عداد الزائرين

mod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_countermod_vvisit_counter

إضافات حديثة

   
 
المقدمة صيغة PDF طباعة أرسل لصديقك
كتبها Administrator   
الجمعة, 26 يوليو 2019 13:05

المقدمة :


مع نهاية الأربعينيات من القرن العشرين.. لم يكن فى القاهرة من منتجات الحضارة الحديثة سوى القليل من ( الأشياء ) و ( وسائل المواصلات ) و ( أدوات الترفيه ) .

وكانت الحياة تمضى بطيئة، وأحيانا صعبة ، ولكنها أقل إزعاجا ، وربما أكثر سعادة !

معالم كثيرة كانت مرتبطة بهذه الحياة اختفت ، وحلت محلها معالم أخرى : أكثر عددا ، وأشد تعقيدا . فى أسرتنا مثلا : كنا نشترى الدقيق ، ونعجنه ، ثم نذهب به إلى الفرن البلدى لنخبزه . وقد اختفى الآن كل من بائع الدقيق ، والفرن البلدى !

وكان الصابون هو الوسيلة الوحيدة لغسيل الأجسام ، والملابس ، والأوانى النحاسية ، وهذه كانت تحتاج إلى إرسالها من وقت لآخر إلى ( مبيذض النحاس ) ، الذى أعتقد أنه اختفى الآن تماما !

وكان أبى ، عليه رحمة الله ، يرتدى على رأسه الطربوش ، وهذا يتطلب تنظيفا وكيا على فترات .. ولهذا الغرض محل شهير فى ( شارع الغورية ) ، أظن أنه هو الآخر لم يعد له وجود !

وفى ميدان الحسين ، كنت أشاهد ــ وأركب أحيانا ــ عربات لنقل الناس تجرها الخيول ، ويمتلكها خواجه اسمه ( سوارس ) وقد اختفى تماما من القاهرة ، ولم تعد تظهر إلا فى أفلام رعاة البقر الأمريكية .

أما الترام ، فكانت رؤيته عجبا ، والجلوس فيه متعة ، وهو بالنسبة لنا : يبدأ من أمام الأزهر الشريف ، منسابا ببطء شديد إلى ميدان العتبة الخضراء ، ومستديرا إلى شارع كلوت بك ، ومنه إلى باب الحديد ، حيث القطارات ، والسفر ، ووجه بحرى ، والصعيد ..

وكان مرو سيارة من طراز تلك الأيام ــ وهى غالبا سوداء اللون ، ولا يرى من بداخلها ـ يثير فى نفوسنا ، نحن الأطفال ، الكثير من الدهشة والاستغراب !

وبالطبع كانت الجرائد موجودة ولكنها عادة من شأن الكبار ، الذين يهتمون وحدهم بالسياسة ، ويتناقشون فيها !

وكان الراديو الكهربائى ، الكبير الحجم ، يوحى فى المنزل بقدر من الأصالة ، ويدل على أن أهله مستورون ..

أما برامجه ، فكانت قليلة ، ولكنها متميزة : ففى الصباح الباكر ، تصحو القاهرة على القرآن الكريم بصوت مصطفى اسماعيل ، أو الصيفى ، أو عبد الحكم ، أو الدمنهورى .. وأحاديث الصباح الدينية : واضحة ، ومحددة ، وتدعو إلى التفاؤل ، يلقيها محمد دراز ، أو ابراهيم سلامة ، أو محمود شلتوت .. وتمرينات الصباح الرياضية تشيع فى النفس مزيدا من الحيوية والنشاط .. أما أغنية :

( يا صباح الخير يا للى معانا .. ده الكروان غنى وصحانا )

فقد كانت علامة مميزة على طابع ذلك الزمن السعيد ! وبالنسبة لنا ، نحن الأطفال ، كان برنامج ( بابا شارو ) زادا حقيقيا ، ننتظره بشوق ، ونودعه بأسف !

أما يوم الخميس الأول من كل شهر ، فكان هو موعد الأسرة كلها حول الراديو مع حفل أم كلثوم الساهر ، والذى كان يضفى عليه مزيدا من المهابة : حضور الملك شخصيا !

وبالطبع كانت هناك بعض دور السينما الشهيرة .. ولم نكن ، نحن الصغار ، بأهل لارتيادها وإنما كنا نسمع فقط أنها من حق شاب يمتلك المال والفراغ ، أو خطيبين على وشك الزواج !

وقد يكون الأسانسير موجودا .. ولكننى شخصيا لم أره إلا عندما ترك الخواجات عماراتهم التى تستخدمه ، وتحولت شققهم الواسعة فى وسط القاهرة إلى عيادات لكبار الأطباء ، ثم اضطرتنا الظروف أحيانا إلى أن نصعد فيه ، عن طريق بواب نوبى ، كان هو وحده الذى يعرف كيفية تشغيله !

أما ( المنياتيفون ) ، وهو جهاز الاسطوانات الذى يدار باليد ، فقد كان هو الآخر مصدر تسلية للأسرة ، ولكنها تسلية جماعية فقط .. فلا يمكن لفرد واحد أن يستمتع به ، لأنه يحتاج إلى من يظل يديره بيده ، وكثيرا ما كنا نجرى القرعة فيما بيننا على من يقع عليه عبء هذا العمل المرهق !

ومازلت أذكر اليوم الذى عاد فيه أخى الأكبر بصفقة ، اعتبرها معظم أفراد الأسرة كسبا كبيرا ، وهى عبارة عن حوالى مائة اسطوانة قديمة ، بعضها صحيح ، وبعضها مشروخ ، لأغانى ، واسكتشات ، وتواشيح .. وأكد لنا أنه اشتراها كلها بجنيه واحد .. وقد رحنا نكتشف ــ ونحن نقلب فى تلك الصفقة ــ أصوات منيرة المهدية ، وصالح عبد الحى ، وألحان كامل الخلعى ، وسيد درويش !

ويوم آخر .. مازالت أذكر تفاصيله : عاد أبى مندهشا للغاية من رؤية جهاز حديث ، يعيد إذاعة الصوت كما هو .. ورغم أنه أكد لنا أن البائع قد أطلعه على التجربة ( تجربة سماع صوته بعد حديثه معه ) إلا أنه ظل غير مقتنع تماما بما حدث .. وربما لأول مرة ، يقابل أبى من أمى وإخوتى الكبار بعدم تصديق ما يحكيه لهم ، عن مشاهداته خارج البيت !

فى هذا كله .. لم تكن أسرتى متفردة ، وإنما مثلها مثل آلاف الأسر المصرية فى القاهرة ، التى لم تدخل التلفزيون والثلاجة والبوتاجاز ، ولم تستخدم الأباجورة ، والجرس الموسيقى إلا فى أواخر الستينات من هذا القرن !

وإذا كان الإنسان ابن أسرته أولا .. ثم ابن الحارة ، والحى ، والمدينة بعد ذلك ، فإن التطور السريع الذى شمل تفشى منتجات الحضارة الحديثة فى بلادنا قد قلب فى النفوس كثيرا من التصورات ، كما أنه كسر عددا لا يستهان به من العادات والتقاليد .. فمثلا : تناول الطعام بالشوكة والسكين تطلب منى ، بعدما كبرت ، أن أتسلل وحدى إلى أحد مطاعم باب اللوق، وأجلس فى ركن منفرد، محاولا عشرات المرات أن استخدمهما على نحو يبدو عفويا ! ودخول فندق الهيلتون بالقاهرة كان مستحيلا بدون خبرة أستاذى وصديقى د. الطاهر مكى ، الذى علمنى كيف أختار المكان المناسب ، والطلب المناسب ، وأتحدث إلى الجرسونة بالطريقة المناسبة !

أما الطائرة .. فلم يكن يتصور فتى عاش بين حى الحسين ، وحى الدرب الأحمر أن يركبها .. وإذا ركبها فإلى أين ؟! لكن الفرصة سنحت فجعلتنى أستقل الطائرة مباشرة إلى باريس ، وأذكر أننى وصلتها فى أعياد الميلاد سنة 1974 ، ولكى يطلعنا قائدها على منظر باريس فى الليل المتلألىء ، مال بنا عدة مرات ، ونحن فى حالة بين الموت من الخوف ، والانبهار .. لكى نرى مشهدا لا يمكن وصفه ، ولا حتى تصويره ..

وفى فرنسا ، عشت الحياة العصرية بألوانها الزاهية على مدى سبع سنوات : شاهدت المعارض ، والمتاحف ، والمسارح ، ودور السينما ، وجلست فى المقاهى الشعبية ، والكلاسيكية ، ونعمت بدفء المكتبات العامة ، وروعة الحدائق العريقة ، ودعيت إلى بعض الحفلات الدبلوماسية ، ولم يكن تصرفى ، فى هذا كله خارجا عن المألوف !

وهكذا يمكن القول بأن ظروفا معينة قد وضعتنى فى قلب العصر الحاضر ، وجعلتنى واحدا من أبنائه . لكننى لا أدرى : ما الذى يجعلنى عندما أمارس منتجات هذا العصر ــ وقد جهدت كثيرا مثل معظم الناس فى الحصول عليها ــ لا أشعر بالسعادة التى كنت أتوقعها ؟!

إن منتجات القرن العشرين ، فى نظرى ، ليست سوى مجموعة من الأشياء ، سهلت بدون شك بعض مصاعب الحياة ، ومجموعة من العلاقات ، نظمت ــ إلى حد ما ــ حركة الحياة اليومية .. ولكنها أيضا مجموعة من الأساطير الجديدة ، التى حلت ــ بكل عنف ــ محل الأساطير القديمة !!

وطالما تساءلت : هل استطاعت منتجات القرن العشرين أن تغير للأفضل شيئا من طبيعة الإنسان المصرى ؟

مع طلائع أدبنا العربى الحديث ، تنبه المويلحى ، رحمه الله ، لصدمة المستجدات الحديثة على الإنسان فى بلادنا ، فكتب عمله الرائد ( حديث عيسى بن هشام ) . وعبر عنها جزئيا توفيق الحكيم فى رائعته ( عودة الروح ) .. وسجلها بأناقة بالغة يحيى حقى فى عمله الفذ ( قنديل أم هاشم ) . وأفاض فيها باقتدار مشهود له نجيب محفوظ فى ( الثلاثية ) ..

إن أعلام الرواية العربية كانوا بدون شك أشد إحساسا بتلك الصدمة التى أحدثها الدخول الساحق للحضارة الحديثة فى بلادنا ، على حين ظل أعلام الشعر من أمثال البارودى ، وشوقى ، وحافظ .. وحتى العقاد منهوكين فى الصراع مع القالب الفنى ، حتى إذا حسبوا فى النهاية أنهم انتهوا منه ، كانت قواهم قد خارت ، فلم يفعلوا شيئا مع المضمون ..

وفى رأيى الخاص : أن رواد الشعر الحديث من أمثال السياب ، ونازك الملائكة ، وأدونيس ، وصلاح عبد الصبور ، قد وقعوا أيضا فى نفس المأزق .. فقد استغرقهم الصراع مع القالب ، وراحوا يبذلون محاولات مستميتة من أجل الخروج عن المألوف ، وكسر التعود الموسيقى الذى أسكر الأذن العربية ما يقرب من ألفى عام .. وقد نجد لديهم بعض الاستنكار والإدانة .. ولكن ذلك ضائع فى رؤية غائمة ، ويأس متأصل ، وألم من وجع غير معروف !

أليس عجيبا أننى أتحدث من منصة الشعر .. بينما تعاطفى هناك مع كتاب الرواية ؟! الواقع أنهم هم الذين نفذوا إلى الجوهر من بين تعاريج الشكل ، رغم أنه كان جديدا عليهم ، وهم الذين عبروا عن الثابت ، وسط تلاحق المتغيرات ، رغم أنهم كانوا محرومين من وجود فلسفة عربية تكشف لهم حدود الثبات والتغير . وهم الذين استطاعوا أخيرا أن يسجلوا ــــ بوعى كامل ـــــ تلك اللحظات الفارقة فى حياة الإنسان فى بلادنا .. وهو يودع عصرا ، ويستقبل عصرا آخر .

لقد كان أولى بالشعر أن يرصد هذه اللحظات ! فهو الأقدر على أن يمسك ــ فى لغته المكثفة ــ تلك اللحظات السيالة والمواقف السريعة الحركة ، التى قد تنتقل من الضد إلى الضد فى لمح البصر .. ومن العجيب أنها تظل فى كلا الحالين متناسقة مع نفسها !

وهذا ما كنت أحاوله فى قصائدى التى نشرتها فى ديوانى السابق ، بعنوان ( ديوان حامد طاهر) الذى صدر سنة 1984 . وهو نفسه ــ وربما بصورة أكثر قصدا ــ ما أقدمه اليوم من خلال هذا الديوان الجديد ، الذى يحمل عنوان ( قصائد عصرية ) .

وهنا اعتذار لابد منه : فقد كنت ظننت أننى بنشر ديوانى السابق ، قد توقفت تماما عن كتابة الشعر ، وخاصة بعد أن استغرقنى العمل الجامعى بحثا وتدريسا ، سواء فى جامعة القاهرة ، أو فى جامعة قطر .. ولكننى فجأة وجدتنى أعاود كتابة الشعر من جديد ، وأسترسل فى مجموعة من القصائد ، تدور كلها فى فلك واحد .. وأعترف بأن هذه إحدى أعاجيب الشعر : يهجرنا متى شاء .. ويعاودنا متى أراد ..

ماذا أريد أن أقول فى هذا الديوان ؟ .. شئ بسيط : هو أن السعادة تنبع من داخل النفس ، وليس من امتلاك الأشياء أو ممارستها .

وقد خرجت علينا حضارة القرن العشرين بأشياء كثيرة ، نتسابق جميعا ــــــــ فى عنف بالغ ،ــــــ وأحيانا بوحشية ـــــــ من أجل امتلاكها ، واستخدامها ، وتكديسها فى بيوتنا .. ظانين أننا بذلك نحقق لأنفسنا ما تسعى إليه من راحة ، وهدوء بال ! غير أننا ننسى ــ ونحن فى قسوة هذا الصراع اليومى الدائر ــ أننا نبتعد كثيرا عن أنفسنا ، وعن الناس ، وعن الطبيعة . ثم لا نكتشف إلا فى اللحظة الأخيرة أن جهدنا كان عبثا ، وأن المحطة التى وصلنا إليها لم تكن هى المقصودة من الرحلة !

فلتكن إذن لحظة صدق ..

نتوقف عندها قليلا ..

لنختبر مشاعرنا ، ونتحقق من مواقع أقدامنا .\

حامد طاهر

1989

التعليقات (0)Add Comment

أضف تعليق
تصغير | تكبير

busy