تعلوه أبراجُ المُستثمرين الكبار ، الذين لم يُتركوا شبرًا للمصريِّين الفقراء كي يشاهدوا منه النيل !]
( 1 )
يجيء كل ليلة مُحَّطمًا من الترحالْ
كأنه « أبو العيال »
الخبز في كفيه ، والهموم في جبينه ، وفوق ظهره لفافة من الحبالْ يلقى بها تحت سرير زوجةٍ ، فائِرة الحسن ، لم تزل .. غنية الدلال تسألُهُ : عن الأساور التي وَعَدْ وعِطرها الذي نفد تسأله: ما رأيه في هذه الستائر ؟! وكيف لم يلاحظ الكحل ، ولا الضفائر؟! تسأله: ألا تريد أنْ ترى حذائي المُنضدا ؟ يجيب والنعاس في عينيه - يا حبيبتي .. نرى غدا
* *
لكنَّه قبل بزوغ الفجر ،
يرتدي ثيابه الزرقاء
وينحني مقبلا جبينها الوضاء
وحينما تسأله البقاء لحظة ،
يشد فوق صدرها الغطاء
وينثني للباب هامسًا :
- إلى اللقاء يا حبيبتي ..
إلى اللقاء
( 2 )
عند انكسار الشط في بولاقْ وحيث يُوغل النيل إلى الأعماق أقام عمِّي صابر تعريشة للشاي ، والقهوة ، والينسون يؤمُّها العشاق وسائقو الغليون
. .
وحينما ينتصف الليل ، ويصبح النَّسيم وشوشات وينتهي الحديث بالتبات والنبات ينزل من سمائه القمر مغتسلا في النيل ، وسط ثلة من النجوم بلا هموم !
( 3 )
الأغنياء أشرفوا عليه مِن شواهق الأبراج والفنادقْ والفقراء افترشوا العشب على شطآنه ، وصافَحوا مياهه من الزوارق ولم تزلْ فتاته المصرية العينين والهوى .. تجيء يوم عرسها إليه .. كي تعانق لكنَّما المسافر الدؤوب لا يُهدِّئ الخطى ، وينطلق مجدافه العتيق هادر ، وعينه على نهاية الأفق !
( 4 )
كنت إذا طغى الأسى بأضلعي ، أسير جنب الشط ناظراً في النيل وكلما تأملت عيناي في مياهه الخضراءْ انزاح همي الثقيل !
. .
وعندما اغتربت ، كنت حينما يَفيض بي الحنين ، أستعيد وجهه النبيل وقد تراقصت به الأمواج ، وانحنى على شطآنه النخيل فأسترد بعض رُوحي ، أستشف نسمة ممزوجة بالعشب ، تطفئ الغليل !
. .
واليوم .. ها أنا أعود ، كلُّ خُطوتي اشتياقْ مِن بعد حلوان .. إلى بولاق ارتفعت مِن حوله ستائر الأسمنت ، والنيون ولم يعد يُرى الغليون وصرت كلما شببتُ كي أرى مياهه الخضراء تثاقلت بي الشجون
* * *
|