عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
الاسلام فى مواجهة التدهور الثقافى للغرب صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
السبت, 16 أكتوبر 2010 18:58

الإسلام .. في مواجهة التدهور الثقافي للغرب

محاضره لروجيه جارودى
ألقاها بنادى أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة
وقام بالترجمة الفورية أ.د.حامد طاهر

 

 


إن اختبار ما أضافه الإسلام , وما يمكن أن يضيفه إلى الحضارة    العالمية – من وجهة النظر الغربية – يتضمن ثلاثة أنساق من التأمل :
1- الوعي بحقيقة التدهور المعاصر للغرب , ومصادر هذه التدهور .
2- تحليل عوامل إشعاع الإسلام في عصره المزدهر , ودوره الثانوي الحالي على المسرح العالمي المعاصر .
3- وضع فَرْض لشروط نهضة الإسلام , حتى يصبح هو روح الكفاح ضد "وثنية السوق" التي تقود عالم اليوم إلى انتحار كوْني .
تدهور الغرب :
الغرب اليوم هو سيد العالم . والمستعمرون القدامى , الذين تجمعوا في أوربا الـ(20) , قد أصبحوا خاضعين للولايات المتحدة الأمريكية , التي راحت تمارس بدورها هيمنة عالمية .
والملاحظ أن هذه الإمبراطورية في مرحلة تدهور : اقتصادي وسياسي وأخلاقي . وقد يندهش الكثيرون إذا عرفوا أن هذا التدهور لا يرجع إلى "الانفصال" عن المبادئ الأساسية التي قامت عليها الثقافة الغربية , بل إنه على العكس , يعتبر النتيجة الحتمية لانتصار هذه المبادئ ذاتها .
ولتحديد مفهوم الثقافة نقول : إنها عبارة عن مجموع العلاقات التي يقيمها الفرد أو الجماعة مع الطبيعة , والآخرين , والله .. أي مع الغايات النهائية للحياة .
والثقافة الغربية , منذ اصطلح على تسميتها بالنهضة أي الميلاد المتزامن للرأسمالية والاستعمار , قد تحددت في ثلاث مسلمات :


1- مسلّمة ديكارت : أن نصبح سادة ومسيطرين على الطبيعة بالعلوم والتكتيك .
2- مسلّمة هوبز : الخاصة بسيطرة المذهب الفردي , وسيطرة المنافسة على السوق (الإنسان ذئب بالنسبة للإنسان) .
3- مسلّمة مارلو : (أول مؤلف لفاوست) : الإنسان يمكن أن يحل محل الله في حكم العالم !
تلك المسلمات الثلاث , التي سادت القرنيْن (17,16) قد أصبحت بعد الثورة الصناعية المتولدة عن الآلة البخارية , وميكانيكا صناعة النسيج – هي الأسس وراء نظرة متفائلة للعالم , وهي التي – منذ القرن (18) , وحتى مطلع القرن (20) – قد أصبحت تعتبر (تقدما) و (حداثة) على المستوى الاقتصادي , والسياسي , والثقافي .
على المستوى الاقتصادي : سيادة مذهب الحرية الفردية في الاقتصاد liberalisme  وهو الذي يقرر – منذ آدم سميث – أن الفائدة العامة إنما هي مجموع الفوائد التي يحصل عليها الأفراد . وتبعاً لتلميذه الفرنسى باستياتBastiat    في كتابه :Harmonies economiques  فإن "اليد الخفية" تعمل بحيث أن كل فرد يسعى وراء فائدته الشخصية , وعندئذ تتحقق الفائدة العامة للمجتمع كله .
ولدحض هذه المذهب التفاؤلي , تطلب الأمر قرنين من الزمان : فإن حرية السوق تولّد عدم المساواة بين الطبقات , ومختلف صفوف الاضطهاد .
وتثبت المحصّلة النهائية لهذه القرون الثلاثة الأخيرة التي تمكنت فيها سيطرة الغرب بانفتاحه الاقتصادي أننا لا يمكن أن نتخيل خطراً أشد فتكا منها لتدمير كوكبنا : في سنة 1922 , كانت 80% من المصادر الطبيعية في العالم قد تم التحكم فيها , واستهلاكها بواسطة 20% فقط من السكان .
ونتيجة هذا التوزيع الغاشم : فإن 25 مليونا قد ماتوا نتيجة سوء التغذية , والجوع : وهو ما يعادل خسائر هيروشيما في اليوم , بسبب نموذج التنمية القائم في الغرب .
وانعدام المساواة لم يتوقف عن التفاقم : يلاحظ برنامج الأمم المتحدة للتنمية أنه في خلال ثلاثين عاماً فقط قد تضاعف الفارق بين البلاد الأكثر غنى في  الشمال , والبلاد الأكثر فقراً في الجنوب .
ونصيب إفريقيا في الإنتاج القومي الخام العالمي قد تناقص – في مدى عشرين عاما – من 1.9% إلى 1.2% .
وما سبق أن أسماه الرئيس الأمريكي السابق بوش بالنظام العالمي الجديد لا يقصد به إلا انتشار القوة في العالم كله لهذه العلاقات الاستعمارية بين دولة , أصبحت الآن فصاعدا متفردة , وبين بقية دول العالم .
على المستوى السياسي : الكذبة هي نفسها . ولكنها تحت اسم "الديمقراطية" : يقرر إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صاغته الثورة الفرنسية أن "كل الناس يولدون أحراراً ومتساويين في الحقوق" . وبما أن الدستور الفرنسي الذي يجعل من هذه العبارة افتتاحيته , يستبعد حق الترشيح لثلاثة أرباع   الفرنسيين . لأن من يرشح نفسه لابد أن يمتلك قدراً معيناً من المال (يقاس بما يدفعه من ضرائب) . أما باقي الفرنسيين فإنهم يعتبرون "مواطنين سلبيين" أي ليس لهم الحق في الإسهام في القيادة , وتسيير الشئون العامة .
تلك إذن هي ديمقراطية الملاّك التي تستبعد من دائرتها كل الفقراء !
- ويقرر إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية أن الناس كلهم "أمام الله" متساوون . لكنه يظل مصرّاً , خلال قرن كامل , على استبعاد الزنوج .
تلك إذن هي ديمقراطية البيض , التي تستبعد من دائرتها كل الزنوج !
- إن كلمة "الديمقراطية" نفسها قد استعيرت من الإغريق , وهي تعني حكومة الشعب . واليونان القديمة يعتبرها الأوربيون أماَّ لهم , ونموذجاً للديمقراطية الحديثة . ومن المؤسف أنه في أثينا – على عهد بيركليس المزدهر – كان يوجد (20) ألف مواطن حر , في مقابل (110) ألف عبد , محرومين من أي حق .
وتلك أيضا ديمقراطية سادة العبيد ! إن أثينا لم يكن لها من الديمقراطية سوى الاسم فقط . وقد كانت في الواقع حكومة أقلية مستغلة لكثرة هائلة من العبيد .
وتلك إحدى أهم الكذبات الكبرى التي استمرت حتى يومنا هذا !
وفي عصرنا الحاضر , وفي ظل الاقتصاد الحر , حيث أصبح "السوق" هو المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية , فإن المال , والقدرة الاقتصادية هي التي تمنح وتدعم القوة السياسية , والقوة الإعلامية , أي قوة تحريك الرأى العام . ومن المعروف الآن أن ما يزعم بأنها ديمقراطية قد أصبحت محكومة وموجهة بالقوى المالية الكبرى .
ان فوارق الثروات , واضطهاد الأكثر فقرا لا يزالان في تفاقم : في  فرنسا – على سبيل المثال – كان في سنة 1922 ما يعادل (6%) من الشعب يمتلك (50%) من الناتج القوي , في حين كان (94%) يقتسمون الـ(50%) الأخرى .
وفي الولايات المتحدة الأمريكية : (5%) من الشعب تمتلك (90%) من الثروة القومية !
على مستوى الثقافة : مازال الغرب يعيش على الرأي المسبق الذي يرى أن العلم ووسائل التكتيك يمكنها أن  تحل كل مشكلات البشر , وتضمن السعادة  لهم .
منذ سنة 1942 , ومع كتاب (السيبرنيتكا والمجتمع) الذي ألفه نوربير واينر Norber Wiener , تولّدت فكرة أن المجتمعات الحديثة هي أكثر تعقيدا من أن يقودها الإنسان , وأن العقل الصناعي أو المصطنع للآلات ينبغي أن يحل محلّ عقل الإنسان .
ومع اختراع الكمبيوتر في سنة 1945 , على يد فون نيومان , بدأ يتكون جيش جديد من الرجال (المبرمجين) الذين اعتقدوا أن الكمبيوتر يمكنه أن يدلهم على الغايات النهائية للحياة , بدلاً من اعتباره آلة من أروع الآلات التي ظهرت لخدمة الإنسان في توضيح الوسائل الفعّالة التي يتوصل بها إلى تلك الغايات .
وهكذا وُلدت تحت اسم "الحداثة" ديانة حقيقية للوسائل : واعتُبرت أهداف الإنسان مكتسبة : إرادة التكاثر , إرادة القوة , إرادة المتعة . وهذا هو الثالوث الأسود الذي أصبح هو الإله المختبئ وراء وثنية السوق . وتلك الديانة , التي لا أجرؤ أن أصرح باسمها الحقيقي , تنزع من الحياة الإنسانية معناها : فالهدف الوحيد , والغاية النهائية الوحيدة هي "التكاثر" أي الإنتاج والاستهلاك أكثر فأكثر , وبسرعة أكثر فأكثر , لأي شيء : سواء كان نافعاً أو غير نافع , أو ضارا , وحتى مدمّرا مثل الأسلحة , والمخدرات .
*   *
وفي مواجهة هذا العالم , الفاقد المعنى والميت , لماذا لا يقوم الإسلام اليوم بدور محرّك من أجل الإنقاذ , والحياة الإنسانية والإلهية للعالم ؟
سوف أتناول هنا نموذج الإسلام في الأندلس . أولاً لأنه كان نموذجاً رائعًا لإشعاع الإسلام في الغرب , وثانياً لأنني استمتعت باستحضار هذا الإشعاع في (مؤسسة روجيه جارودي في قرطبة) تلك المدينة التي كانت مركز الخلافة في الأندلس .
كان الإسلام خلال أربعة قرون هو المجتمع الأكثر ديناميكية في العالم :
- بعقيدته
- بثقافته
- بتصوره للمجتمع
فما هي الأسباب وراء هذه العظمة الماضية , والحالة الحاضرة ؟
وكيف يمكن أن يعود الإسلام قوة حيّة , حاملة للأمل ؟
في زمن الرسول r والخلفاء الراشدين , خلال القرن السابع الميلادي , كان انتشار الإسلام خاطفا . ولم يكن غزواً حربياً , وإنما كان ثورة ثقافية .
فما هو العامل الرئيسي وراء الصعود لتلك الذروة ؟
على النقيض تماماً , من الأساطير التي اخترعها أعداء الإسلام  المتأخرون, فإن الدين الإسلامي لم يفرض في شبه جزيرة ايبيريا بقوة الغزو العسكري , وإنما كان انتشاره راجعا إلى أنه :
1- حرية دينية
2- ثورة اجتماعية
3- تحول ثقافي

1- الإسلام : حرية دينية
في اسبانيا , وتحت سيطرة الغوط , جرى اضطهاد المسيحيين من أتباع أريوس باعتبارهم مبتدعة , وذلك لأنهم لم يكونوا يعتبرون عيسى , u , إلها , وإنما هو نبي كبير .
وقد جاء المسلمون إلى الأندلس بعقيدة التوحيد البسيطة والقوية : تلك العقيدة التي تقرر أن أصحاب الكتب السماوية : إبراهيم , وعيسى , ومحمدا كانوا رسلاً لله تعالى .
إن الإسلام لم يظهر (ولم يقدم نفسه أبداً) كدين جديد تماماً , وُلد مع الوحي المنزّل على النبي محمد r , وإنما كقاسم مشترك لكل الأديان الموحى بها (هجر النفس لله) منذ نفخ الله من روحه في آدم , كما يقول القرآن في سورة السجدة ,  آية 9 ) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ  (.
بهذا الشكل , يتحدد الإسلام في القرآن بصورة واضحة جدا . فالله تعالى يأمر محمداً r أن يقول ) مَا كُنْت بِدْعًا مِنْ الرُّسُل  (سورة الأحقاف , آية 9 . ويذكره في أكثر من موضع ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً  (سورة الروم , آية  47 . وكل هؤلاء الرسل كانوا مبعوثين من قبل الله تعالى . والله في القرآن الكريم يأمر المسلمين أن يكرّموا أنبياء اليهود , ومسيح النصارى , ويدعو محمداً r أن يذكر البشر كلهم بالدين الفطري ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  (سورة الروم , آية 30 . وهذا يعني أن الدين الفطري , هو دين الله المطبوع في قلب كل إنسان , وهو نعمة عامة ودائمة منحها الله لخلقه ) فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ   (سورة الروم , آية 30 .
) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ  (سورة البقرة , آية 136 .


2- الإسلام : ثورة اجتماعية
يعتبر المبدأ القرآني الذي يقرر أن (الله وحده هو المالك الحقيقي للأشياء) على النقيض تماماً مع القانون الروماني الذي يقرر أن الملكية هي (حق الاستعمال والاستغلال) . لذلك استقبل الفلاحون المسلمين المتحررين الذين يعطون الأرض "لمن يفلحها" في مقابل ضريبة ضئيلة جداً .
إن كل تعاليم القرآن الكريم , وخاصة المتعلقة بالزكاة , تقوم بتحويل اجتماعي للثروة كفريضة دينية , والنهي عن الربا , أي كل زيادة للثروة بدون عمل – يتجه إلى منع تراكم الثروة في طرف من المجتمع , بينما يجرى توزيع الفقر على الطرف الآخر !
ويستبعد الله تعالى , في القرآن الكريم , أي نظام اجتماعي , يقوم فيه المال بتكوين طبقية سياسية . وهو يصرح دون غموض أو لبْس قائلا ) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا  (سورة الإسراء , آية 16 .
3- الإسلام : تحول ثقافي
على النقيض تماماً من التعصب الذي ظهر من المحتلين الغوط , تجلت روح الانفتاح لدى الرسول r الذي أوصى بالبحث عن العلم "ولو في الصين" . وقد أتى الإسلام , مع القادمين من المشرق , بالعلوم والحكمة من الهند , ومن إيران , ومن بيزنطة . ومن الواضح أنه أنشأ حضارة حيّة جدا , بدت وكأنها "نهضة حقيقية" لأوربا (بدون حملات صليبية مضادة للمسلمين من المشرق ومن المغرب) نجحت في أن تؤتي ثمارها في أسبانيا , في القرن الثالث عشر الميلادي . ومن الملاحظ أن هذه النهضة كانت استجابة لتعاليم الله , وليس كما حدث في إيطاليا في القرن السادس عشر , ضدها !
ان مثل هذا التداخل والانسجام بين الحضارات الكبرى , وتلك الوحدة في العقيدة جعلت من الأندلس مركزا إشعاع ضخم للثقافة .
وفيما يتعلق بالعلوم , أضافت الأندلس إضافة مبدعة للثقافة العالمية :
في علم الطبيعة , تمثلت الإضافة الأساسية للعلم الإسلامي في المنهج التجريبي , الذي يتعارض مع التصورات الذهنية لدى الإغريق : ليس الجزء الخامس من كتاب روجر بيكون (Opus Majus) سوى اقتباس منهجي , وأحيانا مجرد ترجمة لكتاب ابن الهيثم عن البصريات . والأمر هنا يتعلق بالمنهج التجريبي, بالمعنى الحديث جدا (فرض منهجي , ثم التحقق منه بوسائل تجريبية) وعلى أساس هذا المنهج , يجري ابن الهيثم دراساته عن انتشار الشعاع المنعكس عن طريق أوضاع مختلفة .
ويكفي أن نذكر أن بيكون نفسه , الذي يعتبر في الغرب هو الأب الشرعي للمنهج التجريب في العلوم , يعترف بتواضع علمى حقيقي أن معرفة اللغة العربية, والعلوم التي يتم التوصّل إليها بهذه اللغة , هي الطريق الوحيد للمعرفة .
ولم تقتصر إضافة العلم الإسلامي فقط في المنهج التجريبي ومجموعة الاكتشافات المدهشة التي صحبته وتبعته , وإنما أيضا في العلاقة التي أقامها هذا العلم الإسلامي بين المنهج التجريبي , الذي زودنا بوسائل قوية للسيطرة على الطبيعة وعلى البشر , وبين إمكانية أن يكتشف الإنسان الغايات النهائية لأفعاله , عن طريق جدل فلسفي يصعد إلى تلك الغايات , ويرتبط في مرحلته الأخيرة بالوحي الإلهي . وهذا هو الموضوع الرئيسي في الفلسفة الإسلامية .
ان مثال الجامعة الإسلامية في قرطبة , في القرن العاشر الميلادي ,   يمثّل – من وجهة النظر هذه – نموذجا يجدر بنا أن نعيد إحياء روحه , لكي نطور علوم عصرنا بنفس الطريقة السابقة , وبحيث لا تستخدم في تدمير الإنسان , وإنما في إعلاء طاقاته .. على طريق الله تعالى .
من هذه الجامعة الإسلامية في قرطبة , والتي استمرت من القرن العاشر الميلادي حتى القرن الثالث عشر , شعّت الثقافة على امتداد ثلاث قارات : الثقافة في شكلها الأكثر اكتمالا (العلم + الحكمة + الإيمان) :
العلم : بالتوصل إلى المنهج التجريبي للكشف عن علاقات الأشياء بعضها ببعض , وبينها بين تسلسل الأسباب .
الحكمة : كتأمل حول معنى كل شيء , وعلاقته بالله , في عالم متناسق وواحد , حيث يصبح للحياة فيه دلالة وهدف .
الإيمان : كاعتراف بأن العلم لا يبلغ أبداً سببه الأول , ولا تبلغ الحكمة غايتها النهائية . الإيمان كوعي بحدودنا ومسلّماتنا . الإيمان كفعل بدون حدود فاصلة . الإيمان كوعي بالقانون الإلهي وبمعنى الحياة .
إن مثل هذا التصور للعلم والتكنيك يمكنه اليوم – وهذا هو جانب المعاصرة فيه – أن يجنبنا مخاطر العلوم والتكنيك التي تقودنا لا محالة إلى انتحار كوني .
في هذا العصر الحاضر , وضد وثنية السوق , أي المال , الذي يدمّر معنى حياتنا الشخصية , وتاريخنا المشترك – يفتّش ملايين من الرجال والنساء عن (القانون الإلهي) الذي يمكنه – وحده – أن يعطي معنى لكل من الحياة والتاريخ .
وهذا (القانون الإلهي) وتلك (الشريعة) هي التى يمكن للمسلمين اليوم أن يقدموه لغير المسلمين , أولئك الذين لا يملكون عنهما سوى صورة مشوّهة , تعوقهم عن أن يجدوا فيها معنى الحياة :
وكلمة (شريعة) لا تظهر إلا مرة واحدة في القرآن الكريم , في قوله تعالى ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا  (سورة الجاثية , آية 18 .
ومع التذكير الإلهي بنماذج الوحي السابقة , كالذي أنزل على موسى في التوراة , وعلى عيسى في الإنجيل – وكل منها يحتوي على (هدى ونور) : ) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ  (سورة المائدة , آية 46 , يقول الله تعالى أيضا    ) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ   (سورة الشورى , آية 13 .
وهذه الآية تعبّر بوضوح عن أن (الطريق = الشريعة) هو الطريق الذي يؤدي بالإنسان نحو الله . ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون المقصود منه مجرد قانون فقهي خاص , يتعلق مثلاً بحد السرقة , والزنا, أو توزيع الميراث , ومكانة المرأة , حيث أن الأحكام الفقهية تختلف حول هذه النقاط من شريعة لأخرى , كما في التوراة , والإنجيل , والقرآن , أي حسب العصور , والمجتمعات التي أرسل الله تعالى رُسَلَهُ إليها .
الشريعة أو الطريق : الشريعة تشير إذن الاتجاه الأخلاقي العالمي والخالد الذي دلّ عليه كل الأنبياء , وليس فقط عدداً من التعاليم الفقهية المرتبطة بأوضاع تاريخية , لا تتوقف عن التغير , كما أن فعل الله تعالى لا يتوقف عن الخلق ) إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ  (سورة يونس , آية 4 .
وهكذا تظل هذه الأهداف النهائية لحياتنا موضع إشارة متكررة في كل صفحة من القرآن الكريم , وبكل أنواع الوحي , وكل ضروب الحكمة التي منحها الله لكل الشعوب , في لغة هذه الشعوب , وعن طريق رسله :
·    الله وحده هو الذي يملك
·    الله وحده هو الذي يحكم
·    الله وحده هو الذي يعلم
ذلك إذن هو القانون الإلهي , والشريعة العالمية والخالدة التي ذكّر بها كل أنبياء الله ، والتي ابتداءً منها نحن مسئولون عن تكوين (الفقه) الذي يستجيب لحاجات كل عصر , وكل مجتمع .
- الله وحده الذي يملك : يجعل كل ملكية نسبية , ويحدد بالتالي مسئولية الإنسان عن ممتلكات الله , الذي يمكنه أن ينزعها منه إذا لم يحسن استثمارها في طريق الله .
- الله وحده الذي يحكم : يجعل كل سلطة نسبية , مع استبعاد الملكيات التي تدعى لنفسها حقاً إلهيا , وكذلك الأحزاب السياسية المتفردة بالسلطة , والطابع الغربي المتحيز للديمقراطية : الله أكبر من كل السلطات الأرضية والزمنية .
- الله وحده الذي يعلم : يجعل كل معرفة إنسانية نسبية . وهذا معناه أنني عندما أذكر شيئاً عن الله , فإنني لا أخرج عن كوْني إنساناً يذكر عن الله . وإذا كان الله تعالى هو الذي يتكلم في وحيه , فإن إنساناً هو الذي يستمع إليه , ويشرحه , ويفسره . وهنا يتعلق الأمر دائماً بمعرفة غير مكتملة , مرتبطة بكل عصر , وبكل مجتمع على حدة . وبالتالي يصبح من غير الممكن تعميمها في قضايا مغلقة , وكذلك الزعم بامتلاك معرفة مطلقة , وفرضها على الآخرين عن طريق "محاكم تفتيش" !
وهكذا يمكننا – ابتداءً هذه المبادئ المناسبة لكل زمان ومكان – أن نتقدم كمسلمين , يحترمون كل نماذج الوحي الأخرى , وكل ضروب الحكمة , مع استبعاد أي تناقض فيما يتعلق بالدين , وتقديم هذا (القانون الإلهي) , وتلك (الشريعة) إلى كل الذين يرغبون اليوم في مكافحة ألوهية السوق , ووثنية المال .
ومن الواضح أن مثل هذا الفهم يستبعد أي تفسير حرفي , ينتزع آية قرآنية من سياق الكتاب الكريم , ومن الظروف التاريخية التي نزلت فيها .
بهذا فقط يمكن لنهضة الإسلام أن تجد من جديد المبادئ التي صنعت عظمته الأولى .
لقد كان الإسلام مشعّاً ومنتصرا لأنه لم يبحث عن تضخيم خصوصيته , والزعم بأنه – وحده – يمتلك الحقيقة كلها , ولكن على العكس , ظهر الإسلام – لا كدين خاص – وإنما كدين أساسيّ وأول , مرسل من الله تعالى إلى كل البشر , لأنه يناسب , باسم توحيد الله , كل ملكية , وكل سلطة , وكل معرفة . ولأنه دعا كل مسلم أن يعي مسئوليته عن نفسه , وأن يُنشَط روحه النقدي – بالرغم من مخاطره وأخطاره – من أجل الإبداع , في كل عصر , وفي ظروف متجددة باستمرار , وابتداءً من مبادئ عالمية وخالدة للقانون الإلهي , وللشريعة , وللأحكام الفقهية , وللدساتير , وللأنظمة الاقتصادية , التي تستجيب لحاجات الإنسان المتجددة على الدوام .
إن علينا اليوم مسئولية إيجاد (فقه) العصر الحالي , بدلاً من الاقتباس بكسل لبعض آيات من القرآن , وإطلاق اسم (شريعة) عليها .
إن إعادة اكتشاف المبادئ الإبداعية في الإسلام الحي , التي صنعت عظمته في الماضي : تعني إكمال مهمتنا كمسلمين أوفياء لروح القرآن الكريم .
كما أن القرآن الكريم لا يمكن فهمه بعيون الموتى , وتحت غمامة (التقليد). وهكذا لابد من الاغتراف من المبادئ الخالدة للقانون الإلهي , ومناهج الإبداع في الحياة الجديدة مع الاتصال الدائم بكل الذين تمثّل لهم الحياة معنى ..
إن الاتجاه نحو البحر لا يعني أكثر من أن يصبح النهر وفياً لمنبعه .

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy
آخر تحديث الاثنين, 07 فبراير 2011 02:34